في ظلال رمضان - في ظلال رمضان.. (13) من (30)

منذ 2017-06-10

إن التضحية من أجل هذا الدين وصراع الباطل ومجاهدته ومغالبته ليس ظرفا آنيا.. إنه طبيعة دين، وطبيعة الطريق، وطبيعة نيل ما عند الله تعالى.

(لطلب المغفرة طريق)
ليطلب الصائم من ربه المغفرة، ولِيستصحبها يجب أن يعرف سياق هذه المغفرة في طبيعة هذا الدين الرباني..
إن سياق طلب المغفرة من الله تعالى والتوبة إليه ليس سياق تعبد في محراب منعزلا!

إنه سياق مواجهة وحركة ضد الباطل لإقرار الحق وإعلائه وتحمل الصعاب والمشاق في سبيل ذلك.
يطلب المؤمنون المغفرة في مثل هذا السياق  {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} .
فمع طلب الرحمة والمغفرة، تضرعوا إلى الله تعالى بولايتهم له، وختموا دعاءهم بطلب النصر على الكافرين، مع أنه لم يُذكر في السياق كفار ولا جهاد في موقف معين، لكن مع طلب المغفرة والرحمة والعفو كان إعلان محبتهم له تعالى فطلبوا النصر إعلانا أنهم في جهاد مستمر لا ينقطع في محو مسخوطات المحبوب وإقرار محابه تعالى، هذا الجهاد هو من طبيعة هذا الدين، وهم يحتاجون فيه إلى النصر، وهو لا يتحقق إلا بالرحمة والمغفرة والعفو، فإنه لو وقع خذلان وهزيمة فيكون منبعها وسببها الذنوب المانعة من النصر .. هذا سياق دعاء أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فمن تصور محرابا بلا مواجهة للباطل فليس هذا هو شأن دين محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي موطن آخر يبين تعالى كيف نرجو رحمته ومغفرته؛ فيقول تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، فحدد تعالى سبيل رجاء رحمته، وأخبر أن أولئك هم الذين ينتظرونها ويسعون اليها، وأخبر أن الرحمة تنتظرهم كما في خاتمة الآية، فمن سلك غير هذا السبيل وأراد إسلاما آخر وطبيعة أخرى فلا يتوقع أن يجد ما أراد، لأنه ليس له أن يشترط، بل لله تعالى.
في موطن ثالث يطلب المؤمنون من ربهم تعالى المغفرة وتكفير السيئات وإنجاز ما وعدهم على ألسنة رسله وعلى متابعتهم لهم: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ، رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} ..
هذا دعاؤهم، فانظر سياق المغفرة لذي يحدده لهم ربهم سبحانه..
{ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} .
فإنهم لما تقربوا إلى الله تعالى باستجابتهم لداعي الله تعالى، وتضرعوا لربهم تعالى أن يغفر لهم الذنوب ويكفر عنهم السيئات، اشترط الله تعالى لاستجابة دعائهم (الجهاد، والهجرة، والقتال في سبيله، والصبر على ما يصيبهم في هذا السبيل).
إنه ليس ظرفا آنيا أو ملابسات خاصة بل هو طبيعة هذا الدين وطبيعة حركته في الأرض ليحمل الخير للناس ويزيح الشر الذي يمنعهم من رؤية الخير.
وعندما طلب السحرة الذين آمنوا مع موسى المغفرة طلبوها بالصبر على القتل والصلب، ورأوا أن هذا أمام ما طلبوا من غفران جرائمهم قليل!! وهذا هو موقفهم: {قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ، قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ، إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} .
هل تريد المزيد؟ اقرأ كتاب الله تعالى.. سترى هذا المعنى مطردا ومتواترا.
إن التضحية من أجل هذا الدين وصراع الباطل ومجاهدته ومغالبته ليس ظرفا آنيا.. إنه طبيعة دين، وطبيعة الطريق، وطبيعة نيل ما عند الله تعالى. 
فمن تصور دينا لا ينصره ولا يضحي من أجله، فليس هو هذا الدين، ومن تصور طريقا ليس فيه أن يبذل لله تعالى ـ ثقة فيه وتوكلا عليه وإيثارا له ولمرضاته ولما عنده ـ فليس هذا ما جاء به القرآن.. ومن أراد الاستيقان فليقرأ القرآن مرة ثانية .. ليس تراتيل ولا أماني بل ليفقه ما جاء به وليعي ما خاطبه ربه..
إن للمغفرة والرحمة وسكنى الغرف العالية في جنات عدن عند رب العالمين، لهذا سبيل، الله تعالى هو الذي يحددها ويحدد معالمها ، وليس العبيد.
فاللهم انصر المجاهدين، والصامدين، والمرابطين، والمتربصين، وشرفاء الميادين، ومقاومي الباطل، ورافضي الظلم، والساعين لنصرة دينك في كل مكان، واجعلنا منهم.

مدحت القصراوي

كاتب إسلامي

  • 0
  • 0
  • 3,188
المقال السابق
في ظلال رمضان.. (10) من (30)
المقال التالي
في ظلال رمضان.. (14) من (30)

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً