مع القرآن - "وَمَا لَنَا أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا"
اعلم أن الرسل عليهم الصلاة والسلام توكلهم في أعلى المطالب وأشرف المراتب وهو التوكل على الله في إقامة دينه ونصره وهداية عبيده وإزالة الضلال عنهم وهذا أكمل ما يكون من التوكل
واجه الرسل دعوى من عاندوهم واعترضوا على كونهم بشر بالإيجاب والإقرار بأنهم بشر، فالله أعلى وأكبر من أن ينزل إليهم بذاته العلية وإلا لقال لهم كونوا مؤمنين وانتهى الأمر، وإنما هو الابتلاء والاختبار للجميع: اختبر الله رسله وأنبياءه بالرسالة والاجتباء والتشريف بتبليغها واختبر الأمم بوجوب التصديق والاتباع، فمنهم من صدق واتبع ومنهم من عاند كلمة الله وأعرض عنها.
أما الرسل وأتباعهم فسلاحهم إيمانهم الراسخ وتوكلهم الشديد على ربهم الذي أنعم عليهم بالهدية والبصيرة النافذة التي قادتهم لإبصار الحق والهدى، فكيف لا يتوكلون على من أنار طريقهم.
{قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَمَا لَنَا أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم: 11- 12].
قال السعدي في تفسيره: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ} مجيبين عن اقتراحهم واعتراضهم: {إِنْ نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} أي: صحيح وحقيقة أنا بشر مثلكم، {وَلَكِن} ليس في ذلك ما يدفع ما جئنا به من الحق فإن {اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} فإذا من الله علينا بوحيه ورسالته، فذلك فضله وإحسانه، وليس لأحد أن يحجر على الله فضله ويمنعه من تفضله.
فانظروا ما جئناكم به فإن كان حقا فاقبلوه وإن كان غير ذلك فردوه و لا تجعلوا حالنا حجة لكم على رد ما جئناكم به، وقولكم: {فَأتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} فإن هذا ليس بأيدينا وليس لنا من الأمر شيء.
{وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} فهو الذي إن شاء جاءكم به، وإن شاء لم يأتكم به وهو لا يفعل إلا ما هو مقتضى حكمته ورحمته، {وَعَلَى اللَّهِ} لا على غيره {فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} فيعتمدون عليه في جلب مصالحهم ودفع مضارهم لعلمهم بتمام كفايته وكمال قدرته وعميم إحسانه، ويثقون به في تيسير ذلك وبحسب ما معهم من الإيمان يكون توكلهم.
فعلم بهذا وجوب التوكل، وأنه من لوازم الإيمان، ومن العبادات الكبار التي يحبها الله ويرضاها، لتوقف سائر العبادات عليه، {وَمَا لَنَا أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا}.
أي: أي شيء يمنعنا من التوكل على الله والحال أننا على الحق والهدى، ومن كان على الحق والهدى فإن هداه يوجب له تمام التوكل، وكذلك ما يعلم من أن الله متكفل بمعونة المهتدي وكفايته، يدعو إلى ذلك، بخلاف من لم يكن على الحق والهدى، فإنه ليس ضامنا على الله، فإن حاله مناقضة لحال المتوكل.
وفي هذا كالإشارة من الرسل عليهم الصلاة والسلام لقومهم بآية عظيمة، وهو أن قومهم -في الغالب- لهم القهر والغلبة عليهم، فتحدتهم رسلهم بأنهم متوكلون على الله، في دفع كيدكم ومكركم، وجازمون بكفايته إياهم، وقد كفاهم الله شرهم مع حرصهم على إتلافهم وإطفاء ما معهم من الحق، فيكون هذا كقول نوح لقومه: {يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّـهِ فَعَلَى اللَّـهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ} الآيات [يونس جزء من الآية: 71].
وقول هود عليه السلام قال: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّـهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ ۖ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ} [هود جزء من الآية: 54، 55].
{وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا} أي ولنستمرن على دعوتكم ووعظكم وتذكيركم ولا نبالي بما يأتينا منكم من الأذى فإنا سنوطن أنفسنا على ما ينالنا منكم من الأذى احتسابا للأجر ونصحا لكم لعل الله أن يهديكم مع كثرة التذكير.
{وَعَلَى اللَّهِ} وحده لا على غيره {فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} فإن التوكل عليه مفتاح لكل خير.
واعلم أن الرسل عليهم الصلاة والسلام توكلهم في أعلى المطالب وأشرف المراتب وهو التوكل على الله في إقامة دينه ونصره وهداية عبيده وإزالة الضلال عنهم وهذا أكمل ما يكون من التوكل
#مع_القرآن
أبو الهيثم محمد درويش
دكتوراه المناهج وطرق التدريس في تخصص تكنولوجيا التعليم من كلية التربية بجامعة طنطا بمصر.
- التصنيف:
- المصدر: