عون الرحمن في وسائل استثمار رمضان - (7) الإعداد للطاعة ومحاسبة النفس عليها

منذ 2018-04-22

المُحاسبة إذا واظب عليها المرءُ صارت مسلكًا لا يحتاج إلى تكلُّفٍ ومعالجة، وسيجد غِبَّ هذه المُحاسبة وثمرتَها تزايدًا في مقام الإحسان الذي سعى إليه كلُّ السالكون: أن يعبد الله كأنَّه يراه.

(7) الإعداد للطاعة ومحاسبة النفس عليها

القاعدة السادسة: الإعداد للطاعة ومحاسبة النفس عليها:

 

وهما وظيفتان متبايِنَتان، لكنَّهما متداخِلتان؛ أيْ: يتعاقبان، ويتوارد أحَدُهما على الآخَر؛ أمَّا الإعداد للعمل، فهو علامة التوفيق، وأمَارة الصِّدق في القصد: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة: 46]، والطاعة لا بدَّ أن يُمَهَّد لها بوظائفَ شرعيَّةٍ كثيرة حتى تؤتِيَ أُكلها، ويُجتَنى جَناها، وخاصَّة في شهر رمضان؛ حيث تكون الأعمال ذات فضلٍ وثواب، وشرَفٍ مُضاعف لفضل الزَّمان، فصلاة الجماعة لا بدَّ أن تُسبق بإحسان الوضوء، ونيَّةٍ صادقة حسَنة في تحصيل الأجر، وزيارة الله - عزَّ وجلَّ - في بيته، وتعظيم أمره، والبِدار في تلبية ندائه: "حي على الصَّلاة"، والمسارعة في سماع خطابِه، والالتذاذ بِمُناجاته ولقائه.

 

فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ( «صلاة الرَّجل في جماعة تَضعُفُ صلاتَه في بيته وفي سوقه خمسًا وعشرين ضعفًا؛ وذلك أنَّه إذا توضَّأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد، لا يُخرِجه إلا الصلاةُ، لم يَخْطُ خطوة إلاَّ رُفِعت له بِها درجةٌ، وحُطَّت عنه بها خطيئة، فإذا صلَّى لم تزَل الملائكة تصلِّي عليه ما دام في مُصلاَّه ما لم يُحدث، تقول: اللهم صلِّ عليه، اللهم ارحَمْه، ولا يزال في الصَّلاة ما انتظر الصلاة»؛ (والحديث متَّفق عليه).

 

ويَحتفُّ بهذا الإعداد - في التطهُّر والنِّيات - إعدادٌ نفسي للُقْيا الله - عزَّ وجلَّ - ويكون ذلك بأمورٍ، منها: ترداد الأذكار الشرعيَّة الواردة عند الخُروج من البيت والمَشْي إلى المسجد؛ فإنَّها مهمَّة في حضور القلب، ومنها عدم فِعْل ما يتَنافى مع الوقار والطُّمَأنينة أثناء المَشْي إلى المسجد؛ كتشبيكِ الأصابع، وكثرة التلفُّت والتطلُّع إلى المارَّة، وزخارفِ وزهرة الدنيا - وخاصة في هذه العصور - وعدم الإسراع والسَّعي؛ وذلك أن المشي إلى الصلاة جزءٌ هامٌّ ممهِّد للخشوع في الصلاة؛ لذا قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: «إذا أُقِيمت الصَّلاة فلا تأتوها وأنتم تسعَوْن، وأْتُوها وأنتم تَمْشون وعليكم السَّكينة»؛ والحديث متَّفَق عليه، وفي رواية لمسلمٍ: «فإنَّ أحدَكم إذا كان يعمدُ إلى الصلاة فهو في صلاة»، ولا ينبغي أن يُكْثِر من الضَّحك قبل الصلاة وبعدها؛ فإنَّه يذهب لذَّة الخشوع، ويقسِّي القلب، ويَحُول بينه وبين الشُّعور بثمرة الطَّاعة.

 

وعند دخول المسجد لا بُدَّ أن يَدْخله معظِّمًا، مُظهِرًا الوجَل من مهابة المكان وصاحبه؛ فإنَّ المساجد منازِلُ الرحمة، ومهابط البَركات؛ لذا شرع أن يقول الدَّاخلُ إلى أيِّ مسجد: أعوذ بالله العظيم، وبوجهِه الكريم، وسُلْطانه القديم من الشيطان الرَّجيم.

 

فإذا دخل المسجدَ شَرع في السُّنة الراتبة أو النافلة، ريثما يُقام للصلاة، وأهمِّية هذه السُّنة أو النافلة تَكْمُن في تهيئتها وتمهيدِها للفريضة لكمال الحضور فيها.

 

ثم يَشْرع في صلاة الفريضة، مستحضرًا ما سأذكره عن وسائلِ تحصيل لذَّة الطَّاعة في الصلاة عند الكلام عن وسيلة المُحافظة على الصلاة - إن شاء الله.

 

ومن جنس هذا: الاستعدادُ لصلاة التراويح؛ فإنَّها من أعظم العبادات في ليالي رمضان؛ ففي الصحيح أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تقدم من ذنبه»، وعن أبي ذرٍّ قال: صُمْنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رمضان فلم يَقُم بنا شيئًا من الشهر حتى بقي سبعٌ، فقام بنا حتى ذهب ثُلث اللَّيل، فلما كانت السادسة لم يَقُم بنا، فلما كانت الخامسة قام بنا حتى ذهب شطر الليل، فقلتُ: يا رسول الله، لو نفلتنا قيام هذه الليلة - أيْ: قُمْت بنا الليلة كلَّها - قال: فقال: «إن الرجل إذا صلَّى مع الإمام حتَّى ينصرف حُسِب له قيام الليلة»؛ والحديث رواه أبو داود بإسنادٍ صحيح.

 

ويشكو كثيرٌ من المواظبين على قيام الليل في رمضان من عدم لَمْسهم لثمرة هذه الصَّلاة، مع اعتقادهم بأهميتها، وسَعْيِهم لبلوغ الغاية من أدائها، والحقُّ أن هذه الصلاة المهمَّة - كغيرها - تحتاج إلى إعدادٍ وتَهْيئة، فيَلْزم الراغب في الانتفاع من صلاة التراويح إقلالُ الطَّعام للغاية، ويُحبَّذ أن يأتي المسجد وفي بطنه مسٌّ من جوع؛ فإنه مُثْمِر جدًّا في حضور القلب، ويَنْبغي عليه أن يتطهَّر جيدًا، ويلبس أحسن الثِّياب، ويأتي الصلاة مبكرًا، وقبيحٌ جدًّا أن تفوته صلاة العشاء، فهذا دليلُ الحرمان وعدم الفقه في الدِّين؛ فإنَّ صلاة العشاء في جماعةٍ تَعْدِل قيام نصف ليلة، كما في الحديث، فوق كونِها فريضةً، والله - عزَّ وجلَّ - يقول في الحديث القدسيِّ الذي رواه البخاريُّ: «وما تقرَّب إليَّ عبدي بأحبَّ إليَّ مما افترضتُه عليه».

 

ثم يَسْتحضر القدومَ على الله، والوفادة إليه، وانتهاز فرصة التعرُّض لرحمته والعتقِ من النَّار، ويذهب إلى المسجد يدفعه الشَّوق والرغبة في الفضل، ويكدِّره الحياء من الله، وخوف الردِّ والإعراض، ويطلب مساجد أهل السُّنة حتى يُوهَب للصالحين إن كان من غير المقبولين، ثم يَسْتحضر ما ذكرتُه من وظائف عند الدُّخول في الصلاة وأثناءَها.

 

وأما مُحاسبة النفس على الطاعات، فهذا من أنفع الوظائف التي يقوم بها العابدون في شهر رمضان، والأصل أنَّ المُحاسبة وظيفةٌ لازمة لسالك طريق الآخرة، ولكنَّها تتأكَّد وتزداد في هذا الشهر.

 

والمُحاسبة معناها: فَحْصُ الطاعة ظاهرًا وباطنًا، وأولاً وآخِرًا؛ بحثًا عن الثَّمرة؛ ليعرف مأتاها فيحفظَه، وقدْرَها فينمِّيه، ووصولاً للنقص سابقًا؛ ليتداركه لاحقًا.

 

والمُحاسبة تكون قبل العمل وأثناءه وبَعده؛ أما قبله فبالاستعداد له، واستحضارِ ما قصَّر فيه؛ حتَّى يتلافاه، وأثناءه: بمراقبة العمل ظاهرًا وباطنًا، أوَّله وآخره، والمحاسبة بعد العمل: بإعادة ذلك العمل.

 

وهذه المُحاسبة إذا واظب عليها المرءُ صارت مسلكًا لا يحتاج إلى تكلُّفٍ ومعالجة، وسيجد غِبَّ هذه المُحاسبة وثمرتَها تزايدًا في مقام الإحسان الذي سعى إليه كلُّ السالكون: أن يعبد الله كأنَّه يراه.

 

ومثلُ هذه المُحاسبة ينبغي أن تكون في الخَفاء، يحاور نفْسَه وهواه، ويعالِجُ أيَّ قصورٍ بِلوم نَفْسِه وتقريعها، وعقابِها على كسَلِها وخمولها.

 

ولا يُنصح بِمُداومة الاعتماد على أوراد المُحاسبة الشائعة، وقد اختلف فيها الناس على طرفَيْن، فمنهم من جعلَها وسيلةً دائمة للتَّربية، وطريقةً ناجحة لتقويم النَّفْس، ومنهم من بالغ ومنَع منها مطلقًا، واصفًا إيَّاها بالبدعة، والحقُّ التوسُّط، نعم هي وسيلةٌ لم تَرِد عن سلف هذه الأمَّة، لكن تشهد لها نظائر في الشَّرع؛ مثل: عدِّ التسبيح بالحصى، ونحو ذلك مما ثبتَ عن الصحابة والتابعين، ثم إننا لا نقول بجواز الاعتماد على تلك الأوراد في كلِّ الأحايين، بل ننصح بها في بداية السير، وأيضًا لا نُلزم بها أحدًا، ولكن من عوَّل عليها في بداية سيره - لكون نفسه متمردةً شَمُوسًا - فنرجو ألاَّ يكون ثَمَّةَ حرَج؛ شرطَ عدمِ توالي اعتمادِه عليها.

 

والصَّواب تنشئة النَّفس على دوام المُحاسبة الذاتيَّة والمراقبة الشخصيَّة، وتعويدها على العقاب عند الزَّلَل؛ فإن هذا من شأنه أن يُنقِّي العبادة من أيِّ حافز خارجي، دخيلٍ على النِّية الصالحة كرغبةٍ في تسويد ورقة المحاسبة أو نحو ذلك، وقال الحفظيُّ:

 

شَارِطِ النَّفْسَ وَرَاقِبْ *** لاَ تَكُنْ مِثْلَ البَهَائِمْ

ثُمَّ حَاسِبْهَا وَعَاتِبْ *** وَعَلَى هَذَا فَلاَزِمْ

ثُمَّ جَاهِدْهَا وَعَاقِبْ *** هَكَذَا فِعْلُ الأَكَارِمْ

لَمْ يَزَالُوا فِي سِجَالٍ *** لِلنُّفُوسِ مْحَارِبِينَا

فَازَ مَنْ قَامَ اللَّيَالِي *** بِصَلاَةِ الْخَاشِعِينَا

 

الكاتب: محمود العشري.

محمود العشري

كاتب له عدد من الكتابات في المواقع الإسلامية

  • 5
  • 0
  • 10,342
المقال السابق
(6) إعداد بيانٍ عن عيوبك وذنوبك المستعصية
المقال التالي
(8) مطالعة أحكام الصوم وما يتعلق بشهر رمضان

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً