من ينهي الحكاية - مذكرات مرابطة (26)
سلسلة مقالات بقلم المناضلة الفلسطينية هنادي الحلواني، من مرابطات المسجد الأقصى، وقد أسمتها (مذكرات مرابطة).
في المسكوبية2:
في تلك الغرفة الضيقة المعتمة، يلازمني التعب، ويلفّ الضيق والضغط روحي لأنال قسطاً من الصداع إثر ساعات التحقيق المتواصلة والصراخ الذي أكاد لا أسمع سواه.
وفي كلّ هذه الأجواء أسترق المتعة في مقاطع الفيديو التي كانو يفتحوها لي ليحققو معي بها، كفيديو "أخت المرجلة" الذي كان المحقق لا يتوقف عن الأسئلة أثناء عرضه: "شايفة كيف بتضربي الجندي" "شايفة كيف إنت قوية" "شايفة كيف بتهتفي"، وأنا أتجاهل أسئلته وأعيش في اللحظات الجميلة التي صُوّرت بالفيديو وكل شيء بي يدل على قمة متعتي، والضابط يكاد يُجنّ.
ثم انتقل ليسألني عن أبنائي في فيديو آخر "من هذا ومن هذه" وأنا أجيبه: "لا أعرف"، مع أنني أعرف أنه يعرف أبنائي جيداً ولكني لو أجبته سيدخلني بدوامة أسئلةٍ جديدة لا داعي لها، فأختصر الطريق عليه وأجيبه أنني لا أعرف!
ثم انتقلنا لمنحى آخر في التحقيق، يسألون عن عدد مرات سفري وسببها في كلّ مرة، يستهزؤون بحديثي في مؤتمرات عالمية كمؤتمرٍ ألقيت كلمة فيه بلسان نساء الأقصى في تركيا فيقول المحقق مستهزئاً: "شو هالقضية العظيمة الي ينادوك بتركيا عشان تحكي فيها"، لأجيبه مهددةً: "اه عظيمة، معلمة القرآن إلها مكانة كبيرة بين المسلمين، والمسجد الأقصى إله مكانة كبيرة كمان، وإنتو مش محترمين هالمكانة"
وبدأ يخرج لي المقتنيات التي صادروها من بيتي ويسألني عن كل قطعة بالتفصيل من دروعٍ وشهاداتٍ وأوشحة وأوراقٍ مختلفة لا شيء مهم فيها يذكر: من أين هذه، ومتى حصلتِ عليها، وما مناسبتها وأسئلةٌ أخرى يقصدون استفزازي بها أو يترقبون إجابة تجرمني منها.
وحين طال التحقيق ولم يأخذوا مني حقاً ولا باطلاً، انتقل ذلك المحقق الدرزيّ لأسلوبٍ آخر يضرب فيه على أوتار العاطفة عندي: "هنادي إنت شو مستفيدة، شو الاشي المهم الي عشانه تحرمي حالك وولادك من العلاج" واسترسل في كلامٍ معسولٍ وأنا أتشاغل عنه ثم التفت إليه وأنا أقول: بس رحمة ربنا ما رح تقدروا تمنعوها عني، بتكفيني!
انتهى التحقيق في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، واصطحبني ذلك المحقق الدرزيّ في سيارته الخاصة لأنتقل لسجن المبيت فأبات ليلتي هناك، ولكنه لم يقيدني!
حين ابتعدنا بالسيارة قال لي: أعتذر منك عن كل ما حصل، لن أضع القيد في يديك وقدميكِ لأنني أحترمكِ حقاً وأحترم القضيّة التي تدافعين عنها، والتي اؤمن أنا بها، ولأجلك أنت وشخص آخر سأستقيل من عملي كمحقق وأعود بعد أربع سنواتٍ وقد درستُ القانون لأدافع عنكما.
- من هو الشخص الآخر؟
- الحج مصباح أبو صبيح!
وصلنا للسجن فاعتذر مني أنه مضطر لتقييدي، ومضى في طريقه وأنا لا زلتُ مأخوذةً بكلامه، واليوم وأنا أسرد مذكراتي لكم، كم تمنيت لو تمكنت من إيصال هذا الكلام للشهيد الحيّ مصباح أبو صبيح، لكن نحسبه في مكانٍ يسرّه ويباهي به اكثر من هذه الكلمات.
دخلتُ لأتابع إجراءات المبيت وأبات ليلتي في الزنزانة من جديد..
يتبع...