الداعية المكلوم
إن الذي لا يفرح بالمصيبة، لما يرجو من كفارة الخطايا تقول الملائكة: داويناه فلم يبرأ!
حين يكون الداعية محط الأنظار يصبح حيز واسع من حياته، وقدر كبير من تصرفاته وردود أفعاله في دائرة الضوء.
يستوثق بها المتتبع من مطابقة قول الداعية فعله، وتخلقه بما يدعو الناس إليه، كما يتحين من خلالها الخصم والعدو ما يتخذه غرضا للطعن والهمز واللمز، وتحطيم جسر الثقة الذي يجهد الداعي في سبيل وصله وتمتينه.
لذا حين تُلم بالداعية محنة أو فجيعة فينبغي لحِسه الدعوي أن يظل متيقظًا، ولنفسه التي بين جنبيه أن تكتم ما يُظهره العامة من الشكوى والألم.
وليس في الأمر إخراجٌ له من نطاق البشرية الموسومة بالضعف والعجز، لكنها لوازم مسؤوليته الدعوية وما تفرضه من اقتفاء أثر الأنبياء شِبرًا بشبر، وذراعًا بذراع!.
للشيخ محمد الغزالي كلام نفيس في تحديد المسافة الفاصلة بين الداعية وسائر الناس، حين تتخلل حياته ما اقتضته المشيئة من مُلمات الدهر ونوائبه. يقول رحمه الله :"إن الدعاة الذين يكرسون أوقاتهم لله، ولدفع الناس إلى سبيله، لابد أن يكون شعورهم بالله أعمق، وارتباطهم به أوثق، وشغلهم به أدوم، ورقابتهم له أوضح، أي إنهم إذا هبطوا من مجال الضوء المشرق، فإلى قريبٍ منه، إلى منطقة شبه الظل كما يقال. أما إذا سقطوا في عتمة، فإن ذلك أمر لا تتحمله وظيفتهم "(1). وعلى ضوء هذا الكلام تقاس أحوال الدعاة اليوم، خاصةً أمام اتساعٍ واضحٍ لمساحة القول، وانكماشٍ بَيّن للأثر ووازع الاقتداء.
ينص الحديث الشريف على أن شدة البلاء متعلقة بتفاوت المراتب. لذا كانت حياة الأنبياء عليهم السلام تجليًا لصور البلاء و المكابدة الدائمة، لأجل التمكين لنور الحق وسط ظلمات الجهل والشرك والطغيان. روى الترمذي في كتاب الزهد من حديث مصعب بن سعد عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال: «الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل. يُبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة». (الترمذي:2398).
وحقيقة أن الرجل يُبتلى على حسب دينه تقررها شواهد التاريخ وأحداثه، فما من عالمٍ أو داعيةٍ تفرغ لخدمة الحق والسير الحثيث إلى الله إلا وقابلته صنوف البلاء وألوان المشاق التي تمتحن صبره وإيمانه، وتقدم للناس من جهة أخرى نماذج يُحتذى بها في رفع الهمم واقتحام العقبة.
ولا أعني هنا البلايا المعلومة التي يشترك فيها مع غيره، كالمرض وفراق الأحبة وضيق الحال، فتلك صنوف تُلزمه أن يكون قدوةً لغيره عند حلولها، وإنما أعني ما ينشأ عن وظيفته ومرتبته من ضروب الامتحان القاسي، كغضبٍ أولي الأمر، وحرق المصنفات أو منع تداولها، والحؤول بينه وبين الناس إما بحبسٍ أو نفيٍ أو إقامةٍ جبرية!، ذاك هو البلاء الذي يقصم الظهر أو يشحذ الهمة، بحسب ما أوتي الداعية من تبصرٍ ووعيٍ باللحظة، وقدرةٍ على مجاوزة الألم الخاص ومعاناة الذات في سبيل ما يؤمن به ويدعو إليه.
كان أبو الفرج بن الجوزي (511-597 هـ) فريد عصره في الوعظ والدعوة إلى الله، وتأليف قلوب الناس حول الكتاب والسنة في زمنٍ ضجت فيه أرض العراق بالفتن. وبلغ من شهرة مجالسه الوعظية أن حضرها الخلفاء و الوزراء والعلماء، وغصت لها صحون المساجد بآلاف الخلق الذين أسلم مُشركهم، وجدد مذنبهم توبته بين يديه. كما أوتي رحمه الله قبولًا وهيبةً وإقبالًا عجيبًا على مطالعة كل العلوم والتصنيف فيها دون كلل، حتى قال الحافظ الذهبي: ما علمت أن أحدًا من العلماء صَنف ما صنف هذا الرجل!.
وكغيره من دعاة الأمة وعلمائها الأفذاذ فقد شابت مساره الدعوي ألوان البلايا والمحن التي تلقاها بما يليق بمثله من صبرٍ ورضى، وتلمس لدقائق الحكمة الإلهية في طياتها.
ابتلي الشيخ بغرق مكتبته وضياع معظم كتبه في طوفان بغداد العظيم سنة 554 هجرية. وتلك نكبةٌ لا يدرك وقعها على النفس إلا المولع بالكتب قراءةً وجمعًا وتصنيفًا. وابتلي في نفس السنة بموت ابنه عبد العزيز مسمومًا، وقد كان يقتفي خُطى والده في التفقه والوعظ حتى حصل له القبول التام. ويقال أن ناسًا حسدوه على مرتبته تلك فدسوا إليه من سقاه السُم وهو بالموصل.
وفي أواخر عمره دُبرت له مكيدةٌ بسبب سخطه على الروافض والزنادقة، وإحراق كتبهم التي تسيء للعقيدة وتطعن في ثوابت الأمة بموافقة الخليفة، خاصةً كتب الركن عبد السلام بن عبد القادر الجيلي. فلما تولى خبيثٌ منهم الوزارة في عهد الخليفة الناصر، حرص على النيل منه والتحريض ضده حتى أصدر الخليفة أمرًا بنفيه إلى واسط، حيث أقام في السجن خمس سنين يخدم نفسه بنفسه وقد ناهز الثمانين!.
كما ابتلي رحمه الله بابنه أبي القاسم علي الذي بادره بالعقوق، وترك سبيل العلم والوعظ الذي ارتضاه أبوه ليغرق في اللهو والخلاعة ومصاحبة المفسدين. وبلغ به الأمر أن شارك في التأليب على أبيه في محنته الشهيرة، وسطا على مؤلفاته فباعها بأبخس ثمن! وأبو القاسم هذا هو الذي خصه ابن الجوزي بوصيةٍ نافعة سماها " لفتة الكبد إلى نصيحة الولد "، يحثه فيها على تجديد الصلة بمشواره العلمي، ويُضمنها قواعد تربوية سديدة ونتفًا من سيرته في طلب العلم . غير أن الإبن عاند ولم يستجب، فاضطر ابن الجوزي إلى هجره ومقاطعته، بل ذهب ابن النجار إلى أنه كان يدعو عليه كل ليلةٍ وقت السحر!(2)
لاشك أن ما لقيه ابن الجوزي من محنٍ يقف خلف استعراضه للأمر من زوايا مختلفة. صحيح أنها وردت متفرقة في ثنايا بعض مواعظه وخواطره، لكن لو تم تجميعها لتبين حرصه على التقاط كم من الإشارات واللطائف المصاحبة للبلاء. وهنا يكون للحس الدعوي دوره في استثمار المحن لبلوغ فهم متجدد لمضمون آية قرآنية أو حديث شريف.
خص ابن الجوزي، في كتابه "صيد الخاطر "، سُنة الابتلاء بفصولٍ متفرقة تؤكد براعته في التقاط معان] متخفيةٍ، ورسائل ثاوية في طياتٍ كل بلية. بل إن عبارات بعينها تؤسس لما يمكن أن نعتبره أدب المسلم في المحن، و ضوابط التلقي الوجداني لما اقتضته المشيئة.
إن لحظة وقوع البلاء هي محك الإيمان و الدليل على قدره وقوته. فالمؤمن الحق من إذا اشتد البلاء قوي تسليمه ولم يتغير قلبه. وكل اعتراضٍ يخالج نفسه فهو إيذانٌ بخروجه من مقام العبودية إلى مقام المعارضة كما جرى لإبليس. لذا ينبغي عليه في محنته أن "يراعي الساعات، ويتفقد فيها أحوال النفس، ويتلمح الجوارح، مخافة أن يبدو من اللسان كلمة، أو من القلب تسخط " (3).
وأما من رام التخفيف من وقع البلية، فليتصور نزول أعظم منها، وليتخيل ثوابها وأجر احتمالها حتى تطمئن النفس فلا تجزع.
لأن البلاء على قدر الرجال، يتفاوت بتفاوت الهمم. وأما رضى آخرين بما عندهم فهو " دليلٌ على أنهم لم يُرادوا لمقامات الصبر الرفيعة، أو لأن الله تعالى علم ضعفهم عن مقاومة البلاء فلطف بهم. "(4)
إن البلاء المحض هو ما يشغل المرء عن ربه، أما ما يحمله على التضرع والدعاء وطرق الباب ففيه الخير العميم الذي تذهل عنه العقول حال الصدمة. إنه بمعنى آخر عطاء يستلزم الصبر على تأخير الإجابة ومخالفة المراد.
حين يتلمس المسلم ببصيرته ما في طيات المحن من رسائل وإشارات إلهية، يستوي لديه العطاء والبلاء لأنهما في الحقيقة وجهان لعملةٍ واحدة قوامها: اللطف الإلهي. لكن،هل يعني ذلك ألا وجود لمحنة حقيقية يعتصر لها القلب المتيقظ ألمًا وأسى؟ يرد ابن الجوزي قائلاً : "إنما المحنة العظمى أن تُرزق همةً عاليةً لا تقنع منك إلا بتحقيق الورع، وتجويد الدين، وكمال العلم، ثم تبتلي بنفسٍ تميل إلى المباحات "(5).
في كتابه " النصائح الدينية والنفحات القدسية " يُذيل الإمام الحارث المحاسبي حديثه عن البلاء بقولٍ مأثور عن بعض أهل العلم، يُكثف على نحوٍ بليغ ما يُعوزنا اليوم من فهم متجدد وأصيل لما ينطوي عليه القدر من بلايا:
إن الذي لا يفرح بالمصيبة، لما يرجو من كفارة الخطايا تقول الملائكة: داويناه فلم يبرأ!
ـــــــــــــــــــــــــ
1- الشيخ محمد الغزالي. مع الله، دراسات في الدعوة و الدعاة. ص151
2- شمس الدين الذهبي. سير أعلام النبلاء. ج22/353
3- أبو الفرج بن الجوزي. صيد الخاطر. ص 69
4- صيد الخاطر. ص 205
5- صيد الخاطر. ص 205
- التصنيف: