الإعلام والاتصالات بين الحاضر والماضي

منذ 2017-10-04

ليس صعبًا أن تُغيِّرَ أيَّ شيء اعتدت عليه، ولو كان من أكثر الأشياء التصاقًا بك؛ فإرادتك الموهوبة من الله أقوى من أيِّ مصنوعٍ زائفٍ، وإصرارك أكبر من أيِّ عادة استحكمت بك، وعزيمتُك أجدر من أيِّ وهمٍ دخل فِكرك خلسةً وأراد التمسُّك به، ويزيد هذا الإصرارَ على ترك الشيء والابتعاد عنه تعاظُمُ شرِّه واستفحاله، والتمسُّك بحبل الله المتين فهو المُعين لك على جهادك.

الأمس، واليوم، والغد:

عن الزبير بن عدي قال: أتينا أنس بن مالك رضي الله عنه فشكونا إليه ما نلقى من الحَجَّاج، فقال: "((اصبروا؛ فإنَّه لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شرٌّ منه، حتى تلقَوا ربَّكم))، سمعته من نبيِّكم صلَّى الله عليه وسلَّم"، وقال ابن مسعود رضي الله عنه لامرأته: "اليوم خيرٌ أم أمس؟"، فقالت: "لا أدري"، فقال: "لكنِّي أدري، أمس خيرٌ من اليوم، واليوم خيرٌ من غد، وكذلك حتَّى تقوم الساعة".

جميعنا يعي كلمات آبائنا وأجدادنا، أنَّ أيَّامهم كانت خيرًا من أيَّامنا، وماضيهم أجمل من حاضرهم، وها نحن نُقرُّ بما قالوا، فنقول: "أيَّامنا في الماضي أفضل من هذه الأيَّام".

إذًا بما أنَّ الماضي أفضل من الحاضر ومن الغد، فعلينا أن نُدرك أنَّه لن يأتي يومٌ علينا - عمومًا - بأفضلَ ممَّا نحن عليه، فبما أنَّنا في كلِّ يومٍ نقترب فيه من الآخرة، فيعني أنَّ الشُّرور تزداد بشكلٍ مُتسارع، وقد أخبرنا نبيُّنا صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّ السَّاعة تقوم على شِرار النَّاس، اللهمَّ إنَّا نعوذ بك أن نكون منهم.

الحداثة المُتوهَّمة، والحضارة المُزيَّفة:

لقد توافدت علينا مُبتكراتٌ غربيَّة عجيبة تَتْرَا، يدَّعي صانِعوها أنَّها وُجدت لخدمة البشريَّة وراحتهم؛ تسهيلًا في مواكبة هذه الحياة التي تصعب يومًا بعد يوم.

ولا نُنكر أنَّ منها ما هو مُفيدٌ للبشريَّة ومُسخَّرٌ لراحتهم؛ كوسائل النَّقل الحديثة، والآلات الثقيلة، وأساسيات المصانع، والمشافي، وغيرها، ولكن هناك الكثير الجم يبدأ بفكرة خدمة الإنسان، ثم يطرأ عليه مراحل تطوُّرٍ تُكسبه شيئًا من التعقيدات التي نحن في غنى عنها.

وهذه المُحدثات ما هي إلا بدائل عن البشر، تزحف إلينا لتأخذ مكان الإنسان، وتُعطِّل وجودنا، فإذا بها تدفع المجتمع للتفكُّك، فترى كل شخصٍ منَّا منفردًا بنفسه، بعيدًا عن الآخرين، مُتوحِّدًا يهوى العُزلة، ويسعى للخلوة، فلا يكترث بغيره.

وما أراه ممَّا عايشته وعاينته، أنَّ معظم هذه الابتكارات جاءت لتضييق الحياة، فتُخرجها من بساطتها وعفويتها، وتكسبها تعقيدًا تلو تعقيد، فتغدو الحياة جاهزةً بكلِّ شيء، لا يتعب الإنسان في كسب أي شيء، ولا يجهد في إيجاد أي شيء.


الحركة بركة لغيرنا:

فيصبح العمل والجهد، والسعي والكسب: أفكارًا بائتة مُتخلِّفة، لا تحمل معنى الحضارة - برأي أنصار الكسل والخُمول - وتُصبح حكمة (في الحركة بركة) فكرةً أسطوريَّة، ليس لها أي وجود في عصرنا الحديث الذي يدعو للنَّوم والغفلة.

مع أنَّنا نرى أنَّ المجتمعات المتحضِّرة في العالم، السبَّاقة في جميع مجالات الحياة - تأخذ حكمة (في الحركة بركة) شعارًا لها، فتدفع شعبها للسَّعي والعمل والعلم، فيهتمُّون بأعمالهم، ويُشجعونهم على الإنتاج، حتى صارت دولهم من أوائل الدول المُنتجة؛ كاليابان، وسنغافورة، وماليزيا، وغيرها، أما دولنا، فتراجعت حتَّى باتت من أكثر الدول استهلاكًا وخمولًا وتأخُّرًا.


شلل الرفاهية:

إنَّ الكلام عن الحداثة والابتكارات يُوحي بالرَّفاهية والترف، بينما يحمل في طيَّاته موتًا حتميًّا لمخلوق اسمُه الإنسان؛ حيث تموت حركته، وتفنى طاقته، ويخمل بدنه، حتى إنَّ خلايا دماغه تبدأ بالتَّلاشي، ويهزل جسمه، حتى يذوب في عالم التكنولوجيا، فتصبح الآلة هي من أساسيات الحياة، والإنسان هو المستهلِك أو المستهلَك؛ فلا قيمة له بدونها، بينما ينمو شأنه بمعيَّتها.

ومن هذه الابتكارات: وسائل الإعلام والاتصالات، التي حملت إلينا القليل من الراحة والرفاهية الظاهرة المُتوهَّمة، بينما تضمَّنت سرطانات وطواعين، وبلاءات فتَّاكة، بغلاف برَّاقٍ اسمُه التطوُّر، والتحضُّر، والحداثة.


الدنيا تفتح قلبها لأحبابها:

يقول نبيُّنا عليه الصلاة والسلام:
«واللهِ لا الفقرَ أخشى عليكم؛ ولكن أخشى عليكم أن تُبسطَ عليكم الدنيا، كما بُسطت على مَن كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتُهلككم كما أهلكتهم».

وما كان يخشاه نبيُّنا الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم نراه اليوم يتحقَّق عيانًا، فوقعنا بشراكٍ نعلمها، وبفخاخ أخبرنا نبيُّنا صلَّى الله عليه وسلَّم حقيقتها، ولطالما حذَّرنا منها.

ها قد فُتحت علينا الدنيا، فبُسطت لنا أكثر ممَّا نتصوَّر، فتسلَّل حبُّها إلى قلوبنا يومًا بعد يوم، ومن خلال هذا البسط صارت للأمم وثقافاتها قديمًا وحديثًا نوافذُ مفتوحة، ليس لها حارس، معروضة دون رقيب، الاطِّلاع عليها لا يحتاج جهدًا بالغًا منَّا، ولا أرى المشكلة في الاطِّلاع، بل الطَّامة الكُبرى فيما وراء الاطلاع مِن ترك ما نحن عليه من الدين والأخلاق، والقيم والعادات الحميدة، والانخراط في تبعيَّةٍ عمياء، وتقليدٍ أحمق، وانجرار وراء المجهول.


التقليد الأعمى:

إنَّ لكلِّ أمَّة نصيبًا من القوَّة بمقدار رصيدها من شبابها وفتوتها؛ فإنْ سطع نجم شبابها كانت من الأمم المتقدِّمة الفتيَّة، وإن خَبَتْ شعلتُهم استحالت إلى أمَّة هرمة عجوز، يدقُّ ناقوس الخطر بزوالها.

والأمرُ الأعظمُ في ذلك أنَّ تهوُّر الأمَّة مُتعلِّق بتهوُّر عنصر الشباب، وهذا ما نراه في عصرنا الحالي من انهيارٍ كبيرٍ في طبقة شبابنا المسلم باتجاه تبعيَّة ليس لها أي تبرير إلا التقليد الأعمى.

فترَك شبابنا إرثَهم العظيم من التديُّن، والأخلاق، والقيم، في سبيل الحصول على جديد مستورد، يجهلون حاله، ويألفون بريقه الحديث الفتَّان؛ فأدَّى ذلك إلى انهيارٍ كبيرٍ في طبقة فعَّالة في مجتمعاتنا المسلمة، انهيار في طبقة الشباب.

التبعيَّة أشدُّ فتكًا بالنِّساء:

ويزداد خطر هذا الانهيار عندما يتفاعل في عملية التقليد الأعمى كِلا الفئتين - الشاب والفتاة - عندها يكون زلزالًا مُدمِّرًا في عالمنا المسلم الملتزم، الذي نشأ على المبادئ النبيلة، والقواعد الراسخة المُنضبطة.

وأسبابُ انزلاق النِّساء في التبعيَّة أكثرَ من الرجال هو: أنه أُجرِيَت العديد من الدراسات فأشارت أنَّ في هذه العصور يزداد عنصر الإناث على الذكور بنسب مُخيفة؛ نتيجة فقدان الرجال في الحروب، وحوادث العمل، والاعتقالات السياسيَّة والجرائم.

والسبب الآخر: نتيجة لعاطفيَّة المرأة، ولشدَّة غيرتها، وحرصها على تقليد الغير أكثر من الرجل، فينال صنفُ الإناث الحظَّ الأكبر من ذلك.

نساؤنا في الماضي:

لقد كانت نساؤنا قديمًا لا تعرف غير خدورهن وبيوتهن، فلا يخرُجن إلى الأسواق إلا نادرًا، أمَّا المدارس، فكانت المعلِّمات تقوم برعاية وتعليم البنات في البيوت، فيما يُعرف بالكُتَّاب والخُجا، ثم في مدارس بدائيَّة محافِظة، وكانت القابلات ثمَّ الطبيبات تُطبِّب النِّساء والفتيات.

وعندما تتأهَّل البنت لا ترى في الدُّنيا إلا أربعة رجال: أباها وأخاها بداية، ثم زوجها، وبعده ابنها.

فكانت الحياة الزوجيَّة في تلك العصور من أطهر وأسمى العصور؛ فلا تجد حالات الخلاف الزوجيَّة إلا كما يكون من الملح في الطعام، وكان القُضاة قلَّما يجدون قضيَّة طلاق، أو نفقة، أو خُلع يتسلون بها.

وبدأ كل ذلك يتبدَّد من خلال خطط الاستخراب - الاستعمار - على بلادنا، وما حملوه لنا من عوامل وأسبابِ الفساد، وبكافَّة أنواعه.

دخول المفسديون إلى البيوت الآمنة:

دخل المفسديون - التلفاز - البيوت، ومعه شتَّى أصناف الفساد والضَّلال، فأخرج بناتِنا من تلك الحياة الرصينة الرزينة العفيفة إلى انفتاحٍ مفضوحٍ ليس له حدود، فأخذنَ منه كلَّ جديدٍ مسمومٍ، وكان كثيرًا ما يبثُّ السفور والخلاعة، فكأن الذي اخترع التِّلفاز اشترط وحلف ألا يُنشر فيه إلا الفسق والفجور - وهذا بعيد - أو أنَّ القائمين على تلك الأجهزة يُجاهدون في حشوها بما يُخرِّب العقول، ويطعن في الدِّين، ويُسمِّم الأخلاق، ويُغيِّر الثقافة والعادات ببلادنا (وهو الأصح).

وبسبب تلك الأفكار المُخرِّبة المتلفزة، نَمَت الخلافات والمشاكل العائليَّة شيئًا بعد شيء، فقلَّما تجد حيًّا إلا وقد فشت في بيتٍ من بيوته حالة فراقٍ أو طلاقٍ، إضافةً إلى الضرب.

الصُّحون الفضائية:

لقد فُتن شعبنا الشاميُّ في الماضي بأربع قنوات مُتلفزة - الشام الأولى والثانية، والأردن الأولى والأجنبية - ثم جاء طاعونٌ جديد ووباءٌ آخر، دخل بلادنا باسم: "الدِّش أو الستلايت، أو الصُّحون الفضائية"، ففُتحت علينا صنابير من حُمم جهنم، فلا نرفع رأسنا من لكمة الأولى حتى تلحقنا لطمةٌ من الثانية، فرفسةٌ من هنا، وصفعةٌ من هناك.

وهكذا صارت حياتنا سُكْرًا ما بعده سُكر، بل إنَّ السَّكران يفيق بعد حين؛ إذا تاب، أو أفلس، أو مرض، أما سُكرنا، فهو دائم ومجانًا؛ فالقنوات تتهافت علينا بعروضٍ مُغريةٍ، حتى غدونا لا نستيقظ إلا مخمورين، عيوننا مُخَوِّخة مُنتفخة من البحلقة طوال الليل في القنوات، فجاءت التبعات بأن كثُر الطرد من العمل، والتسرُّب من المدرسة، وارتفعت نِسب رسوب الطلاب، ونشوز الأزواج والزوجات، وفشا بينهم مرضُ عدم القناعة بما قسم الله لكلٍّ منهما، إضافةً إلى فساد الأجيال، وتأخُّر البلاد في الاقتصاد، بل في كلِّ مجالات الحياة.

الهاتف المحموم:

وبعد كل هذه السلبيات التي ظفرنا بها من السيد "الدِّش"، زحف إلينا عدوٌّ أدهى وبشكلِ وباءٍ شاملٍ، وكأنَّه مغول العصر، أو يأجوج ومأجوج، بكثرته وسرعته وانتشاره، إنها كارثة الهواتف المحمومة الذَّكيَّة، التي ما سلِمت منها أسرة، وما خلا منها بيت، فزاد الطين بِلَّةً، والمريض علَّة.

قال أهلُ الشَّام في الأمثال القديمة: "إيَّاك أن تُسلِّم شيخًا ميكرفون، والمرأة تليفون"؛ كنايةً عن تمسُّكهم بالكلام، وإطالتهم واسترسالهم، هذا قديمًا عندما كانت الهواتف السِّلكية الثابتة، فكيف الآن والمرأة يرافقها ذاك الهاتفُ المحمول بالصوت والصورة والألوان والمقاطع الصوتيَّة؟! عندها يجب علينا أن نقول: على الدُّنيا السَّلام!

فوردت إلينا هذه الهواتف الذَّكيَّة حاملةً أسلحةً عجيبةً وفتَّاكة في استقطاب الشباب عمومًا، والأخوات المسلمات الطاهرات بشكلٍ خاصٍّ.

[واستفحَلَ هذا الوباء حتى شمل الجميع بلا استثناء؛ الذَّكر والأنثى، الكبير والصغير، المسلم وغيره.

واستفرد هذا الشيطان القرين بالإنسان وفي كلِّ مكان، فما أن ينتهي أحدنا من نفسه الأمَّارة بالسوء حتَّى ينقضَّ عليه الوسواس الخنَّاس؛ فيرجمه أحدُنا، ويكفُّه بالاستعاذة والأذكار، فيخنس، ثمَّ يتوارى، وبعدها يخرج الشيطان القرين المحمول الأكثر طغيانًا من الأوَّلَيْنِ، فلا يغادره إلا بنزع الروح.

حال مُدمن الهاتف المحموم:

والله لا أدري كيف أُشخِّصُ هذا البلاء، وكيف أشرحه وأصفه! فكافَّة الأمراض تأتي رغمًا عن الإنسان بلا إرادة منه، أمَّا هذا المرض الخبيث، فهو يُشترى بالمال بإرادة الشَّخص واختياره، فما زال يتقرَّب منه حتى يُصبح جزءًا منه، فيكلمه ويحدِّثه ويسهر على راحته، ويفشي له أسراره، ويبكي لفراقه، وينزعج إن مسَّه أحد غيره أو فكَّر بتفحُّصه، فتحول هذا الهاتف لمعبود (والعياذ بالله)، لا ينام حتى يراه، ويستيقظ على صوته، ويشاركه وحدته، ويملأ عليه حياته، ولا تغادره عينه.

ألستُ مُنصفًا في عَرْضي؟! أم أنَّني بالغت؟ أم قصَّرتُ في نَعتي لهذا الشيء الغريب؟

مرَّةً سألتُ بعضَ الطالبات في أحد الدروس: ما هي الأشياء العزيزة عليك، المفضَّلة لديك، التي لا طعم للحياة بدونها؟

فردَّت، وبكلِّ ثقة: إنَّه هاتفي الذَّكي.

قلت: وهل هو الأغلى لديك على الإطلاق؟

قالت: نعم، دون شك.

فصُعقتُ من الإجابة، فكرَّرتُها مرارًا؛ أملًا منها أن تستدرك ما قالت وتُغيِّر إجابتها، ولكن دون جدوى، وهنا ثُرتُ كالنمر بكلماتٍ ملتهبةٍ غاضبًا، وقلت: فماذا تركتِ للدِّين والقرآن، والسُّنة والنَّبي، والحجاب والعفَّة، والوالدين، والقيم والأخوَّة، والأخلاق والعائلة، والوطن... إلخ؟ ألا تستحقُّ أن تنال إعجابك أيَّتها الأخت؟ ألا تحظى باهتمامٍ وعنايةٍ منك أيَّتها المسلمة المؤمنة؟ ألا تدخل في نطاق الأهميَّة في حياتك؟!

فليتها قالت: إنَّ ذاك الشيطان - الهاتف - من ضمن الأشياء المهمَّة في حياتي، ويأتي في المرتبة العاشرة، أو التاسعة، أو الثامنة حتَّى، ولكن لم تتنازل رغم أنَّني سألتها مرارًا لِتَلين، وسألتُ صديقاتها فكانت أجوبتهن مختلفةً عن إجابتها، ومع ذلك لم تتراجع قِيدَ أنملة، هداها الله وأصلحها.

فالهاتف الذَّكي لا يرقى في حياتنا إلى درجة الضروريات والواجبات، ولا حتَّى المكمِّلات، فكيف تقدَّمَ بسرعة إلى هذه الدرجة؟! وكيف جحدنا حقَّ الكثير من الأولويات فجعلناها ثانوية؟ فسنُحاسب على هذه الجناية.

يقول النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم:
«يُحشَر المرءُ يوم القيامة مع مَن أحَب»، وقال: «أنتَ مع مَن أحبَبْت»؛ فيوم القيامة:  {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89]، فهل يحبُّ أحدنا في ذلك الموقف العظيم أن يبعثه المولى عزَّ وجلَّ مع شيءٍ تعلَّق به في الدنيا، ولن يُغني عنه شيئًا في ذلك الموقف الرهيب؟

ألم أقل لكم: إنَّه آفةٌ ووباءٌ عظيم، وعامل إدمانٍ خطير؟!

اللهمَّ اغفر لنا، واعف عنَّا، وعاملنا بما أنت له أهلٌ، ولا تعاملنا بما نحن له أهل، أنت أهلُ التقوى وأهلُ المغفرة.

تبريرات وهميَّة:

لعلَّ أحدكم يقول: ألا تنظر إلى محاسن هذه الهواتف وفوائدها؟ ألا تعلم أنها مُبرمَجة لخدمة الإنسان في شتَّى المجالات؟ ألا تعلم أنَّه سلاحٌ ذو حدَّيْن؟ إلى آخر هذه الأسئلة المعروفة.

نعم، والله إني أعلم ذلك، وأعلم عددًا من محاسنه، وأعرف أنَّه نعمةٌ من الله عزَّ وجلَّ، وأفهم أنَّه سلاحٌ ذو حدَّيْن.

ولكن ما رصدته خلال تعامُلي مع هذا المرض، ومن خلال احتكاكي مع النَّاس، والطلاب خصوصًا، ومن خلال معاناتي مع أهلي وجُلسائي حين يعيشون في عالمٍ آخر عندما يكون أحدهم يُدردش مع هذا البلاء ويُلاعبه، أنَّه لم يكن وسيلةً حميدةً بين أيديهم أبدًا، إلا بما نِسبَتُه واحد في الألف.

فالطلاب في دروسهم همُّهم الهاتف الذَّكيُّ، والركاب في الحافلة يسمعون الغناء في الهاتف الذَّكيِّ، وأكثر حوادث السَّير سببُها تكلُّمُ السَّائق بالهاتف، ومشاكل الزوجين والطلاق أغلبها من الهاتف والصور والدردشات، وقضايا وجرائم الشَّرف الحديثة أغلبها من الهاتف، والتفكُّك العائلي وعلاقةِ الأبوين مع الأولاد سببها الهاتف، والتجسُّس العام والخاص العائلي والدُّولي والعالمي مَنشؤه من الهاتف، والأمراض النفسيَّة والعقليَّة والأعصاب أكثرها من الهاتف، والضعف والهزال والفساد والجهل والتأخُّر أساسه الهاتف، ومُداهمة واستهداف الأعداء للمجاهدين والثُّوار في ثُغورهم كان من خلال تعقُّب الهاتف، وإفشاء الأسرار وفضح المستور وهتك الأعراض والتشهير بالخصوصيَّات سببه الهاتف، وعمليَّات الابتزاز والقرصنة وتبعاتها من استنزاف الشخص المستفَزِّ في ماله وخصوصيَّته وعِرضه سببه الهاتف، هل يكفي هذا القدر ممَّا يسبِّبه الهاتف المحموم؟ وهل يتَّسع صدركم لسرد مخازي هذا الهاتف وكوارثه على نطاق المجتمع؟

اللهمَّ نسألك اللُّطف والعون والستر الجميل.

بعض الإحصائيَّات لأمراض يُسبِّبها الهاتف الذكي:

دراسة علميَّة أُجرِيت في أمريكا أكَّدت أنَّ الهواتف الذكيَّة تُسبِّب الغباء.

دراسات تُؤكِّد إصابة الكثير ممَّن يستعملون الهاتف الذَّكي بالإدمان عليه وعدم التمكُّن من تركه.

بحث علمي في ألمانيا يُشير إلى الخطر الكبير على الأطفال جراء استعمالهم للهواتف الذكيَّة لأكثر من نصف ساعة يوميًّا.

دراسة في بوسطن الأمريكيَّة تُحذِّر من خطر الهواتف الذكيَّة قبل النَّوم.

دراسة ألمانيَّة في جامعة روستوك تشير إلى التأثير السلبي الكبير من الهواتف الذكيَّة على البصر.

مرض اسمه "رقبة الموبايل" انتشر في العالم بشكلٍ واسعٍ، وهو عبارة عن آلام في الرقبة بتأثير الهاتف الذكي.

أمراض السمع والتَّوازن وعدم التركيز يُسبِّبها الهاتف المحمول.

السرطان والاضطرابات العصبيَّة يُسبِّبها الهاتف الذكي.

آلام العين والأرق، والقلب وتصلُّب الشرايين والأصابع بسبب الهاتف الذكي.

وليس نحن بصدد سردٍ علميٍّ لكلِّ الأمراض التي يُسبِّبها الشيطان القرين الهاتف المحموم.

وأعلم أنَّ الكثير منَّا يعرف كلَّ ما يتعلَّق بمشاكل وأمراض يُحدثها هذا الجهاز، ومع ذلك نرى المُتيَّم به يعشق أمراضه، فلعلَّه وصل إلى حالةٍ خطيرةٍ من الإدمان، أو العشقِ، أو الشغف الذي سينتهي بالموت بعد الجنون.

كيف نركن وأولادنا في خطر؟

فبرأيكم هل شبابنا وأولادنا يعرفون الطريق الصحيح؟

وكيف ننعم بالراحة وهم بين أنياب ومخالب وحشٍ مُفترس؟

فهل يملك الطفل الاختيار السليم في معرفة حقائق الأشياء؟

إنَّ الكثير من الكبار وأصحاب الخبرة لا يستطيعون التحكُّم والسيطرة على هذا المارد إلا مَن عصمه الله؛ فالشباب والصغار - من باب أولى - أنَّهم عاجزون عن نِزال هذا الوحش، أو كَبْت أنفسهم تجاهه، ويحتاجون لعونٍ كبيرٍ من ذَويهم لنجدتهم من براثن هذه الهواتف، فصدِّقوني إنِّي أخشى على نفسي من وباء هذا الهاتف، وأرجو الله العون في أن يعصمني منه، ويُبعدني عن زلَّاته.

وكلما أوغلنا في صحاري أو بحار هذا الهاتف المحموم، ظهرَتْ لنا ظُلماتٌ مُتراكبة، وأوهام مُتجدِّدة، وضياع مُحقَّق، فهل نُتابع المسير أم نتوقَّف وقد عرفنا المآل؟!


الأمراض السلوكيَّة:

أمَّا الأمراض السلوكية، فتلك الطَّامة الكبرى التي يكادُ القلب يتفطَّر ألمًا على ما أصابنا من شظايا تلك الأسلحة الفتَّاكة التي قضت على أخلاق أمَّتنا، فتلك النافذة مع أنَّها صغيرةُ الحجم فإنَّها واسعةٌ لأبعد الحدود في نقل ذاك المتصفح - الشخص - أو المتجوِّل إلى المكان الذي يُريده.

تظهر أعراضه بالبُعد عن مراقبة الله، ونسيان الواجبات والفرائض، وانحلال عُرى الأخلاق والقيم واحدة تلو الأخرى، وبعدها الانغلاق والتقوقُع، وهدر وضياع الأوقات، ثم تنامي المشاكل العائلية مع الوالدين والإخوة، ثم بالتجاوزات من خلال حبِّ الفضول والاطِّلاع غير المنضبط والتجسُّس على الآخرين، ثم يبدأ الانزلاق الخطير بالإعجابات، ثمَّ التعليقات، وبعدها الرسائل الخفيفة فالمبطَّنة، ثم يستفحل الأمر حتى يقع الشاب أو الفتاة بشراك المجرمين والسُّفهاء، فيسرقون صورها ويبتزُّونها، ويهددونها، أو تفعل ما يريدون منها، وقد يكون هؤلاء شبكة كبيرة لفعل كلِّ ما يحرم، فليس عندهم شيء ممنوع أو حرام أو عيب، وهكذا تنتشر الجرائم، وتتوسَّع الكوارث السلوكيَّة الناشئة من آلة اسمها الهاتف الذَّكي.

أختي الكريمة، أخي الكريم!

ليس صعبًا أن تُغيِّرَ أيَّ شيء اعتدت عليه، ولو كان من أكثر الأشياء التصاقًا بك؛ فإرادتك الموهوبة من الله أقوى من أيِّ مصنوعٍ زائفٍ، وإصرارك أكبر من أيِّ عادة استحكمت بك، وعزيمتُك أجدر من أيِّ وهمٍ دخل فِكرك خلسةً وأراد التمسُّك به، ويزيد هذا الإصرارَ على ترك الشيء والابتعاد عنه تعاظُمُ شرِّه واستفحاله، والتمسُّك بحبل الله المتين فهو المُعين لك على جهادك.

أمثلة حيَّة في قوَّة الإنسان على تغيير ما اعتاده:

العرب في الجاهلية تركوا العديد من الأشياء العزيزة على قلوبهم، وما تصوَّروا يومًا الاستغناء عنها؛ فقد حطَّموا آلهتهم الخشبيَّة والحجريَّة المصنوعة بأيديهم، والتي لا تنفعهم ولا تضرُّهم، بعدما بُعث النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بدينِ الحقِّ والتوحيد.

ثم استغنَوا عن الرِّبا الذي كان مُتشبِّثًا بأفكارهم وعقولهم وتجارتهم، وقد كان يأتيهم بأرباحٍ طائلة، وذلك بعدما أمرهم الإسلام بتركه؛ لما فيه من ظلمٍ وغمطٍ للحقوق.

وكذلك القِمار والزِّنا، فقد كانت هذه الممارسات مُعتادة لديهم، فبعد أن جاء أمر ربِّهم فعرفوا مساوئها، قالوا: انتهينا يا رب.

ثم تركوا الخمر الذي كان يمشي في عروقهم، فكان الخمر لهم لبانًا يتجرَّعونه وهم صغار، ومع ذلك تحدَّوا أنفسهم وتمسَّكوا بالله؛ فأعانهم عندما صدَقوا.

فلا تيئس أخي الكريم، ولا تيئسي أختي الفاضلة، وابتعدوا عن هذا الفتَّان، والمعصوم مَن عصمه الله.

الاستيقاظ من الغفلة، والصَّحوةُ قبل فوات الأوان:

بعدما علمت ما يُسبِّبه هذا الهاتف في فتور الهِمم، وضمور العضلات، وضعف الجسم، وخراب العقل، فعليك الإسراع في الترميم والإصلاح، فبُعدك عنه يجب أن يُولِّد طاقةً كبيرةً في الرغبة في ممارسة الرياضة، واستنشاق الهواء النَّظيف بعد أن كنت منغلقًا، والتدريب على التفكير العميق بعد ذاك التقوقُع، والنظر في الأُفق لتُعوِّض ما فاتك، فتُعطي هذا الجسم حاجته من هذه الطبيعة التي أنعم الله علينا بها.

كما أنَّك كنت تعطي الهاتف الذَّكي قدرًا فوق المعقول من النَّظر إليه والبحث به، فعليك الآن النَّظر والبحث في كتاب الله عزَّ وجلَّ؛ ليُبارك الله تعالى فكرك وبصرك وسمعك.

كم وكم شوَّشت دماغك بسماع الأغاني والأناشيد على هاتفك! والآن أزِلْ ما علق في ذهنك من الأغاني، وما لوثت أذنيك من الموسيقا والمجون، واستبدل بها سماع القرآن بصوتك العذب.

كم ابتعدت عن القراءة والمطالعة والمعرفة أثناء إدمانك الهاتف المحموم! فالآن عليك أن تكبَّ على الكتب بنَهَمٍ وعطش، فتستزيد مما ينفعك، وتداوي جراحك ببلسم العلوم، ومرهم المعارف؛ فالكتاب خيرُ جليسٍ وأنيس.

ما أجمل أن تأخذ مكانك من جديد في حِلق العلم ومجالس القرآن والذِّكر في روض المساجد! فتبدل جلسات الخيال والأوهام والسيِّئات، بجلسات الحبِّ والعلم والخير والطيِّبات.

أختي المسلمة، عُودي إلى أمِّك التي طالما آذيتها كثيرًا من أجل هاتفك، وتصالحي مع إخوتك؛ فقد ترك الهاتفُ بينكم العداوة والبغضاء، فتقرَّبي وتودَّدي إليهم، فأنتِ بحاجةٍ لهم، وهم بحاجةٍ لوُدِّك وحبِّك، فلا يمكنك الاستغناء عنهم.

أيها الإخوة، عُودوا كما كنتم قديمًا، تتسامرون وتتجالسون مع العائلة، فتلعبون وتمرحون، وتتسلون وتقصُّون القصص الجميلة بينكم؛ لترجع لكم المودَّة والسعادة كما كانت، وتتعمَّق وشائج الصِّلات وروابط الإخاء بينكم، فتعود الأسرة المسلمة مُترابطةً مُتماسكةً، مُتفاهمةً مُتحابَّة.

إخوتي، عودوا فبثُّوا مشاكلَكم وأوجاعكم ومعاناتِكم في مجلس العائلة؛ حيث تنطلق مبادرات المساعدة، وتمتدُّ أيدي العون، مُمتزجةً بكلمات المواساة تارةً، والتشجيع تارةً أُخرى، فتُخفِّف ما بكم من آلام، وتشحنكم بعباراتِ الجدِّ والنشاط وعدم اليأس، وترسخ روابط الحبِّ المُتبادَل.

إخوتي، عزِّزوا مكانةَ الأسرة في المجتمع، وحافظوا عليها، وأعيدوا سيرتها الأولى، وأزيلوا عوامل تفكُّكِها وانحلالها؛ ليعود الله لنا:
{وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء: 8]، وتمسَّكوا جميعًا بعون الله، فتمسُّك الجماعة أقوى من تمسُّك الفرد: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، واعلموا أنَّ الله أقرب للجماعة من الفرد (يد الله مع الجماعة)، وابتعدوا عن هذا الهاتف المحموم الذي عزَّز أسباب الفُرقة والانقسام والنِّزاع: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46].

وهكذا تسمو أُسرُنا ويعلو شأنها، ويتجلَّى الله علينا برحمته، وتفيض البركات بيننا، وتتنزَّل علينا السكينة، ويرضى عنَّا ربُّ العباد:
«ارحموا مَن في الأرض، يرحمكم مَن في السماء».

ملاحظة مهمَّة: قرأت أنَّ كثيرًا ممَّن ابتكروا هذه الهواتف الذكيَّة لا يستعملونها ويُحرِّمونها على أولادهم؛ لخطورتها وشدَّة فتكها بعقولهم وأجسامهم.

الكاتب: فراس السقال

  • 2
  • 0
  • 8,491

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً