دور الفتوى في الحفاظ على هوية الدول والأمم (2)
غاية الفتوى أن تخلق في ضمير الناس حب الله وحب التدين وحب الأوطان، وحب إشاعة العدل والرحمة والمساواة، وحب الناس أجمعين.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
ضبط الفتوى وتنظيمها أصبح واجب الوقت ومهمة العقلاء والربانيين من علماء ودعاة وقادة مخلصين.
إن الإسلام وهو يقدم نفسه كطبيب يعالج أمراض الأمم والمجتمعات في جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية... لَيَعْتَبِرُ الفتوى لِسَانَ حَالِهِ وَنَاطِقَهُ الرسمي وبَيَانَهُ الأمين؛ فينبغي أن يكون المفتي والفتوى على قدر هذه المسؤولية والمستوى، على المفتي أن يجعل نُصْبَ عينيه عالمية الإسلام وشُمُولِيَّتَه وإنسانيته وسماحته، كونه طبيبًا ماهرًا يعالج آفات النفس والفكر والتصور، وعلى نص الفتوى أن يكون جامعًا لشتات الأمة وموحدًا لما تفرق منها ومعينًا على السير في طرق الحق من غير بدعة مضلة ولا فتنة مخلة.
إن الشعوب المُتْعَبَة من طول المسير تتطلع إلى طبيب بارع مخلص يزيح عن كاهلها عذابات النفس ووجع الضمير وظلم الأيام والسنين، وغاية الفتوى أن يجد فيها المستفتي لذة الأُنس والأمان وراحة القلب والوجدان، يرى ذاته سابحةً في روح الإسلام العذبة، ويجد نفسهفي عالمٍ منالسكينة الخالدة، تراه محبًّا لدينه معتزًّا بانتمائه متعلقًا بربه، يرجو رحمة ربه وعفوه وغفرانه.
غاية الفتوى أن تخلق في ضمير الناس حب الله وحب التدين وحب الأوطان، وحب إشاعة العدل والرحمة والمساواة، وحب الناس أجمعين.
وغاية الفتوى في بلاد الأقليات المسلمة أن يجد المستفتي ما يُشجعه على التمسك بدينه والاعتزاز بانتمائه وما يُحَفِّزُهُ على الاقتداربتقديم نفسه قدوةً حسنةً للآخرين في أقواله وأفعاله وأفكاره وسلوكه.
والمسلمون في بلاد الأقليات المسلمة في اختبار صعب وامتحان رهيب؛ فإما أن يتمثلوا الإسلام على حقيقته الناصعة؛ فيكونوا بذلك سفراء خيرٍ وبركة، أو أن تَلْوِيَ أعناقَهُمْ فتاوى الغلاة والمتطرفين؛ فيكونوا بذلك قد قدموا صورة مشوهة عن الإسلام فيحملون وزر ما حملوه،ويخيب رجاء أمتهم فيهم ويخسروا دنياهم وآخرتهم.
الفتوى باب واسع من أبواب الدعوة إلى الله ونشر الخير والفضيلة والتيسير على الناس، وهي في نفس الوقت ليست بابًا من أبواب التبرير لسلوك طريقالتهاون والتَّفَلُّت من عِقال الدين والشريعة.
الفتوى ليست سوطًا مُسلطًا على الرقاب والأعناق، وهي كذلك ليست صكوك عفو وغفران للمتلاعبين والعابثين بالمبادئ والقيم.
الفتوى من أعظم الحراس الأمناء على الهوية الإسلامية، فكلما كانت خالصة متجردة كانت صمام أمان لاستمرار الشريعة وبقائها وامتياز صلاحيتها في كل زمان ومكان.
لهذ كان من أوجب الواجبات إعادة الاعتبار للفتوى ابتداءً باقتصارها على أهلها الشرعيين، ثم تطوير وظائفها من خلال اعتماد الهيئات والمؤسسات الخاصة بها، وإعداد الدراسات والبحوث المطورة لها، وعقد المؤتمرات والملتقيات والندوات المنظمة لشؤونها على المستوى القُطْري والإقليمي والدولي.
ومِن رد الاعتبار للفتوى أن تخصص لها منابر وقنوات ومواقع معتبرة تليق بوظيفتها وتُناسب مقامها، ويتفرغ لنقلها والتوسط بينها وبين جمهورها إعلاميون محترفون يتميزون بحسن الخُلق وسحر البيان.
وعلى العلماء ورجال الثقافة والإعلام وأصحاب الكلمة والتأثير أن يصنعوا هيبة الفتوى في القلوب والضمائر، وأن لا يسمحوا لغير أهلها بالاشتغال بها صيانةً لجوهرها وحرصًا على قداستها.
ومما يجدر بالتنبيه إليه خطأ المفتي في فتواه، فهذا ليس بالأمر الهين، فكلما كان تعلق الفتوى عامًّا وموضوعها دقيقًا كان أثر الخطأ فيها عظيمًا.
ويترتب على هذا الخطأ أمور كثيرة منها:
* تأثيم المفتي إذا لم يكن من أهل الاجتهاد، أو أفتى فيما لا يحسنه من أبواب العلم، أو قَصَّرَ في البحث وتلمُّس الحق؛ أو أفتى اتباعًا للهوى وابتغاء عَرَضٍ من أعراض الدنيا.
قال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله: "ويلزم ولي الأمر منعهم؛لأنهم بمنزلة من يدل الركب وليس لهم علم بالطريق، أوبمنزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة، أوبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطب الناس، بل هم أسوء حالًا من هؤلاء كلهم! وإذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبيب من مداواة المرضى، فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين".
وقد صح عن إمام دار الهجرة مالك رحمه الله قوله: "إن المسألة إذا سئل عنها العالم فلم يجب فاندفعت عنه، فإنما هي بَلِيَّةٌ صرفها الله عنه".
ولو وعى هذا كله أو بعضه أولئك الذين يتجرؤون على الفتوى ويتطلعون لها؛ لكفوا عن كثير مما شغبوا على الناس به، وَلَأَوْكَلُوا الأمر إلى أهله، وحمدوا الله على بَلِيَّةٍ صرفت عنهم.
* إن الفتوى غير الصحيحة كما سبق ذكره، ينسحب أثرها على تصرفات المكلفين أو معتقداتهم وتصوراتهم.
* ذكر بعض العلماء مسألة «ضمان المفتي» بمعنى: من أفتى شخصًا وهو ليس أهل للفتوى، وانْبَنَى على الفتوى إتلاف مال، أو تفويت مصلحة فهو ضامن.
وجاء في "صفة الفتوى" لابن حمدان الحنبلي قوله: "وقيل: يضمن -أي من ليس أهلًا للفتوى- لأنه تَصَدَّرَ لما ليس له بأهل، وَغَرَّ من استفتاه بتصدُّره لذلك".
ومما ابْتُلِيَتْ به الأمة في حياتنا المعاصرة بروز ظاهرة العنف والإرهاب بطريق فجة وقاسية، نتج عنها سفك دماء الأبرياء، والتعدي على الحقوق والممتلكات، ومن المؤسف أن هذا العنف والإرهاب قد رفع لنفسه لافتات كبيرة وانطلق من فتاوى خاطئة صدرت عن جهلة مسكونين بحب الانتقام ورغبات الهوى، فكانت سببًا في قتل النفس المحرمة وإهدار الممتلكات العامة والخاصة، واستُنْزِفَتْ مقدرات الأمة ورصيدها الإنساني والاقتصادي والاجتماعي.
لقد عانت أمتنا الويلات من جراء الفتاوى الخاطئة، فاختلط الحابل بالنابل والغث بالسمين؛ فأصبح لزامًا على أمة الخير والفضيلة أن تطهر واحة الفتوى من الشوك والحنظل والأثل والقتاد.
وأن تحيلها بساتينَ زهرٍ ووردٍ وريحان، تؤنس الناظر وتفرح القاطف، وتموج بالروائح الزكية، وتجود بالرحيق والثمار والبلسم.
ومهما يكن واقع الفتوى مريرًا إلَّا أن الطريق إلى إصلاحه سهل وميسر؛ فمتى ما صدقت النوايا وجدَّ العزم وتآلفت القلوب سيزول الغَبَش وينتهي الضرر ويصلح الخلل.
على أصحاب العلم والفضيلة ورجال الدولة والسياسيين الأجلاء وقادة الفكر والقلم على الجميع أن يتداعى إلى حماية الفتوى، وتنقيتها من شوائب الجهل والهوى،فقد حان الوقت لبناء ميثاق شرف للفتوى، يرد اعتبارها ويحفظ هيبتها ويرمم منارتها.
ومن هنا أصبح مِن الواجبات المهمة على الحكومات والوزارات الخاصة بالشؤون الإسلامية والمجامع الفقهية والجامعات والمنظمات والهيئات الشرعية ودور الفتوى أن تواصل لقاءها وتناقش موضوع الفتوى وتخرج برؤيا واضحة وقرارات شاملة؛ فتكون بذلك قد قدمتخدمة جليلة للإسلام وسدت منافذ التعدي والاعتداء.
وتكون بذلك أيضًا قد بينت للعامة والخاصة من الناس ضوابط الفتوى وشروط المفتي ومواصفات المنابر والمواقع الناقلة.
إنَّ شباب الأمة الإسلامية وهم يتواجدون في كل أصقاع الأرض في الشرق والغرب والشمال والجنوب لَيَحْدُوهُمُ الأمل أن يكونوا خير ممثلين لدينهم وعقيدتهم؛ لكنهم في أَمَسِّ الحاجة إلى من ينير طريقهم ويفقِّه بصيرتهم، ويخرجهم من شباك الضيق إلى رحاب الإسلام ومن حرج الأحوال إلى سعة الحلول، شبابنا بِأَمَسِّ الحاجة إلى استيعاب الوسطية في الاعتقاد والفقه والمعاملات، وهم بحاجة إلى من يُحَفِّزُ نشاطهم ويضبط إيقاعهم وَيَزِنُ حركتهم، وهم أهل لتمثيل الإسلام في وسطيتهم واعتدالهم وسماحتهم.
إننا على يقين أنَّ معظم شبابنا ومِن واقع حياتهم وأماكن أعمالهم في مختلف قارات الأرض هم دعاة مخلصون لدينهم وقدوة حسنة في سلوكهم، مذهبهم الوسطية وفكرهم الاعتدال، ونحن بحاجة أن نسند جهودهم بأنوار الحقيقة الصادقة حتى لا يجنحوا إلى مهاوي الغلو والتطرف، أو ينساقوا إلى منافي التهاون والعبث.
إن مِن أسوء ما ابتليت به أمتنا في حياتها المعاصرة خروج الفتوى عن مقصدها... وانحرافها عن غايتها، وظهور مأساة التكفير في حق الأفراد والأنظمة والشعوب والمخالفين؛ فتسببت هذه الكارثة في عزوف الناس عن دينهم وفقدانهم الأمل في تحقيق شريعتهم، وانكفائهم على أنفسهم دون النظر إلى واجبهم تجاه أنفسهم ودينهم وأمتهم.
إنَّ فتوى التكفير فكرة شيطانية أوحى بها إبليس إلى الغالين ليفتنوا الناس في دينهم، ويشعلوا فتيل الحقد والكراهية في أوساطهم ليصدوا عن سبيل الله وعن دين الحق.
إنَّ الإسلام بمناهجه الصحيحة بريء من فِرْيَة التكفير التي انبرى لها ضعاف النفوس وهم يفتون بغير علم فضلوا وأضلوا.
على الأمة أن تتبرأ من هذه الفكرة الشيطانية وأن تحاصر أشرارها وتوعي المجتمع بخطر هؤلاء التكفيريين على هوية الأمة وعقيدتها وأخلاقها واستقرارها.
إنَّ رسالة الإسلام جاءت لتخرج الناس من ظلام الجهل والتخلف إلى مروج الأنوار والحضارة، ومن أتون الشقاء والهوان إلى رحابة العدل والسعادة، ليس بالتكفير والتجريم والخيانة وإنما بالسماحة والحكمة والموعظة الحسنة.
إن العلاقة بين الهوية والفتوى علاقة تلاحم وتلازم، فمتى كانت الفتوى لها أصولها الراسخة وقواعدها المتينة كان لها أثر ولا شك في محافظة الناس على هويتهم وتمسكهم بدينهم.
إن الفتوى المبنية على أصول الشريعة في المجتمع المسلم وغير المسلم هي صمام أمان لأهل الإسلام من فتن الشبهات والشهوات، وسد منيع دون التأثر بالتيارات الضالة والمناهج المنحرفة والطرق المبتدعة، وهي أيضًا تُكوِّن الشخصية المسلمة كما أرادها الإسلام، متكاملة متزنة، ترتكز على الصلة الدائمة بالله تعالى، تعبده وحده دون سواه، وتصرف له سبحانه جميع أنواع العبادة، ولا تشرك معه أحدًا.
ومن العلاقة أيضًا بين الفتوى والهوية أن الفتوى من أعظم الوسائل التي تحافظ على هوية المسلم وبخاصة في جانب التعامل مع غير المسلمين.
إن العلاقة بين الفتوى والمحافظة على الهوية لا تنحصر في بيان نصوص الشريعة للمستفتي، بل لابد أن تراعي الفتوى إيجاد الحلول المناسبة التي تنسجم مع روح الشريعة مع الأخذ بالقواعد العلمية الشرعية والانضباط بحدود المباح والمشروع، حتى لا تواجه بعد ذلك الفتوى بنوازلَ فقهية وانحرافاتٍ تطبيقية، ثم يتهافت الناس على دور الفتوى بحثًا عن مخارج فقهية لنوازل غريبة عن عقيدتنا ومنهجنا وشريعتنا.
ولا بد أن يكون للفتوى أثر في حماية هوية الشباب المسلم وإلا كانت النتيجة وجود شباب لا يعرف من الإسلام إلا اسمه، وبهذا تظهر هوة عميقة بين الشباب المسلم وبين التطبيق الأمثل لتعاليم الإسلام ومبادئه وقيمه الفاضلة، وهذا أمر مشاهد في بعض البيئات الإسلامية.
ولذلك لا بد للفتوى أن تتناول معتقدات أهل الإسلام وأخلاقهم وسلوكهم، ولا بد لها أيضًا أن تتناول جانب الهوية وتمييزها عن غيرها، وتحذير المستفتي من الانجرار وراء دعوى الانسلاخ من الدين ودعوى ذوبان المجتمعات المسلمة في مجتمعات الكفر التي لا تعرف ربًّا تعبده وليس لها قيم أخلاقية تحصنها من الوقوع في الرذائل والمنكرات.
ومن آثار الفتوى على هوية الشباب المسلم أنها تدعوه إلى التصور الصحيح للإسلام وتبين له الأخطار التي تحيط به متى ما تجرد عن هويته، وتحذره من الانزلاق في هاوية الانحراف، وتدعوه إلى معرفة الله وتعظيمه، وتعظيم أمره ونهيه، والتمسك بعقيدة الإيمان، والحرص على كتاب الله والسير على هَدْي النبي صلى الله عليه وسلم فهما من أهم ما يحفظ للأمة هويتها وخصوصيتها، وتخوفه بالله واليوم الآخر، وأن الغاية التي من أجلها خلق الله الإنسان هي العبادة المُطلقة لله تعالى، والتي من معانيها إخلاص النيَّة لله في القول والعمل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والولاء والبراء لله ورسوله، واتِّباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم قولًا وعملًا، ظاهرًا وباطنًا، في الأمر والنهي، وإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد.
ومن آثار الفتوى أيضًا على هوية الشـباب المسلم أنها ترغبه في الاعتزاز بدينه وأن ترفع به رأسه أينما كان لا تأخذه في الله لومة لائم فلا يجوز للمسلم أن ينظر إلى أهل الضلال نظرة إعجاب واقتداء، وتحذر هؤلاء الشباب من مشاركة أهل الباطل في اعتقادهم وسلوكهم، وتحذرهم من التشبه بهم في عباداتهم وعاداتهم التي هي من خصائصهم وحدهم.
لقد آن لفوضى الفتاوى أن تتوقف، وآن للمتصدرين لها أن يتقوا الله في شعوب قد أعياها التعب وأنهكها القتل والتشريد والحرب.
آن لخوارج العصر أن يعتبروا بما حل بالأمة في القديم والحديث جراء الفتاوى الخاطئة والمنبثقة عن رغبة الانتقام والتسلط.
لقد حان الوقت أن تمسح أمتنا عن جبينها غبار الزمن وضبابية الفتوى، وتسوي خلافاتها مع فكرها وتصوراتها، وتحزم أمرها، وتسند فتاواها إلى أهلها الشرعيين من أصحاب الدين والعقل والحكمة.
اللهم اهدنا إلى أرشد أمورنا.
أعده وكتبه
القاضي الدكتور/ أحمد عطية
وزير الأوقاف والإرشاد اليمني
- التصنيف: