بين حاء و حاء تنمو العبقرية

منذ 2017-06-08

لم يخضع لإجبار مدى حياته إلا من عقله و دينه فقط ، من غرائب ذلك أنه كان يُجْبر على عدم الذهاب للمدرسة وهو يحبها يوم الجمعة ، فكان كل جمعة بعد الصلاة يقفز فوق السور، و يقضي وقتا طويلا داخل المدرسة؛ تمردا على حرمانه منها يوم الجمعة !

قرأت كتاب السيرة الذاتية للعبقري المصري مصطفى محمود رحمه الله، ثم تفحصت ما سرده عن نفسه، لأفهم عوامل نموه فكريا حتى وصل إلى حدّ العبقرية التي عاهدناها فيه، فوجدت عاملين مهمين جدا ألا وهما ( الحنو و الحرية ) ، فقد وُلِد ابن سبعة أشهر مع أخ له توأم، و شاء الله أن يموت أخوه التوأم بعد أسبوع، و يبقى هو حتى عمر الثمانية و الثمانين ، وكان قد ولد برئة واحدة ! فخلّف ذلك حنونا شديدا عليه في قلب أبويه، بل و إخوته، حيث هو أصغرهم جميعا أشقاء و غير أشقاء

يصف طبيعة أبويه باللطف الشديد من والده، و الحزم العاقل من والدته، هذا مع الجميع، أما عند مصطفى فكلاهما كتلة حنان مراعاة لظروفه الصحية ، درس الأمومة في جميع الحيوانات، و الحشرات ليبحث عن معنى الأمومة النادر الذي قدمته له أمه  فسقى فطرته و ألهب عقله ، إذ منحته الأمان المطلق دون مقابل

يقول : ( و أنا شاب يافع ، في كل مرة أسافر للقاهرة؛ لأنشر مقالاتي ، أعود عند بداية الظلام فأجد أمي تقف وراء عمود عند محطة القطار ما إن تلمحني نزلت من القطار إلا و تسبقني للبيت فأتبعُها لأجدها بملابس البيت تُعد لي الطعام دون أن تذكر انتظارها لي على المحطة و لا خوفها علي )  و كأنها تقول له افعل ما تحب و دع قلبي يحرسك كما يحب دون منٍّ عليك أو أذى، هي فطرتي لا ذنبك ..!

علينا هنا مقارنة موقف الأم بغيرها اللائي يعزفن على وتر الضمير و التضحية فيثبطون عزيمة أبنائهن و تضخم أفعالها لجذب اهتمام ابنها و هي لا تعلم أنها تدفن قدراته !

أما الأب فقد كان يرعاه بدفعه للتجربة، فلم يترك الخمس صلوات في المسجد مع أبيه فترة الطفولة كاملة ، و لم يتخلف عن مجلس حفظ القرآن بشغف ، ثم السنة النبوية ،وبملاحظة الأب لنبوغ ابنه كأنه فطن أن أي قيد يفرضه عليه سيحدّ من جماح عقله، فكان الأب يأتي له بمجموعة كتب ومجلات و هو في السنوات الأولى من المرحلة الابتدائية و يقول له : هذه لك يا مصطفى و لكنه لا يقول له ماذا سيفعل بها ..

 يقول د. مصطفى : طبيعي طفل في السادسة من عمره سيمزق هذه الأوراق ( الكتب و المجلات ) وكان أبي يراقبني في صمت، ثم وجدت وأنا أمزقها قصة مصورة بالأحداث و كل صورة فوقها عبارة تفسرها ، جذبتْ نظري الرسومات بدأت أقرأ ما فوقها من عبارات ، شدّني التسلسل ، أمضيت اليوم في إعادة لصق الصور مرتبة حتى استعدت القصة و قرأتها، و بعدها أصبحت هديته الأثيرة من أبيه مثل هذه الكتب و المجلات

لنا أن نقارن الحال لو صاح الأب فيه : هذه كتب مكلفة اقرأها و لو مزقتها سأمزقك كما يفعل الآباء الأن !

يستمر الحنو في حياته بعد رحيل أبويه، و مصدره أخته الكبرى ، فعندما اختلف مع جمال عبد الناصر و اتُهِم على مستوى الدولة بالإلحاد و مُنِع من الكتابة و هُدِد بالاعتقال يقول : كانت أزمة هزت أركاني، و زلزلت استقراري، فالقهر أن تكون وحدك منبوذا تعيش كالعاري... فما وجدت إلا أختي الكبرى تأتي وتقيم معي ، و كعادتها معي منذ كنت طفلا تبسط سجادة الصلاة و بعد أن تنتهي تأخذني في حضنها و تغطيني بحجابها الأبيض الكبير ( الطرحة ) و تظل تحدثني بما يبث الثقة في نفسي و تدعو لي و لا تتركني أبدا، إلا و أنا أفضل مما كنت عليه قبل وجودها

ننتقل للحاء الثانية و هي الحرية !

لم يخضع لإجبار مدى حياته إلا من عقله و دينه فقط ، من غرائب ذلك أنه كان يُجْبر على عدم الذهاب للمدرسة وهو يحبها يوم الجمعة ، فكان كل جمعة بعد الصلاة يقفز فوق السور، و يقضي وقتا طويلا داخل المدرسة؛ تمردا على حرمانه منها يوم الجمعة !

تخرّج من الثانوية بمجموع كبير و ألح عليه كل الأهل ليدخل كلية الحقوق إذ كانت كلية القمة آنذاك يخرج منها الوزراء و السفراء، فأبى و أصرّ أن يدخل الطب لا ليعمل طبيبا بل ليعرف الله من خلال صنعته للإنسان ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ )

و بالفعل دخل الطب و كان يطيل الجلوس في المشرحة حتى أسماه أستاذه بالمشرحجي !

شعر في فترة أنه وصل لهدفه من دراسة الطب ، ووجد إجابات لما كان يحب أن يعرفه ، فاتخذ من العزف هواية وترك كلية الطب عاما كاملا، و رغم هول القرار و كل الاعتراضات لم يتراجع إلا بعد أن أكمل عاما كاملا يعزف بلا مقابل مادي،  حتى اقتنع بأنه ليس طريقه و تركه بعقله كما أقبل عليه بعقله و عاد و أتم دراسة الطب

هذه الروح الحرة أبت كذلك مغريات مادية لا يرفضها عاقل على وجه الأرض حيث عرض عليه كثير من رؤساء الدول أن يعمل بها معلما لعلمائها فرفض ، ثم تعرض لقرار صعب جدا بعد تولي السادات الحكم حيث ألح عليه لدرجة الإصرار أن يتولى إحدى الوزارات ، فرفض أيضا لأنه لا يتخيل عقله إلا حرا ! و اكتفى بأن يكون المستشار الشخصي للسادات يلتقيان جمعة من كل شهر في شبين الكوم لتبادل الآراء و كان ناصحا أمينا دون تدخل أو إلزام بوجهة نظره ...

ثم تظل الحرية حليفة هذا العقل الفذ فيذهب إلى جنوب أفريقيا لمؤتمر صحفي ثم يأبى العودة بالطائرة، و يصر على أن يعود من جنوب إفريقيا للقاهرة سيرا على الأقدام! ليحقق أحلامه و تأملاته التي لم تفارقه منذ طفولته و هو يصنع مراكب من الورق ثم يضعها في بقع ماء المطر في ساحة المدرسة و يرسلها للهند و يتخيل طبيعتها و صنعة الله بها و هو في مكانه بمدرسته ! فأشبع جنين الحرية في عقله حتى ولّد التأمل العميق لكل شيء، فنمت العبقرية في فكره

عاد من جنوب إفريقيا سيرا على الأقدام ومرّ بكل الغابات و الأدغال و القبائل دارسا طبيعتها و عقائدها و عاداتها وتقاليدها ، يقول لم يكن يهمني أن ألتقط صورة واحدة لنفسي في كل هذه المحطات بقدر ما يهمني رؤية الله في كل صنيع تقع عليه عيني ، حتى ملأ قلبي اليقين و نبذ الشك عن علم و إيمان

تنويه : المقال هدفه الفوائد التربوية لا الحديث عن تفاصيل ومراحل فكره و مخالفاته الشرعية فقد أفضى إلى ما قدم و له ما له وعليه ما عليه !!

أ/منى مصطفى

  • 1
  • 0
  • 3,039

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً