تونس: هل بدأ الغضب الشعبي على ديكتاتورية بن علي؟
من يصدق أن ينتفض سكان مدينة بحجم سيدي بوزيد ضد النظام التونسي، وضد البطالة والتهميش والشعور بالذل الذي ظل يرافق التونسيون طوال سنوات؟ تونس الهادئة في المنظور الاستراتيجي والدولي، تبدو قابلة للانفجار، إن لم نقل للعصيان.. ؟
من يصدق أن ينتفض سكان مدينة بحجم سيدي بوزيد ضد النظام التونسي، وضد
البطالة والتهميش والشعور بالذل الذي ظل يرافق التونسيون طوال سنوات؟
تونس الهادئة في المنظور الاستراتيجي والدولي، تبدو قابلة للانفجار،
إن لم نقل للعصيان، ليس لأسباب راديكالية كما قد يسوّق النظام التونسي
عبر إعلامه المرئي والمكتوب والمسموع، بل لأسباب إنسانية، لأن المواطن
التونسي وصلت به السكين إلى العظم !
عندما وصل الرئيس التونسي زين العابدين بن علي إلى سدة الحكم في
البلاد، قال كلمته الشهيرة في أهم خطبة قادته إلى الحكم كبديل لنظام
الحبيب بورقيبة المريض ومنخور القوى (في ظل التضييق على الإسلاميين
منذ الاستقلال)، قيل وقتها أن هذه الشخصية العسكرية المسماة زين
العابدين بن علي سيكون الشخص الذي سيعطي للتونسيين الحق في التداول
على السلطة وفي المساواة إزاء المداخيل الاقتصادية وأمام القانون،
والحال أن بن علي كان أكثر الشخصيات انتقادا لسابقه الحبيب بورقيبة
الذي "أخذ البلاد في طريقه" على حد تعبيره، واصفا فكرة "الحكم المطلق
والدائم" بأنه سياسة مرضية (من المرض) وأن الذي يحلم بالحكم مدى
الحياة إنسان غير سوي، بل ويعاني من عقدة نفسية خطيرة (كما جاء في
حوار أجرته معه وقتها مجلة "باري ماتش" الفرنسية) ! وعندما وصل بن علي
إلى الحكم، تغيرت الكثير من الرؤى السياسية داخل البلاد من السيئ إلى
الأسوأ، والكارثي، فبدلا من التداول الفعلي على الممارسة السياسية
وفتح البلاد على الحوار، والبحث عن الحلول العميقة والتاريخية
المتفشية في البلاد، وإعطاء الشعب حقوقه المدنية الأبسط كحقه في العمل
وحقه في التدين، سارع إلى تغيير الكثير من القوانين، وانتهى به الأمر
إلى البقاء في السلطة جيلا بعد جيل ! بل وذهب الأمر إلى سجن أحد
المرشحين السابقين الذين تجرأ وترشح كمنافس له، كانت نهاية ذلك
المسكين مستشفى الأمراض العقلية كما قالت صحيفة" لوسوار" البلجيكية
لتصف أن كل من يتجرأ على منافسة بن علي وعقيلته على الحكم ينتهي إما
إلى المؤبد أو في مستشفى الأمراض العقلية وإلى الأبد أيضا !
تونس التي كانت مرشحة للتغيير الإيجابي، للتنمية العملية والفعلية
بحكم الموقع الاستراتيجي المهم، تحولت إلى معتقل سياسي كبير، عدد
سجونها ومعتقليها أكبر من عدد المحررين، كانت أخطر انتهاكاتها تلك
التي وجهت مباشرة ضد الشريعة الإسلامية، وضد الحجاب، وضد الفكر
الإسلامي الذي يصفه النافذين في الحكم بالفكر المتطرف، رابطين آليا
بين الإسلام وبين الإرهاب بكل ما تعنيه الكلمة من انسداد جعل
التونسيون يعيشون سنوات العبث السياسي والعبث الاجتماعي والعبث
القانوني تحت سقف "دولة الحريات المطلقة" !
بوادر الانفجار !
ما يجري في تونس اليوم، حدث في الحقيقة في السبعينات من القرن
الماضي، عندما انتفض سكان بعض مدن الجنوب (مثل مدينة الكاف) ضد نظام
الحكم، وضد الفقر المزري والتهميش الرهيب الذي مارسه الحبيب بورقيبة
المؤسس الأول للدولة التونسية العلمانية المبنية على فكر"المزرعة
الخاصة" والتي حولت الدولة إلى شيء خاص جدا يدخل في سياق الممتلكات
الخاصة، ولا شك أنه فكر عربي في النهاية، وأن العديد من النظم العربية
الراهنة تمارس هذه الثقافة على شعوبها، لكن الذي يبدو مختلفا أن تونس
دولة صغيرة من الناحية الجغرافية، وعدد سكانها أقل بكثير من دول
الجوار على سبيل المثال، وبالتالي فإن احتواء المشاكل الداخلية في
دولة صغيرة يظل أسهل تنظيريا من فعل ذلك مع الدول الكبيرة حجما
وديموغرافية، على اعتبار أن المدخول التونسي من السياحة على سبيل
المثال يكفي لتوظيف العاطلين عن العمل، ناهيك عن إيرادات أخرى تحصل
عليها تونس في إطار شراكتها مع دول مغاربية، وأفريقية وأوروبية،
وناهيك على أن تونس العضو الفعال في هيئة ساركوزي المتوسطية (في
الخطاب الذي ألقاه ساركوزي في افتتاح الاتحاد من أجل المتوسط نوه بشكل
مباشر في الدور الذي تلعبه تونس كدولة ديمقراطية في شمال أفريقيا !!)،
كما استطاعت تونس ان تحصل على مساعدات مادية كبيرة (بملايين
الدولارات) من دول "تشجع الانفتاح المغاربي على إسرائيل"، بل وكشفت
بعض الصحف الأوروبية (لودروا الكندية) أن إسرائيل مقابل بيع منتجاتها
في الأسواق الأفريقية والشمال افريقية، منحت للدول المعنية (تونس
منها) مساعدات مادية كبيرة، مقابل أن تبيع منتجات إسرائيلية تحت تسمية
"صنع في فرنسا" لسهولة توزيعه في تونس وأسواق مغاربية أخرى، بل وبعض
المنتجات الإسرائيلية كانت تخرج من مؤسسات تجارية خاصة تحت صبغة (صنع
في تونس) لتداولها في أسواق مغاربية ( ليبيا بالخصوص) وكذلك في
الجزائر والمغرب وموريتانيا !
ما حدث كان دائما متجاوزا للمخيلة العادية، إذ أن البحث عن المنافع
المادية ظل مرتبطا بما كانت تسعى إليه السلطة الحاكمة في البلاد، حيث
كشف أحد الإعلاميين الفرنسيين في أحد الكتب الذي أثار جدالا كبيرا
متناولا نظام الحكم في تونس، وخصوصا الدور الرهيب الذي تلعبه السيدة
الأولى في البلاد، كشف فيه أن الرئيس التونسي ذكر في إحدى المناسبات
التي جمعته بشخصية سياسية فرنسية أنه مستعد للتنازل عن السلطة مقابل
ما يمكن أن يحصل عليه من حوافز لأجل الانسحاب ( !)، والغريب أنه بعد
مضي كل هذه السنين، ورغم ما جمعه من أموال كثيرة لا يبدو مستعدا
للتنازل عن السلطة، لأن مافيا الحكم في البلاد لن تستطيع أن تحتمي في
غياب سلطة فاسدة، ولأن تلك المافيا يرأسها آليا المقربين من رأس
الحكم، وهم اليوم منتشرون في أهم القطاعات الحساسة بمن فيها المؤسسة
العسكرية !
ثورة الخبز !
السؤال الذي يجب طرحه اليوم ليس هل ينجح الغضب الشعبي الراهن في
الإطاحة بنظام مستبد كالنظام التونسي، بل ما مدى استعداد المجتمع
الغربي (الأوروبي والإسرائيلي) على دعم النظام التونسي لأجل حمايته من
أي زلزال شعبي داخلي، فعلى الرغم من انتقاد الدول الغربية لتونس
ولديكتاتورية زعيمها وغياب الحريات العامة في البلاد، إلا أن الغرب
يشهد أن تونس في ظل نظامها الديكتاتوري الراهن أقرب نفعيا للدول
الغربية، بل وأن اليهود الذين يزورون جزيرة جربة التونسية واستطاعوا
أن يؤسسوا قوة اقتصادية يهودية رهيبة هناك تدعم إسرائيل مباشرة،
ويعتقد أن ثمة نشاط استخباراتي إسرائيلي كبير هناك لمراقبة الدول
المجاورة) لن يسمحوا بسقوط نظام استطاع أن يصنع سلاما لليهود،
وللمصالح الاقتصادية في المنقطة، حتى لو كان نظامها ديكتاتوريا
ومتعفنا، ففي غياب البديل (كما قالت لوسوار البلجيكية) يبدو الغرب غير
مستعد على التنازل عن بن علي، بل ونصحه بعضهم بضرورة الترشح لعهدة
رئاسية جديدة تدخله آليا إلى غينيس للأرقام القياسية (إلى جانب كذا
رئيس عربي طويل العمر) ! لقد لعب الغرب الدور المنافق دائما في تعاطيه
مع إشكالية الديمقراطية المفتقدة في الدول العربية، بحيث أن
الديمقراطية نفسها تحولت إلى شفرة لمزيد من الديكتاتورية التي تضمن
مصالح الغرب، بما في ذلك المصالح الأمنية، والتي تنعكس آليا على
الإسرائيليين الذين يدخلون للدول العربية بجوازات السفر الأوروبية
(صحيفة هارتيس ذكرت أن عدد اليهود الذين يتواجدون في الدول العربية
(بمن فيها الأكثر تغنيا بالقومية) لا يعد ولا يحصى، خصوصا وأنهم
يحملون جوازات سفر غربية سمحت لهم ببناء مشاريع جيدة في تلك الدول،
ويمكن الاعتماد عليهم عندما يحتاج إليهم الوطن الأم (....) !
وهذا كلام الصحيفة الصهيونية، مع ذلك، مع كل ما فعله النظام في تونس
لأجل تأمين مصالحه ومصالح أصحابه وأحبابه بموجب قدرته على تدمير
البنية الدينية والفكرية والثقافية والاجتماعية والنفسية للمجتمع
التونسي، لم يتذكر أن ثمة شعب تونسي يعيش على المحك، وأن البطالة أدت
إلى انتشار الجريمة، وأن الوضع الداخلي في تونس يبدو خطيرا فعلا، حتى
لو استطاع النظام كتم أصوات الشعب لسنوات عبر الإرهاب السياسي، فإن
الواقع يظل خطيرا، بحيث من الصعب بمكان منع التونسيين من الصراخ ومن
الغضب، بدليل أن الغضب الذي بدأ في مدينة سيدي بوزيد انتقل إلى
العاصمة التونسية، ودخلت في خطه نقابات عمالية لم يعد بإمكانها البقاء
على هامش الخوف بعد أن سقط ضحايا أبرياء برصاص الأمن التونسي، والحال
أن الأيام القادمة تبدو غامضة، ليس لأن النظام التونسي يبدو عاجزا عن
قتل الشعب كله مقابل بقائه كنظام حاكم بالقوة، بل إزاء الشعب التونسي
الذي استطاع أن يتجاوز حاجز الخوف لأول مرة منذ سنوات، وهذا بحد ذاته
مؤشر جديد يوحي أن التونسيين لم يعد بوسعهم التنازل أكثر مما تنازلوا،
فقد تنازلوا عن حقوقهم (التي نهبها الحاكم وأبناؤه وأحفاده)، وتنازلوا
عن كرامتهم المهدرة في أقسام الشرطة وفي المحاكم وفي المؤسسات
الإدارية، ولكن يصعب التنازل اليوم عن ذلك الحق الأبسط في الإبقاء عن
ماء الوجه، والذي يبدأ اليوم بالحق في الغضب، ولو من باب القول أن
الرصاصة التي تطلق من مسدس الشعب، تصم آذان الأطرش، حتى لو كان اسمه
"النظام التونسي" المتجبر على البلاد والعباد !
- التصنيف: