الطاغية السّيْكُوباتْ

منذ 2011-02-16

لا بد من طرد الحزب الوطني من مقراته المُغتصَبة.. وإعادتها إلى ملكية الشعب.. وتقديم قياداته الذين أفسدوا الحياة السياسية في مصر ثلاثين عاما.. وشاركوا في نهب المال العام واغتصاب أرض الدولة.. وقضوا على أحزاب المعارضة ...



كان عنيدا متصلِّبا كذّابا لآخر لحظة.. تطلّع شعبه إليه أن ينطق بعبارة واحدة: "أنا آسف.. سأنزل عند رغبتكم وأنسحب.." ولكنه أبى أن ينطق بها.. مع أنه كان يعلم أنه مكروه مرفوض من شعبه، وكان على يقين أن ساعة رحيله قد أزفت ولكنه رفض أن يصدّق الحقيقة، أو يستسلم للواقع.. بل أنكر كل ما يرى ويسمع، وأهم من كل شيء كان تتملّكه رغبة شيطانية أن يعذّب شعبه لآخر لحظة، فلا يبعث ذرة من الأمل في نفوس الملايين من الناس، الذين باتوا في العراء لم تغمض جفونهم لحظة من ليل أو نهار، على مدى سبعة عشر يوما.. كأنه كان حريصا على أن يحرمهم حتى من لحظة فرح ترطب قلوبهم..

أعتذر مقدّما عن اضطراري لاستخدام مصطلح أجنبيّ في عنوان هذا المقال، فلم أجد مصطلحا موازيا في قواميس مصطلحات علم النفس العربية، ولم أجد سوى كتاب واحد باللغة العربية في هذا الموضوع للدكتور صبري جرجس بعنوان: "مشكلة السلوك السيكوباتي..." نشرته دار المعارف سنة 1949.. رغم أن الموضوع تطوّر كثيرا في الثمانيات من القرن الماضي.. وظهرت دراسات كثيرة من أبرزها دراسات روبرت هير، التي اشتقت منها السمات العشرين الأساسية للشخصية السيكوباتية.. إذا تأملتها جيدا تصاب بالذهول لأنها جميعا وبلا استثناء تتمثّل في شخصية هذا الرئيس المخلوع.. فهل يصدّق أحد أن هذا البلد العظيم، وهذا الشعب العظيم كان يحكمه ثلاثين عاما "سـيْكوبات" كبير..


يقول علماء النفس: "إن السيكوبات هو أخطر وأكبر مشكلة من مشكلات الخبرة النفسية الإنسانية على الإطلاق" لقد تحيّروا طويلا في تصنيفه: هل هو مجنون غير مدرك لما يفعل؟! أم هو مريض نفسي يعانى من آلام وأوجاع ليس لها سبب عضوي؟! إن السيكوبات ليس مجنونا فيُعذر.. ولا هو مريض نفسيّ فيستحق الشفقة والتعاطف.. إنما هو مصاب بنوع آخر من الاضطراب العميق في نسيج شخصيته.. تعدّدت النظريات في تفسيرها.. بعضهم ينسبه إلى خلل في الجينات الوراثية، ويصفه بعض المفكرين المعنيين بدراسة سلوك السيكوبات بأنه الشيطان على الأرض.. عجز الطب أن يجد له علاجا أو دواءًا حتى هذه اللحظة..

ثم تصور أن رجلا من هذا النوع كان يحكم مصر لثلاثين عاما من الزمن.. ثلاثين عاما من عمر مصر وعمر الشعب المصري ضاعت هباء.. بينما الشعوب الحرة من حولنا تتطوّر.. وتصنع معجزات.. وانظر في هذا إلى كوريا الجنوبية وماليزيا، والبرازيل.. وانظر إلى تركيا التي تحولت في أقل من عشر سنوات إلى ما تحولت إليه...


إن السيكوبات لا يؤمن بأي قيمة إنسانية.. ويمضى حياته متربصا بالفرائس البشرية تسقط في قبضته واحدة بعد أخرى.. لا تتطرق إليه مشاعر الخجل أو الأسف أو الندم أو الرحمة.. ولا يزدهر إلا في محيط من البشر.. لا يسعد بهم كأصدقاء أو رفقاء، وإنما ينظر إليهم كأدوات وأشياء يستخدمها لتحقيق مآربه الشخصية، و يستعذب التلاعب بهم..

ورغم افتقاره هو للمشاعر الإنسانية، يحلو له أن يتلاعب بمشاعر الآخرين.. ولكنه يمارس هذه اللعبة بسطحية الممثل الفاشل، فلا يلمس بقصصه المزيفة إلا المشاعر السطحية.. إنه يكرر الخطأ مرة بعد مرة ولا يتعلم أبدا من أخطائه.. فإذا وُجّه إليه نقد أو لوم تجدْه إما أن يلجأ إلى التبرير، أو يلقى باللوم على آخرين أو ينكر الواقعة إنكارا تاما كأنها لم تحدث... تذكر في هذا الصدد آخر انتخابات لمجلس الشعب.. وقد تم تزويرها بالكامل وصدرت في ذلك أحكام قضائية.. فإذا به يخرج على الناس ليقول متبجّحا: "لقد كانت انتخابات سليمة لا شائبة فيها!" وإذا قيل له إن الشعب لا يجد الخبز لقوته اليومي يقول: أعمل إيه.. الناس بتخلّف كتير! فهو لا يمكن أن يعترف بفساد إدارته.. ولا بنهب ثروة الشعب..

من سمات السيكوباتى أنه شديد الأنانية، لا يرى في العالم إلا ذاته المتضخمة، ويستخدم العنف في السيطرة على الآخرين.. دائم التوبيخ لهم.. فاقد الضمير لا يحاسب نفسه على خطأ ارتكبه.. ولا يشعر بوخز الضمير أبدا، بل يرى في نفسه كائنا معصوما من الخطأ.. يبرر كل أخطائه وجرائمه بآليات عقلية استعصى على العلماء سبر أغوارها...


إنه سريع الملل في حاجة دائما إلى أحداث مثيرة.. لذلك تسعده الكوارث الإنسانية: كنيسة تنفجر، مسرح يحترق على من فيه، قطار يحترق بركابه، سفينة تغرق بحمولتها من البشر، حريق مجلس الشورى، كلها جرائم تخططها وتنفّذها له أجهزته الأمنية.. فهو يتلذّذ بعذابات البشر، ويحب أن يسمع أصواتهم تجأر بالشكوى إليه والاستنجاد به.


يتوق الشعب إلى أن يطوى صفحاته السوداء إلى الأبد.. وكنت أحب ذلك معهم.. ولكنني أردت أن أنبه فقط إلى أن أمثال هذا السيكوبات لا يزالون موجودين على الساحة متربصين للفرصة السانحة للانقضاض على الفريسة إذا غفلت لحظة.. لذلك أحذّر أبنائي وبناتي من الثوار الذين أطلقوا شرارة الثورة أن تغفل أعينهم طرفة عين، وأضع أمامهم بعض نقاط خطر تواجههم، ولا بد أن يتنبّهوا إليها.. أضعها أمام الثوار للتأمل والدراسة الجادة والمناقشة العميقة:

أولا: لقد أصدر المجلس العسكري اليوم الثالث عشر من فبراير 2011 بيانا بحل مجلسي الشعب والشورى.. نشكره على ذلك... ولكن الناس يتلهّفون على شيء آخر: إصدار بيان بإلغاء قانون الطوارئ فورا.. وإسقاط جميع الأحكام التي أصدرتها المحاكم العسكرية ضد المواطنين المدنيين.. والإفراج عن جميع المسجونين والمعتقلين السياسيين.. بدون قيد ولا شرط.


ثانيا: لا معنى إطلاقا لبقاء الحكومة التي شكلها الطاغية المخلوع، تحت أي اسم.. لا يريد الشعب أن يرى هذه الوجوه المقيتة بعد اليوم.... والعجيب أنهم حتى في اختيار الاسم لا تزال عقولهم مصبوبة في قوالب جامدة انتهى زمنها.. أليس هذا هو الاسم الذي أطلقه عباس على حكومة فياض في الضفة الغربية منذ عدة أعوام: (حكومة مؤقتة لتصريف الأعمال) ولا تزال مستمرة حتى هذه اللحظة؟! لا بد من إقامة حكومة مؤقتة من الرجال الشرفاء المخلصين المستقلين عن الأحزاب برئاسة رئيس المحكمة الدستورية العليا.. على أن يتم الاتفاق عليها مع قيادات شباب الثورة وأن يكون ضمن هذه الحكومة ممثلون عن هؤلاء الثوار..


ثالثا: لقد حذرت في مقال سابق من استمرار وجود قوات الأمن المركزي لأنها أداة خطرة، تغرى أي دكتاتور لاستخدامها مرة أخرى في إعادة الشعب إلى حظيرة العبودية.. واقترحت الإسراع بتفكيكها، ووضعها تحت السيطرة.. ثم في مرحلة تالية يُعاد تأهيل أفرادها عقليا ومهنيا لزراعة أرض سيناء وإقامة نهضة صناعية بها.. إنه مشروع وطني كبير يجب أن تتضافر على إنجازه فئات من الخبراء والمتطوعين.. وأن يساهم فيه المصريون المخلصون من رجال الزراعة والصناعة بالمال والخبرة الميدانية..


رابعا: أنبه إلى أن جهاز مباحث أمن الدولة وهو العقل الذي يدير قوات الأمن المركزي، شديد الخطورة، فهو أمن الدولة بالاسم فقط.. ولكنه ومدرّب لحماية رأس السلطة، ولا علاقة له بأمن الدولة ولا بأمن الشعب.. بل إنه مكيّف تكييفا عقليا ونفسيا ضد هذا الشعب وضد حريته وتطلّعاته، ويُكِــنُّ عداء شديدا لقيمه الدينية والأخلاقية ويحتقر كل ما يتصل بهويّة هذا الشعب.. فقد تدرب هؤلاء وفقا لخطط وبرامج مدرسة السفّاحين الأمريكية ومن هؤلاء يوجد الآن محققون في مراكز مباحث أمن الدولة المنتشرة في مصر..

إن وزارة الداخلية بحكم تاريخها وتركيبتها وتوجّهاته النفسية والعقلية كأداة لقمع الشعب ومصادرة حرياته وامتهان كرامته، وسجلها الحافل بالتعذيب والقتل.. يجب النظر في إعادة تنظيمها وتطهيرها من الفساد والمفسدين، ومن وتجار المخدرات من الضباط الكبار الذين يزوّدون ويحمون مئات الأكشاك المنتشرة في أرجاء القاهرة خصوصا حول الأندية الرياضية والمدارس.. حيث يجتمع مئات من الشبان الضائعين يدخنون الحشيش والبانجو على قارعة الطرقات..


خامسا: الأموال المنهوبة.. لا بد من مصادرتها وإعادتها إلى مالكها الحقيقي وهو الشعب.. لا أتطرق إلى الأساليب القانونية والإجراءات فهذه أمور يتولاها الخبراء المعنيون.. فقط أنبه إلى أن المخابرات الأمريكية قد أطلقت تصريحا له دلالته القصوى حيث قالت: إن ثروة مبارك وأسرته لا تزيد عن خمسة مليارات من الدولارات.. إنه نوع من التمويه.. دلالة ذلك عندي أن كلابهم قد انطلقت تشمشم عن هذه الثروة للتغطية عليها وابتلاعها في الظلام.. وهذا ما فعلته بثروة ماركوس وثروة الشاه.. فهذه الثروات المسروقة من الشعوب مآلها دائما أن تتقاسمها أجهزة المخابرات الغربية، فلا تُردّ إلى الشعوب المسروقة، ولا يستفيد بها الطغاة الأغبياء.. لقد نهب ماركوس من شعبه كنوزا من السبائك الذهبية قُدّرت قٌيمتها في الثمانينات من القرن الماضي بـاثنين وأربعين مليارا من الدولارات.. غير الأموال الأخرى التي أودعها في حسابات سرية بسويسرا.. كلها تحوّلت إلى خزائن المخابرات الأمريكية.. ولم يُسمح لزوجته إلا بخمسة عشر مليونا من الدولارات.. قالوا لها هذا مبلغ يكفيك حتى نهاية عمرك..

وآمل أن يتفرغ مجموعة من الخبراء المخلصين لجمع الحقائق والوثائق عن ثروة أسرة مبارك.. وملاحقتها لدى البنوك والحكومات بالدعاوى القضائية.. والإصرار على استعادة هذه الأموال إلى مصر..

ولكنني معني بصفة خاصة بالأموال المنهوبة التي لا تزال في أيدي بعض اللصوص الرأسماليين في مصر.. وأحذّر بشدة من أن ترك هذه الأموال في أيدي الطغمة الفاسدة تمنحهم القوة والفرصة لإفساد الحياة الديمقراطية الحرة التي يتطلع إليها الشعب الثائر.. فمثل هذه الطغمة كانت سببا في انحراف الديمقراطيات الكبرى.. حتى في بريطانيا.. فقد استطاعت أن تجنّد لها عملاء من مستوى رؤساء جمهوريات ورؤساء وزارة مثل توني بلير.. فما بالك ببلادنا المنكوبة بالبلطجية والمشردين.. ويكفي أن أربعين في المائة من السكان يعيشون تحت خط الفقر.. هؤلاء جميعا يجب وقايتهم من الغواية واتخاذ إجراءات فورية تمنحهم الأمل في معيشة أفضل وحياة إنسانية كريمة.. بزيادة مرتباتهم.. ورفع الحد الأدنى للأجور...


سادسا: لا بد من طرد الحزب الوطني من مقراته المُغتصَبة.. وإعادتها إلى ملكية الشعب.. وتقديم قياداته الذين أفسدوا الحياة السياسية في مصر ثلاثين عاما.. وشاركوا في نهب المال العام واغتصاب أرض الدولة.. وقضوا على أحزاب المعارضة ببث الفرقة وإشعال الفتن فيها وحظر نشاطها ومصادرة صحفها بالمخالفة للقانون.. كما فعلوا بصحيفة الشعب.. فقد عطلوا تنفيذ أحكام بحقها في العودة إلى الصدور بلغت عشرين حكما.. ووضعوا مجدي حسين رئيس تحريرها في السجن بتهم مزيفة..


سابعا: لا يكفي أبدا طرد الفقي من وزارة الإعلام بل يجب محاكمته على الفساد الذي انتشر في عهده ومحاكمته.. ومحاكمة سلفه المسمى بالشريف لجرائمه العديدة في حق الشعب المصري فهو الذي زرع بذور الفساد في أجهزة الإعلام وفي الحياة الحزبية ورعاها من أول يوم وضع قدمه في النظام البائد.. وقد كتب الدكتور حلمي مراد (عنه وعن فاروق حسني) في صحيفة الشعب مقالا في بداية الثمانيات من القرن الماضي يستغرب تعيين رجلين كل تاريخهما لا شرف فيه، ولا سواء.. وأمسك نفسي عن استكمال ما نسب إليهما من اتهامات.. لا أنكرها.. ولكنى أحيل الدارسين لمخازي عصر الدكتاتور المخلوع إلى أرشيف صحيفة الشعب...


ثامنا: إن حرية الإعلام لا يمكن الوصول إليها إلا بإلغاء وظيفة وزير الإعلام نهائيا فهي عائق أمام هذه الحرية، وكما ذكرت في مقال سابق: "إن أجهزة الإعلام بوضعها الراهن أداة خطيرة لتضليل الرأي العام، وإفساد الشباب، ويجب أن يستعيد الشعب ملكيتها لخدمة مصالحة المشروعة.. واستخدامها في تنمية وعى الجماهير، وتعليمهم.. وتطوير مهاراتهم المهنية والعقلية والوجدانية والفنية.. وانتشالهم من حالة الاسترخاء وعدم المبالاة.. إلى حالة العمل والنشاط والابتكار.. وبث الأمل والطموح في حياتهم إلى مستقبل أفضل.


15-02-2011 م
 

المصدر: محمد يوسف عدس - موقع المسلم
  • 0
  • 0
  • 5,060

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً