علمتني الثورة المصرية
حري بهذه الثورة وهذه التجربة العميقة في تاريخ الشعب المصري أن تكون جرس إنذار لنا جميعا أمما وحكاما، آباء وأمهات، معلمين ومربين، أن يعيد كل منا ترتيب أفكاره وتحديد أولوياته، قبل أن يداهمه ذلك الإعصار الذي لن يجديه نفعا أن يقول بعدما يفوت الأوان...
بين أشد لحظات الليل ظلمة وسطوع الفجر لحظة صبر واحدة، وبعدها تبزع
خيوط النور، إنها تلك اللحظة التي مرت على مصرنا بعد أيام قليلة على
مرور نفس التجربة على شعب تونس الحبيب، لم ينتبه أحد لكون الجمر يتقد
تحت الرماد وأن الصدور تغلي كغلي القدور، فاستيقظ الناس على بركان
ثائر ينادي بالحرية والكرامة، في وقت حالك السواد كان أعظم المتفائلين
فيه لا يرجو تحرك تلك الجموع بهذا الغيظ المكتوم إلا بعد عشرات
السنين.
تلك التجربة الفريدة التي عشناها جميعا في مصر شيوخا وشبابا وأطفالا،
رجالا ونساء، وعاشها معنا العالم العربي والإسلامي كله، أثرت فينا
جميعا وتَعلمنا منها دروسا كثيرة ما كنت أعتقد أني سأكون ممن يشهدها
أو يتعلم دروسها وخاصة من هؤلاء الشباب الذين كنت -كغيري- لا أطمع ولا
أطمح أن أرى منهم هذه الانتفاضة والثورة.
وتوقفت مع تلك اللحظة الفارقة في عمري بل الفاصلة في تاريخ شعب عريق
موغل في القدم لأستلهم تلك الدروس وأستحضرها جيدا كي لا تضيع في زحام
الأخبار والمستجدات التي لا تتوقف ليل نهار :
- علمتني تلك التجربة أن لا أحكم على الناس ولا أُقيمهم دون معرفة
متأنية وواعية لما يحملونه داخلهم، وأن لا أنظر فقط إلى مظهر خارجي
سطحي فربما يكون خادعا، وألا أكون أسيرا لحكم ثابت على أحد فكل شيء
يتغير بسرعة ربما تفوق التصور، فقد كان حكم الكثيرين -ومنهم أنا
بالطبع- على هذا الجيل من الشباب أنهم تافهون فارغو العقل قليلو الهمة
متفرغون لعبثهم مضيعون لأوقاتهم، وأنهم مكبلون لا يمتلكون الإرادة
الحرة، وأن كل ما يشغلهم هو رغباتهم وشهواتهم فقط وخاصة حين يقضون
الساعات الطوال على شبكة الإنترنت، ولكننا فوجئنا بهمم عالية تناطح
الجبال وبرسوخ وثبات شديدين أمام أشد قوى البطش والتنكيل دون حيد عن
الهدف المنشود وفي تصميم وإصرار عجز عنه كل من سبقهم من جيلنا أو ممن
سبقنا، حتى عجزت أفهامنا وتحيرنا وتساءلنا هل هناك تحول جذري في
شخصياتهم أم هل كان تقييمنا لهم سطحيا دون دراسة حقيقية
وواقعية؟!!
- وعلمتني التجربة أن أتيقن أن التغيير في كل عصر ومصر لم ولن يكون
إلا على أيدي الشباب أو مصحوبا بالشباب، فلا تغيير حقيقي إلا بهم، ولا
صلاح لحال أمة ولا تحريك لركودها إلا بشبابها، فهم وقود كل ثورة وأساس
كل تغيير، وعلى عكس ذلك فقد ظللت فترة طويلة وأنا أتلمس الخير والنفع
فقط في الشيوخ فقط، ولم أكن أعتقد ولو للحظة أن الشباب الحالي يُرجى
منه أي خير، لما أراه من التفسخ والانحلال البادي على مظاهرهم
وتصرفاتهم، وكنت أعتقد أن التغيير المنشود البعيد لن يأتي إلا من
النخب المثقفة أومن كبار السن، وأنه قد ولى ذلك الزمن الذي يستطيع
الشباب أن يسطروا تاريخ المجد والشرف لأممهم، ولكنني فوجئت بهؤلاء
الشباب المستترين خلف الشاشات القابعين في البيوت والمكاتب ينتفضون
ويملئون الأرض عملا وسعيا وخيرا، ويبذلون المهج في سبيل الوصول
لغايتهم، بل وسار الشيوخ جاهدين خلفهم ليلحقوا بركابهم متعجبين
ومبتهجين بما يرونه من تصرفاتهم وأفعالهم التي فاقت كل تصور وحد،
وتبدلت أقوال الحكماء المزيفين الذين هاجموهم في البداية واستخفوا بهم
وبتحركاتهم فصاروا يتعلمون منهم يستدفئون بجوارهم من برودة كهوف الخوف
الذي ولدوا وتربوا وعاشوا عليه حتى حطم هؤلاء الشباب أغلال
الشيوخ.
- وعلمتني التجربة -رأي عين لا سماع قول- ألا أيأس من رحمة الله وأن
أثق بموعوده، فالله ناصر دينه غالب على أمره مهما رغم كيد الكائدين،
فكما قال الله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ
أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا
ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ
كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ
}، فكم حورب هؤلاء بالمخدرات التي جلبت لهم من كل بقاع
الأرض، وكم يُسرت لهم طرق الغواية بهذه الشبكة العنكبوتية وتعددت
المواقع الإباحية والقنوات الفضائية، وكم ساهم أبناء أمتنا القائمين
على الإعلام -بأنفسهم- في إلهائهم بالأغاني ومباريات الكرة، وكم صوروا
لهم زيفا أن الوطنية والغيرة تتعلق فقط وتنحصر في تشجيع فريق كرة
وترتبط بقدم لاعب تسكن كرته الشباك ليضعفوا أو يقتلوا روح الانتماء
عند الشباب أو يحصروها في حيز ضيق تافه، وكم أنفق أعداء أمتنا
المليارات على إغواء الشباب وتزيين الباطل لهم، فإذا بالسحر ينقلب على
الساحر وتكون تلك الأداة -الكمبيوتر والانترنت- التي ظنوا أنها ستكون
طريقا لغوايتهم تكون كلمة السر وتكون هي المشعل الذي حملوه والتفوا
حوله مهمومين بقضايا أمتهم ساعين في خلاصها مما يجثم على صدرها سنين
طوالا، وما أعظم المشهد وكأنني أرى الحرم المكي الشريف في ميدان
التحرير بمصر والكل ساجد بين يدي ربه موجها رسالة نصر لكل عدو داخلي
وخارجي أن شباب الأمة مرتبط بربه رغم كل ما فعلتموه.
- وعلمتني التجربة أن لكل عصر أسلحته، فما يصلح سلاحا لعصر لا يصلح
لعصر بعده، وأنه يجب علينا أن نواكب العصر في أسلحته وخاصة إذا أرادت
الأمم أن تتقدم وأن تلحق بمن سبقها، وتمثلت تلك المفارقة العجيبة في
مشهد نادر عجيب يدل على البون الشاسع الفكري بين الفريقين، فتمثل
الفكر الضيق ممن حارب هؤلاء الشباب حين أتوا بمن يريد إيذاءهم وهم
يمتطون ظهور الخيل والإبل، وكأن تلك المعركة قد تجلت فكريا بين قوتين،
قوة تريد أن تتقدم وأن تواكب عصرها في علومه وثقافاته وتستفيد منها
وتطوعها لخدمة قيمها ومجتمعاتها وقوة أخرى لازالت متحجرة في مكانها لا
تريد أن تتحرك عقليا وفكريا قيد شبر واحد وساهمت بجمودها وتخلفها في
تخلف مجتمعاتنا في كافة الميادين.
- وعلمتني التجربة أنه ما ضاع حق وراؤه مطالب، وأن الباطل لا ينتفش
ويتضخم وينتشي إلا عند غياب أهل الحق أو عند تساهلهم في المطالبة
بحقوقهم، وأن الشعوب المظلومة المنكسرة هي من تصنع جلاديها وفراعنتها
بسكوتها وضعفها وتخاذلها.
- وعلمتني التجربة أنه مهما زاد الظلم وتجبر فإنه هش ضعيف أمام الحق
ولنا في اللحظة التي تلاشت وتبخرت القوى الظالمة وتركت الميدان منسحبة
خائفة مذعورة بعدما كانت تتباهى بقوتها الهائلة وأسلحتها المتطورة،
وكان تلاشيها أمام شعب أعزل يتلقى بصدره الرصاص دون خوف أو جبن أو
انهزام فكانوا الأقوى بصمودهم وتصديهم وثباتهم.
- وعلمتني التجربة أنه لابد من دفع الثمن الغالي لنيل الكرامة
والحرية، وأنه كما قال قائلهم يوما: "الحرية لا توهب بل تُنتزع"
فالحرية لم ولن تكون في يوم ما منة ولا هبة من الطغاة الظالمين الذين
يجدون حياتهم وأمانهم في الظلم والبغي وكما قال صاحب الظلال رحمه
الله: "أنه لابد للأمة من ميلاد ولابد للميلاد من مخاض ولابد للمخاض
من آلام ودماء" فدفع الثوار الثمن غاليا من دمائهم الطاهرة التي ستظل
لعنة على سافكيها.
- وأيقظتني التجربة على المستوى الأسري الأبوي على جرس إنذار قوي، قبل
أن يأتي الطوفان، أيقظتني بأن أغلبنا يعاني من أزمة استماع كل طرف
للأطراف الآخرين داخل الأسرة الواحدة الصغيرة، وأن كلا منا يسمع نفسه
ويردد أفكاره فقط ويظن أن الطرف الآخر ليس لديه القدرة ولا الملكة
التي تمكنه من التعبير عن نفسه وعن متطلباته وآماله وطموحاته وأفكاره
ويتهم بعضنا بعضا بالهامشية والسطحية، وكل منا يظن أنه يحتكر وحده
الصواب.
حري بهذه الثورة وهذه التجربة العميقة في تاريخ الشعب المصري أن تكون
جرس إنذار لنا جميعا أمما وحكاما، آباء وأمهات، معلمين ومربين، أن
يعيد كل منا ترتيب أفكاره وتحديد أولوياته، قبل أن يداهمه ذلك الإعصار
الذي لن يجديه نفعا أن يقول بعدما يفوت الأوان: "لقد فهمتكم".
6/3/1432 هـ
- التصنيف: