الأبعاد الاجتماعية للدعوة الإسلامية المعاصرة (1)
بشكل عام فنوعية المعظمين لله وشرعه يتم استهداف جزء منهم تلقائيا لأنهم يأتون عادة الى المساجد والى الدعاة فى مناسبات كثيرة كما فى صلواة الجمع والأعياد ورمضان ونحو ذلك.
كان يسير فى شارع رئيسى بأحد أبرز أحياء القاهرة الراقية ونظرا لاختناق الشارع بالسيارات فقد كانت السيارات متلاصقة ويسهل أن يسمع كل منها الأصوات من داخل السيارات المجاورة خاصة أن الوقت بمنتصف الليل ونوافذ السيارات مفتحة لتلقى نسائم المساء، سار بينما أطلق العنان لتلاوة قرآنية للشيخ عبد الباسط عبد الصمد يصدرها صوت المذياع، وفوجئ أن السيارة المجاورة تطلق أصواتا عالية مثله ولكنها لموسيقى صاخبة تصحبها أغانى، استمر فى الاستماع للشيخ عبد الباسط بينما راقب بأذنه الأخرى سلوك السيارة المجاورة ليرى رد فعلهم على ارتفاع صوت القرآن عنده واستمر الحال هكذا لبضع دقائق دون تغير فلا هو خفض صوت القرآن ولا السيارة المجاورة خفضت الموسيقى، وبعد قليل من السير خرج من نطاق القاهرة بسيارته ودخل فى طريق اقليمى سريع وكان الطريق يؤدى إلى مناطق ريفية ويمر ببعضها وتوقف بسيارته عند اختناق مرورى آخر بسبب كمين أمنى على الطريق ومازال صوت عبد الباسط عبد الصمد يصدع بالقرآن المرتل، ومرة أخرى جاورت سيارته سيارة تصدح بموسيقى صاخبة يصحبها غناء، ولم يلتفت لها ولم يهتم بملاحظة رد فعلها بعكس ما فعله مع سيارة الحى الراقى السابقة، ولكن كانت المفاجأة بعد بضع ثوانى فقائد سيارة الموسيقى أغلق صوت الموسيقى تماما.
ما الفرق بين الاثنين؟؟
كلاهما يركب سيارة فخمة وكلاهما يبدو من المترفين، ولكن صاحب سيارة الحى الراقى لا يعظم القرآن ولا يوقره بينما الثانى يعظم القرآن ويحترمه رغم أن كلاهما منغمس فى صخب الموسيقى والغناء، ولا يبدى إلتزاما إسلاميا.
وهذه الواقعة الحقيقية تصلح كمدخل للمناقشة حول ماهية الشريحة أو الطبقة الاجتماعية التى ينبغى أن تستهدفها الدعوة الإسلامية والتى ينبغى أن يستند عليها العمل الإسلامى كركيزة اجتماعية له.
وبداية لابد أن نذكر بأن الصراع الأساسى والرئيسى فى مجتمع المسلمين ليس بين الأغنياء والفقراء ولا بين أهل الريف أو البداوة والحضر ولا بين أمى ومتعلم ولا بين عمال أو فلاحين أو طلبة من جهة وبين أصحاب العمل أو الأرض من جهة أخرى كما أنه ليس بين شباب وشيوخ ولا بين ذكور وإناث فكل هذه التنوعات الاجتماعية تتآخى فى الإسلام ولا يحدث بينها صراعات إلا صراعات فرعية وإنما الصراع والتدافع الأساسى والرئيسى فى المجتمع الإسلامى هو بين أهل العدالة (بمفهومها الشامل المتضمن كامل الالتزام الاسلامى) من جهة وبين أهل الفسق والظلم من جهة أخرى كما أوضحنا بتفصيل مسهب فى مقال سابق هنا، وتأسيسا على ذلك فإن العمل الدعوى الإسلامى تجاه مجتمع المسلمين المعاصرين لايستهدف الناس على أساس هذه التقسيمات الاجتماعية التى حددتها النظريات الإجتماعية الوضعية المعاصرة سواء المدرسة الماركسية أو الوظيفية أو غيرها وإنما يستهدف العمل الدعوى الإسلامى السليم الآن مجتمع المسلمين على أساس متفرع من قسمة أهل العدل وأهل الفسق وأهل الظلم، إذ من الطبيعى أن العمل الدعوى سيركز بالأساس على كسب المسلمين من أهل الفسق أو الظلم وتوجيههم ليلتزموا بالسلوك الإسلامى ليصبحوا من أهل العدالة، ومن هنا فالأولويات تقضى بتحديد أى نوعية من أهل الفسق أو أهل الظلم ستركز عليها الرسالة الإعلامية الدعوية والحركة الدعوية فى المقام الأول أو فى أول درجات سلم أولوياتها؟؟
والاجابة على هذا السؤال تقتضى الإجابة على مسارين المسار الإيمانى والمسار الفئوى وسنفصل كلا منهما على حدة فى السطور التالية:
المسار الإيمانى: الملاحظ كما أشرنا فى القصة التى حكيناها بأول المقال أن أهل الفسق أو الظلم يتفاوتون من حيث درجة تعظيمهم لشعائر الله وحرماته وقبل ذلك درجة تعظيمهم لله عز وجل ورسوله ودينه ففيهم من يحترمون الدين ويعظمونه وإن خالفوه وقصروا فى الالتزام به.
نعم غيرالمعظمين لله ودينه وشرعه قد يكون لهم مدخل مناسب ما للتعامل مع نفسيتهم ولكن قبل إدراك هذا المدخل فالأمر تجاههم عسير.
وبشكل عام فنوعية المعظمين لله وشرعه يتم استهداف جزء منهم تلقائيا لأنهم يأتون عادة الى المساجد والى الدعاة فى مناسبات كثيرة كما فى صلواة الجمع والأعياد ورمضان ونحو ذلك.
ولكن الدعوة لن تكون فعالة إلا إذا كانت تصل لأعداد ضخمة من الشريحة الاجتماعية المستهدفة أو حتى كل الشريحة المستهدفة فضلا عن أجزاء ما من بقية الشرائح الاجتماعية الأخرى، ومن هنا فإنه يجب أيضا الاهتمام بخطوتين مهمتين فى ذلك الاستهداف الدعوى وهما:
العمل الإعلامى العام: هذا العمل نلحظ أن فشل الحركات الإسلامية فيه وهو فشل يشهد به الصديق قبل العدو، وسببه مرض عام نعيشه فى عالمنا الإسلامى بسبب التخلف والجمود الحضارى السائد بشكل عام، وهذا المرض يرتكز على الاهتمام والاستغراق بالمظاهر دون أدنى اهتمام بالجوهر وبتطبيق ذلك على إعلام الحركات الإسلامية فالأمر صار وكأنه إعلام من أجل الإعلام لا أكثر أى وجود إعلام كمظهر دون تحقيقه لأى شىء آخر أبعد من هذا، وأى وسيلة إعلامية إسلامية تنجح فإن أقصى نجاح تحققه هو جذب قطاع كبير نسبيا (لاحظ: "نسبيا") من الأتباع لمتابعته دون تحقيق أى نجاح آخر أبعد من هذا، وكى يتضح الأمر أكثر فلابد أن نضرب مثلا، والمثل هنا هو معركة حربية ففى المعركة الحربية نبدأ الهجوم بقصف يسميه العسكروين تمشيطى (بينما يطلق عليه الاعلام تمهيدى) ويهدف هذا القصف –ضمن ما يهدف له- خلخلة صفوف العدو بقصف تحصيناته وإضعافها وإفقاده السيطرة على قواته بدرجة ما بقصف مراكز القيادة والسيطرة والاتصالات وبذلك كله تضعف مقاومته أمام الاجتياح البرى التالى للقصف التمشيطى، وإذا نقلنا هذا لمجال الإعلام فالإعلام هو قصف تمشيطى فلا يظن أى عاقل أنه بديل للعمل على الأرض وهذا هو جوهر الفهم الصحيح للعمل السياسى.
وبالتالى فهدف االإعلام الناجح والفعال هو الوصول إلى كل الجمهور وخاصة الجمهور المناصر لخصومك وكذا الجمهور المحايد أو السلبى فى معركة الصراع السياسى بين الحركة الاسلامية والقوى المناوئة لها، وهنا سنكز على شريحة من لايزال فى قلوبهم قدر ما من تعظيم الله ودينه ورسوله وحرماته وشعائره بحسب ما حددنا منذ بداية المقال، نعم تحتاج لتثقيف أنصارك وتعبئتهم ولكن تنفيذ هذا عبر الإعلام أمر سهل وبديهى كما أنه قد يكفيه وسائل إعلامية أقل استهلاكا للموارد، وإنما الرسالة الإعلامية الموجهة لجمهور المنافسين والخصوم وكذا للجمهور المحايد فهى كى تصل وتحقق أهدافها المرجوة فإنها تحتاج احترافا أكثر وموارد مادية وفكرية أكبر.
وفى ضوء المثل الذى ضربناه "القصف التمشيطى" فأهداف الإعلام الإسلامى ينبغى أن تشمل ضرب الرسائل والأفكار التى يلقنها ويعلمها الخصوم لجمهورهم ضد ثوابت الإسلام وعقيدته وضرب مصداقية هذه الجهات وهؤلاء الأشخاص الذين يهاجمون ثوابت الإسلام وعقيدته، كما يشمل القصف الإعلامى قصف وسائل الإعلام ومناهج التربية والتعليم وآليات التغيير الإجتماعى التى تهدف لهدم ثوابت الإسلام وعقيدته، مع إقناع الجمهور المعادى والمحايد بثوابت وعقيدة الإسلام وتوضيحهما، بجانب طبعا الإقناع السياسى بمواقف سياسية تخدم العمل الإسلامى مرحليا واستراتيجيا، ولا يخفى على القارىء هنا أن فى قلب الجمهور المستهدف سيكون المعظمون لله وشعائره وحرماته ودينه كما سيهدف العمل الإعلامى لشد بقية الجمهور ليدخل فى هذه الشريحة الاجتماعية شريحة المعظمين لله ودينه ورسوله وحرماته وشعائره.
وطبعا هذا كلام مجمل لإلقاء الضوء على القواعد المجملة التى ينبغى أن تحكم العمل الإعلامى الإسلامى ولكنها تحتاج مزيد من الشرح والتفصيل النظرى عبر سلسلة من الكتب والأبحاث وحلقات النقاش، كما أنها فى تطبيقها العملى فى الواقع ستصنع المزيد من التفاصيل العملية بأساليبها المناسبة والمتنوعة.
مع ملاحظة أنه ينبغى تلافى أخطاء الإعلام المنتسب للدعوة الحالى والسابق فيجب تحديد الرسالة الإعلامية بعناية بحيث تتناسب مع طبيعة واهتمامات المستقْبِل أو متلقى الرسالة بشرط أن تتناسب أيضا وفى نفس الوقت مع أولويات الدعوة وأهدافها.
ثم نأتى للخطوة الثانية من الاستهداف الدعوى الذى نتكلم عنه وهى التحرك الفعلى على الأرض وصولا للمستهدفين، وسنكمل التمثيل بالمعركة كما مثلنا آنفا بالإعلام، والتحرك الدعوى العملى على الأرض يناظر فى المعارك تحرك المشاة والمدرعات لاحتلال الأرض والتحصن بها وفرض أمر واقع جديد فوق أرض المعركة، لأنك فى المعركة لو ظللت تقصف العدو ليل نهار بالمدفعية والصواريخ والطائرات ولو لقرن من الزمان فإنك لن تملك الأرض ولن تغير واقعها ما لم تتحرك وتأخذ الأرض عبر الآليات الثقيلة (مشاة ميكانيكى ومدرعات ونحوهما) وتتحصن بها، وترجمة هذا دعويا هو أن القصف الإعلامى هيأ لك التربة المجتمعية للتحرك عمليا داخل المجتمع ودعوة كل من تهيأ للالتزام بالإسلام وتعاليمه، وذلك يشمل خلق الروابط المجتمعية والتزكية والتعليم للمدعويين ثم تاليا تأهيلهم للقيام بأدوار دعوية، وهنا نذكر ثانية أن هذا التحرك العملى على الأرض سيركز أكثر ما يركز على استهداف شريحة من يعظمون الله ودينه ورسوله وحرماته وشعائره تلك الشريحة التى ركزنا على توضيح وصفها منذ بداية هذا المقال.
ونؤكد هنا على أن هذا التحرك الدعوى العملى على الأرض معروف ومكتوب ومنشور فى كتب ودراسات كثيرة عن كل أنواعه ومجالاته الفردية والعامة والمسجدية والمجتمعية..الخ، ولكن نجد أنه ينبغى أن نوضح بعض المفاهيم العامة التى تغيب أحيانا عن البعض فى العمل الدعوى وهذا سيكون موضوع نكتبه مستقل تاليا إن شاء الله.
وبذا نكون أنهينا كلامنا بشأن تحديد المسار الإيمانى بشأن الشريحة الاجتماعية المستهدفة بالدعوة وخطوتى الدعوة تجاهها، وسنتكلم فى الحلقة التالية عن المسار الفئوى بشأن القوى المجتمعية المستهدفة بالدعوة، ان شاء الله تعالى، ونسأله عز وجل التيسير والتوفيق والسداد ثم القبول.
- التصنيف: