في ظلال رمضان - في ظلال رمضان.. (20) من (30)
تنسى فيذكرك، تعصي فيغفر لك ويسترك، يدعوك لمواصلة المسير، يناديك من قرب ويتلقاك من بُعْد ويحملك بقوته..
(ذكر الصائمين وحالهم.. والقرب المراد من ربهم)
الصائم ذاكر.. دائم الذكر، ذاكر القلب، يسبق قلبه لسانه..
كيف يفتر وقد انصرف قلبه وهمه عن شهوات الدنيا بل وعن ما يقيم أوْده من الطعام والشراب، كافا حيث أُمر، طاعما حيث أُمر، أخر مطلب جسده علن مطلب روحه، تائبا مستغفرا، انطلقت فطرته بنور الوحي المبارك تطلب الله تعالى..
وفي الطريق.. فزاد روحه واقتياتها وحياتها ونعيمها بذكر ربه تعالى، مشغول به؛ لسان يلهج وقلب يخشع ويقوم بمعاني هذا الذكر، مشغول بالعرش، تطوف روحه، به بينما ينشغل الآخرون بحشوش الدنيا ومزابلها..
إن الروح، وهي مرتبطة بالجسد، لها رحلتها إلى السماء، تقترب من الله تعالى حال الذكر، قال صلى الله عليه وسلم: ( «إن الذين تدعونه ـ يقصد بالذكر ـ أقرب الى أحكم من عنق راحلته» ) هذا عندما رفعوا أصواتهم بالتسبيح والتهليل في سفرهم..
وللروح قرب آخر حال السجود ( «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» )..
وقرب آخر حال الدعاء {فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان} .. ولذا فالوجه الأقوى في الآية هو عدم الوقف على قوله (قريب) وإن كان وجها صحيحا لأنه يدل على قرب عام، ولكن وصْل القراءة أقوى لأن فيه دلالة على القرب الخاص بحال الداعي وهو المقصود في الآية.
وهذا القرب يقابله قرب من الله تعالى للعبد، والقاعدة عند أهل السنة (أن الله تعالى يقرب من خلقه كيف يشاء).
فالله تعالى يتنزل في ثلث الليل الأخير، وثلث الليل لا ينقطع من الأرض، والله تعالى يقرب لأهل كل ناحية يظللها الثلث الأخير كيف يشاء، والله تعالى على عرشه لا يفارقه، يقرب من خلقه كيف يشاء.. والله تعالى أكبر من كل شيء.
يقرب تعالى عشية عرفة لأهل الموقف دون غيرهم، يقول شيخ الإسلام: فيجدوا من الرقة والخشوع ما لم يجدوه من الفجر الى عشية عرفة، بعد العصر.
ويقرب تعالى من الساجد والذاكر والداعي قربا خاصا به، فتقترب روح العبد من ربها تعالى، ويقترب الله تعالى منها كيف يشاء.. وهو قرب خاص غير القرب العام من عموم الخلق الذي هو معنى ومقتضى اسمه (الباطن) فهذا عام، لكن هناك قرب آخر في بعض الأزمان كثلث الليل، وبعض الأمكنة في بعض الأزمان كعشية عرفة وهو قرب خاص بأهل الموقف، ثم ثمة قرب آخر لبعض الأشخاص؛ للعابد والداعي والذاكر..
عن هذا تبحث؟ حُق لك، فعن هذا بحث الأولون والآخرون، واشتاقت قلوب المحبين وكادت أوصالهم أن تتقطع من أجله، ومات بعضهم من شدة الشوق والوجد.. أترى عبارة تحيط بهذا المشهد؟! يا واهم كيف يوصف قرب كهذا؟ وأي كلمة تعبر عن حب وشوق ما له مثيل، يا واهم.. هذا شيء يُجرَب ويُذاق، هذا يُبحث عنه ويُنفق العمركله مهرا صغيرا صغيرا، وقليلا قليلا، ثمنا لما ليس له ثمن، ولم ينله عبد الا من محض الفضل، فضل فوق العبارة لا يصدق العبد نفسه أن ذاقه وفتحت له فيه روزنة وكوّة..
أترى قلبا وروحا (لمحت) فضلا عن أن تكون (ذاقت) هذا القرب وهاتيك المحبة، أترى أن تذكر غيره؟ أو تفتر عن ذكره؟ أو يثوى في قلبه غير حبه؟ أو يجمع قصده وهمه على غيره ؟ أو يؤثر سواه؟ لو سألته هذا لصرخ فيك وعاتب: كيف تسأل هذا السؤال؟ يقول لك: وهل طابت الدنيا الا بذكره وهل طابت الجنة الا بقربه؟
أصِف لك وتصف لي؟ لكنه وصف لتلك المحبة وذلك القرب، لكن الشأن كل الشأن أن تذوق، ومن ذاق لزم، قال بعضهم:
ساكن في القلب يعمره .. لست أنساه فأذكره
لا يكف عن الذكر واللهج الدائم والبحث والقصد وجمع الهم، كلما تعطل لحظة صرخ: واخسارتي تعطلت عن المسير، فيم أنفقت تلك اللحظات وذلك العمر؟ ألغيره؟ ألمن دونه؟ فواحسرتي ويا ظلمي لنفسي ويا لهفي على مقصودي ومحبوبي..
يا صائم.. أتطلب القرب؟ حُق لك.. وهل أثمن منه؟ وهل أغلى وأعلى من ذلك القرب؟
فليرجع أهل الدنيا بدنياهم، وقد خلا وفاضهم أخذوا الدون ورضوا بالحقير، أما أنت ففي سفر ما لهم به علم ولم يخطر لهم ببال ولم يذوقوا طعمه..
لكن السفر طويل نخشى فيه من القواطع والشواغل، ولذا فالتوكل والتضرع والتوقي والخوف زادٌ حتى الوصول..
سفر طويل لكن ما أحلاه وما أعلاه، يؤنس فيه الحبيب تعالى من يطلبه ويرسل اليه وفود الخير وبشارات الرضا وعلامات الإطمئنان.. تنسى فيذكرك، تعصي فيغفر لك ويسترك، يدعوك لمواصلة المسير، يناديك من قرب ويتلقاك من بُعْد ويحملك بقوته..
يا مسافرا بلغنا الله وإياك الوصول..
- التصنيف: