عالم يرتعش منه السلطان
كان الشيخ "آق شمس الدين" لا يخشى في الله لومة لائم، فلم يكن ذاك العالم الذي يرتجي رضوان السلطان من دون الله ككثير من علماء هذا العصر الذين لا شاغل لهم سوى منافقة السلطان، متاجرين في الدين لايقولون إلاما يُرضي الحكام، إنما كان ذو كلمة حق، وبمثله تنهض الأمة الإسلامية وتعلو راية الحق.
آق شمس الدين
الفاتح الروحى لإسطنبول (القسطنطنية )
من هو؟
وقفت عند قبره فى مدنية جونياك الصغيرة التى تشعر فيها بريح طيبة وهدوء كانها كلها مسجد فوجدت خشوع لافت جدا من الاتراك نساء شباب شيوخ اطفال رجال ياتون برحلات من مسافات طويلة.
من هو ذلك الرجل الذى ينحنى الاتراك لذكراه؟
إنه الشيخ "آق شمس الدين" أحد أبرز أعلام العلم والجهاد و الحضارة الإسلامية في العهد العثماني.
هو الشيخ "محمد شمس الدين بن حمزة"، ويتصل نسبه إلى الخليفة الراشد "أبو بكر الصديق" رضي الله عنه، وهو أستاذ السلطان "محمد الفاتح"، والفاتح المعنوي لمدينة إسطنبول.
ولد آق شمس الدين في دمشق عام 1389م، وحفظ القرآن وهو في السابعة من عمره ثم أنتقل مع عائلته إلى أماسيا، أهتم الشيخ آق شمس الدين بالعلم منذ صغر سنه، ودرس في أماسيا ثم في حلب ثم في أنقرة، وكرس حياته للعلم حتى غدا من العلماء المشهوريين في مجال العلوم الإسلامية وزاد عليها فى الطب والفلك وعلم الأحياء والرياضيات وبعد ما أكمل دراسته أتخذ مكانه بين العلماء العظماء، فأصبح أحد كبار علماء عصره، وعمل في المدارس العثمانية لسنوات طويلة فنشأ على يده مئات الطلاب من المبدعين.
بدأت شهرته عندما كان مدرساً للسلطان "محمد الثاني"، حيث بقي قائماً على تدريس السلطان "محمد الفاتح" حتى بلغ أشده، فتعلم الفاتح على يده العلوم الأساسية كالقرآن الكريم والسنة النبوية والفقه واللغات (العربية والفارسية والتركية) وعلم الفلك والرياضيات والتاريخ، وهو الذى كان يحمسه ويذكره بفتح القسطنطنية لذا فقد كان له تأثيراً بالغاً على توجهات محمد الفاتح عسكريا وثقافياً.
نعم المربي الشيخ آق شمس الدين هو الباني الأول لقلب وعقل السلطان محمد الفاتح، والذي م يكن تجاوز العاشرة عندما كان أستاذه يمسك بيده ويمشيان معاً على شاطئ البحر المحيط بأسوار القسطنطينية الحصينة، ثم يقول له الأستاذ: أترى هذه الأسوار الشاهقة والمدينة العظيمة؟ إنها القسطنطينية، وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن رجلاً من أمته سيفتحها بجيشه ويضمها إلى أمة التوحيد: «لَتَفْتَحْنّ القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش».
كان آق شمس الدين زراعاً للخير، بصيراً بمكامن النفوس وكان يتوجه إلى الله أن لايضيع له جهداً في تربية الأمير الصغير محمد (والذي صار بعد سنوات: السلطان محمد الفاتح).
وعندما أصبح الأمير محمد سلطاناً على الدولة العثمانية وجهه "آق شمس الدين" على الفور للتحرك بجيوشه لفتح القسطنطينية، فكان له مساهمة مباشرة وغير مباشرة في فتح اسطنبول، حيث شارك آق شمس الدين بنفسه وأخذ أبنائه وطلابه وتلاميذه في جيش الفتح العظيم ولم يقل لهم أنكم طلبة علم فعليكم بالدروشة والإنكفاء على الكتب بل أخذهم للجهاد فهو مدرسة العلم الحقيقية... وهناك لُقب باسم "الفاتح الروحي لمدينة إسطنبول".
ونتوقف مع الفتح... فقد سبقه تربية وإعداد فقد كان السلطان مراد الثاني كان هو والد الأمير محمد، وكان يصطحبه معه إلى بعض المعارك، ليبني في نفسه روح المجاهد ونفسية القائد، وليتعلم قيادة الجيش وفنون القتال عملياً، حتى إذا ما ولي السلطنة وخاض غمار المعارك كان له القدح المعلى فيها …. ولما جاء اليوم الموعود شرع السلطان محمد الفاتح في مفاوضة الإمبراطور قسطنطين ليسلمه القسطنطينية، فلما بلغه رفض الإمبراطور تسليم المدينة قال رحمه الله: (حسناً، عن قريب سيكون لي في القسطنطينية عرش أو يكون لي فيها قبر).
وحاصر السلطان القسطنطينية واحداً وخمسين يوماً، وبعدها سقطت المدينة الحصينة التي استعصت على الفاتحين قبله، على يد بطل شاب له من العمر ثلاث وعشرون سنة.
وهنا نتوقف مع موقف لاينسى سجله التاريخ... أثناء فتح القسطنطينية أراد السلطان أن يكون شيخه جانبه أثناء الهجوم فأرسل إليه يستدعيه، لكن الشيخ كان قد طلب ألا يدخل عليه أحد الخيمة ومنع حراس الخيمة رسول السلطان من الدخول، وغضب محمد الفاتح وذهب بنفسه إلى خيمة الشيخ ليستدعيه، فمنع الحراس السلطان نفسه! من دخول الخيمة بناءً على أمر الشيخ!
( ماذا فعل السلطان وهو السلطان هل ضرب الحراس اوقبض عليهم ابدا أمتثل لامر شيخه ولكنه تحايل).
فأخذ محمد الفاتح خنجره وشق جدار الخيمة في جانب من جوانبها ونظر إلى الداخل فإذا بشيخه آق شمس الدين ساجدٌ لله في سجدة طويلة وعمامته متدحرجة من على رأسه وشعر رأسه الأبيض يتدلى على الأرض، ولحيته البيضاء تنعكس مع شعره كالنور، ثم رأى السلطان شيخه يقوم من سجدته والدموع تنحدر على خديه، فقد كان يناجي ربه ويدعوه بإنزال النصر ويسأله التمكن والفتح القريب.
عاد السلطان محمد (الفاتح) عقب ذلك إلى مقر قيادته ونظر إلى الأسوار المحاصرة فإذا بالجنود العثمانيين قد أحدثوا ثغرات بالسور تدفق منها الجنود إلى القسطنطينية، ففرح السلطان بذلك وقال: ليس فرحي لفتح المدينة فقط إنما فرحي بوجود مثل هذا الرجل في زمني.
وذكر الإمام الشوكاني صاحب البدر الطالع مايلي:
مما حصل بعد يوم واحد من الفتح (جاء السلطان إلى خيمة ( آق شمس الدين) وهو مضطجع فلم يقم له، فقبل السلطان يده وقال له: جئتك لحاجة، قال: وما هي؟
قال: أن أدخل الخلوة عندك، فأبى، فأبرم عليه السلطان مراراً وهو يقول: لا.
فغضب السلطان وقال: إنه يأتي إليك واحد من الأتراك فتدخله الخلوة بكلمة واحدة وأنا تأبى علي.
فقال الشيخ: إنك إذا دخلت الخلوة تجد لذة تسقط عندها السلطنة من عينيك فتختل أمورها فيمقت الله علينا ذلك.
انظروا الى فقه وحكمة الرجل انه يخشى أن يزهد السلطان فى الحكم ويتدروش فلا يقوم بمهام الحكم من قوة.
والغرض من الخلوة تحصيل العدالة، فعليك أن تفعل كذا وكذا، وذكر له شيئاً من النصائح – ثم أرسل السلطان إليه ألف دينار فلم يقبل، ولما خرج السلطان محمد الفاتح من عند الشيخ قال لبعض من معه: ما قام الشيخ لي.
فقال له: لعله شاهد فيك من الزهو بسبب هذا الفتح الذي لم يتيسر مثله للسلاطين العظام، فأراد بذلك أن يدفع عنك بعض الزهو.
وبعد الفتح العظيم للقسطنطينية كان الشيخ آق شمس الدين أول من يلقي خطبة للجمعة في مسجد آيا صوفيا.
وهنا يقول السلطان محمد الفاتح أن أعظم لحظة فى حياتى ساعة أن صعد شيخى ومعلمى آق شمس الدين وخطب اول جمعة فى آيا صوفيا.
كان الشيخ محبوباً لدى الفاتح، وقد عبّر الفاتح عن إحترامه له بقوله: "إن احترامي للشيخ آق شمس الدين، إحترام غير إختياري، وإنّني أشعر وأنا بجانبه بالإنفعال والرهبة".
لم يحتل أحد في قلب محمد الفاتح مكانة مثلما إحتلها أستاذه آق شمس الدين، أما آق شمس الدين فكان مهيباً لا يخشي سوا الله، لذا كان عند قدوم السلطان لزيارته لا يقوم له من مجلسه، أما عند زيارته للسلطان فقد كان السلطان يقوم له من مجلسه توقيراً له وإحتراماً ويجلسه بجانبه، حتى لاحظ ذلك وزراء السلطان وحاشيته، حتى أبدى الصدر الأعظم "محمود باشا" دهشته للسلطان فقال له: لا أدري يا سلطاني العظيم، لم تقوم للشيخ "آق شمس الدين" عند زيارته لك، من دون سائر العلماء والشيوخ، في الوقت الذي لا يقوم لك تعظيماً عند زيارتك له؟
فأجابه السلطان: أنا أيضاً لا أدري السبب، ولكني عندما أراه مقبلاً علي، لا أملك نفسي من القيام له، أما سائر العلماء والشيوخ، فإني أراهم يرتجفون من حضوري، وتتلعثم ألسنتهم عندما يتحدثون معي، في الوقت الذي أجد نفسي أتلعثم عند محادثتي الشيخ آق شمس الدين.
هكذا كان الشيخ "آق شمس الدين" لا يخشى في الله لومة لائم، فلم يكن ذاك العالم الذي يرتجي رضوان السلطان من دون الله ككثير من علماء هذا العصر الذين لا شاغل لهم سوى منافقة السلطان، متاجرين في الدين لايقولون إلاما يُرضي الحكام، إنما كان ذو كلمة حق، وبمثله تنهض الأمة الإسلامية وتعلو راية الحق.
عالم موسوعة بخلاف علمه الشرعي:
اشتهر الشيخ آق شمس الدين في علم النبات، فكان له الكثير من البحوث فيما يخص علم النبات والصيدلة حتى ضُرب فيه مثل يقول: "إن النبات ليحدث آق شمس الدين"، واهتم أيضاً بالأمراض النفسية فأشتهر بلقب "طبيب الأرواح"، وكان له بصمة بارزة في مجال الطب والأمراض المعدية حيث ألف كتاباً في ذلك بعنوان "مادة الحياة" ومما ورد في هذا الكتاب "من الخطأ تصور أن الأمراض تظهر على الأشخاص تلقائياً، فالأمراض تنتقل من شخص إلى آخر بطريقة العدوى، وهذه العدوى صغيرة ودقيقة إلى درجة عدم القدرة على رؤيتها بالعين المجردة، لكن هذا يحدث بواسطة بذور حية".
وبهذا فقد وضع الشيخ آق شمس الدين أول تعريف للميكروب في القرن الخامس عشر، حيث لم يكن قد ظهر الميكروسكوب (المجهر) بعد، ليأتي بعد ذلك بأربعة قرون العالم الفرنسي "لويس باستير" ليصل إلى نفس النتيجة.
من أشهر مؤلفاته كتابين في الطب هما "مادة الحياة" و"كتاب الطب" وهما باللغة العثمانية، وسبع كتب باللغة العربية من أهمها "حل المشكلات" و"الرسالة النورية" و"رسالة في ذكر الله".
عاد الشيخ آق شمس الدين بعد ست سنوات من فتح القسطنطينية إلى موطنه جونياك بعد أن أحس بالحاجة إلى ذلك رغم إصرار السلطان على بقائه في إسطنبول فمات عند وصوله عام (863 هـ/ 1459 م).
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلاطين أُفتُتن، وما إزداد عبد من السلطان قرباً إلا إزداد من الله بعداً». (رواه أحمد في المسند).
رحم الله الشيخ اق شمس الدين العالم المجاهد فقد عرفت لما يقف الاتراك فى خشوع ودعاء عند قبره أنه العمل الصالح الذى تفوح أثاره وكتبه التاريخ بحروف من ذهب.
ورحم الله محمد الفاتح الحاكم المسلم المجاهد... ورزقنا مثلهما
- التصنيف: