ولكن الله هزمهم
فى زحمة الأحداث ونشوة الانتصار، نسى كثير من الفضلاء أن يستفتحوا كلامهم ويصدروا مقالاتهم ومجالسهم بأن النصر من عند الله، وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم ...
الحمد لله رب العالمين، ناصر المؤمنين، وقاصم الجبارين، الذى قال
لدعوة المظلوم : وعزتي وجلالي لأنصرنكِ ولو بعد حين، وأشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له، الذى شفى قلوب المؤمنين، بنزعه الملك من
المجرمين، وجعل مآلاتهم إلى النبذ والزنازين، وأشهد أن محمداً عبده
ورسوله، الذى نصره ربه بالرعب، كما نصر به الثوار المجاهدين .
وبعد؛
فلإن كان شكر الناس من أخلاق المؤمنين، فإن شكر الله عز وجل أخلق
وأوجب وأولى، فهو المحمود سبحانه، وهو المستحق للشكر ـ عز وجل ـ، ولأن
كان الثوار ـ جزاهم الله بأحسن ما عنده ـ قدموا الدماء ، والعناء ،
وأحسنوا البلاء، لكن ما تحقق يفوق ما قدموه بألوف الأضعاف، وأنت نفسك
أخي الكريم لو قيل لك قبل اندلاع الثورة بيوم عن تصورك لأعداد ضحايا
إحداث تغيير بحجم ما أحدثته الثورة المباركة، فلا شك أن أرقام الضحايا
كانت ستكون بالألوف المؤلفة، إذن فما قدمه الثوار ـ شكر الله لهم
وتقبل موتاهم فى الشهداء ـ ليس هو الذى كتب لهذه الثورة النجاح، وليس
هو الذى أزاح الطغاة، وفضح المجرمين، وأسقط اللصوص، ولا هو الذى أحال
ليل مصر إلى نهار.
فى زحمة الأحداث ونشوة الانتصار، نسى كثير من الفضلاء أن يستفتحوا
كلامهم ويصدروا مقالاتهم ومجالسهم بأن النصر من عند الله، وأن الفضل
بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم .
أيها الثوار، كونوا على يقين لا يتزعزع أنكم والله ما رميتم إذ رميتم
ولكن والله ربكم الذى رمى، أيها الثوار كونوا على يقين راسخ أنكم
والله لم تهزموهم ولكن ربكم سبحانه هو الذى هزمهم، وأنكم لم تطردوهم
ولكن الله طردهم، وأنكم لم تفضحوهم ولكن الله سبحانه فضحهم ، وأذلهم،
وأهانهم و أنكم لم ترعبوهم ولكن الله ألقى فى قلوبهم الرعب، من بعد أن
كاد يزيغ قلوب فريق منكم .
يخربون بيوتهم وقصورهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولى
الأبصار، واعتبروا أيها الثوار، ولا تنسبوا لأنفسكم شيئاً قولوا
جميعاً فى نفس واحد وصوت واحد وبأعلى صوت : إن الفضل كله لله ، الله
الذى أتاهم من حيث لم يحتسبوا و الذى قذف فى قلوبهم الرعب، حين ظنوا
أنهم مانعتهم حصونهم من الله ، أيها الثوار، أحلف بالذي نصركم وثبت
أقدامكم وربط على قلوبكم، أنه ما كان لثورتكم المباركة أن تنجح ولا أن
تنتصر، لولا فضل الله عليكم ورحمته، هو الذى تولى ثورتكم بعنايته، وهو
الذى ألقى فى قلوبكم الشجاعة والقوة وثبت أقدامكم، وهو الذى ألقى
الرعب فى قلوب أعدائكم، وهو الذى ألقى فى قلوبهم اليأس والضعف والوهن،
هو سبحانه الذى قللهم فى أعينكم، وكثركم فى أعينهم.
والله ما نصرتكم شجاعة، ولا جرأة ولا حماسة، ولا عدد ولا عدة، بل
نصركم الله فى أيام التحرير، إن أعظم جيل فى تاريخ الإسلام، نظر يوماً
قبيل معركة من المعارك إلى عددهم، فأعجبتهم كثرتهم وقالوا :لن نغلب
اليوم من قلة، رأوا أن أعدادهم غفيرة، وقد انتصروا قبل ذلك بأعداد أقل
من هذا بكثير، فماذا حدث ؟ كادوا أن يهزموا وفر أكثرهم تحت وطأة كمين
الأعداء، فامتن الله عليهم بنصره، وأنزل لهم درساً فى كتابه {
وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ
كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ
الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ . ثُمَّ
أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ
وَأَنْزَلَ جُنُودا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ . ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ
ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
} [التوبة:25-27].
نعم أيها الثوار العظماء، لا شك أنكم كنتم أسباباً، فبذلتم الدماء
والأنفس، ونمتم فى العراء فى الليالي الباردة، تخافون أن يتخطفكم
الناس، لكن غيركم فى ثورات أخرى قدموا أسباباً أكثر، ودماءاً أوفر،
وشباباً أنضر، فلم يحصدوا شيئاً مما حصدتم، لأن النصر من عند الله
.
أيها الثوار ، بل أيها الشعب، واجب الوقت هو الشكر لله العظيم، الذى
أيدنا بنصره وبجنود لم نرها، الشكر لله، الذى كلل جهود الثوار
بالنجاح، الشكر لله، الذى أزاح طغمة السوء، فاستراح منها البلاد
والعباد، الشكر لله الذى لم يخذل هؤلاء الشرفاء العظماء، ولم يعيدهم
إلى ديارهم صفر الأيادي، ولا بخفي حنين، الشكر لله على نعمه التى لا
تعد ولا تحصى، فلترفع كلُ يد مؤمنة إلى السماء شكراً لله، ولتسجد كل
جبهة مسلمة لله شكراً، قوموا الليل الذى قومتموه فى ليالي التحرير،
وصوموا النهار الذى كابدتموه فى نهار الميدان، تصدقوا، صلوا الأرحام،
أكثروا من الاستغفار، أروا الله منكم أقصى أقصى أقصى ما تستطيعون من
ذل ومسكنة وخير، ثم بعد الشكر، توبة على الفور، وتحلل من المظالم، فها
قد عاين كل منا درساً لا يُنسى فى مصارع الظالمين، وعواقب أمورهم، ثم
بعد الشكر والتوبة، إدمان طاعة الله عز وجل بكل صورها.
{الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ
أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ
وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ
} [الحج:41].
[email protected]
- التصنيف: