حب الصحابة (6)

منذ 2017-12-03

بل أجمع أهل العلم أنَّ من ادَّعَى في صحابيٍ أنَّ له شيئاً من خصائص الإله، أو أنَّهُ يُدْعَى ويُسْأَلْ كما يُعْتَقَد في علي -رضي الله عنه- ونحوه أنَّهُ كافر بالله العظيم.

بسم الله الرحمن الرحيم

رياح الليبرالية الغربية العاتية أتت على كثير من ثوابتنا بفعل موجة التغريب التي تنبثق من واقع أن «المغلوب دائما مولع بتقليد الغالب»، فضلا عن الحملة الغربية الضروس على أمتنا الإسلامية لمحو هويتها وضمان تبعيتها.. لقد تفشت النسبية في كثير من معتقداتنا وباتت ثوابتنا هلام لا شكل له ولا معلم، ونال الطعن والنقد مقدساتنا من قرآن وسنة وعقيدة وشريعة.. حتى صار بعضهم يتحدث عن أفذاذ الصحابة –وكلهم أفذاذ- كما يتحدث عن شراذم الناس، مما يتنافى مع وجاهتهم ومكانتهم، ويتنافى مع ما كان عليه السلف المبارك من حبهم للصحابة وتوقيرهم بتوقير الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم- لهم، حتى أنهم ألحقوا باب «حب الصحابة» في الحديث عن العقائد، إعلاما منهم أن حبهم دين يدين به المؤمنون لله رب العالمين، مما حتم علينا نحن الخلف أن نكرر الذكر ونجدد العهد على حبهم وتبجيلهم.   

 

الصحابة درجات: كما قررنا سلفا أنه يجب على كل مسلم حب الصحابة، وتوليهم، ومعرفة فضلهم، خصوصاً أفضلهم أبا بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم باقي العشرة المباشرين بالجنة، وأهل بدر، وأهل بيعة الرضوان. ومن أنفق من قبل الفتح وقاتل، أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، وكذا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم والإيمان، وأنهن أزواجه في الجنة، وحب آل البيت، كما أوصانا النبي -صلى الله عليه وسلم-، والحذر كل الحذر ممن سب الصحابة، أو قال: إنهم ارتدوا إلا ستة كما يقول الشيعة.

 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كما وصفهم الله به في قوله تعالى: «وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ»[127].

 

وطاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: «لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه».

 

ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع: من فضائلهم ومراتبهم فيفضلون من أنفق من قبل الفتح -وهو صلح الحديبية- وقاتل، على من أنفق من بعده وقاتل، ويقدمون المهاجرين على الأنصار، ويؤمنون بأن الله قال لأهل بدر -وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر-: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) وبأنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة كما أخبر به صلى الله عليه وسلم، بل قد رضي الله عنهم ورضوا عنه، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة.. ويشهدون بالجنة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة كالعشرة وغيرهم من الصحابة.

 

ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وعن غيره من أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر، ويثلثون بعثمان، ويربعون بعلي رضي الله عنهم، كما دلت عليه الآثار، وكما أجمع الصحابة -رضي الله عنهم- على تقديم عثمان في البيعه.. ويتبرءون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم".

 

وقال البيهقي في «شعب الإيمان»: "وإذا ظهر أن حب الصحابة من الإيمان، فحبهم أن يعتقد فضائلهم ويعترف لهم بها ويعرف لكل ذي حق منهم حقه، ولكل ذي عنا في الإسلام عناه، ولكل ذي منزلة عند الرسول -صلى الله عليه وسلم- منزلته، وينشر محاسنهم ويدعو بالخير لهم، ويقتدي بما جاء في أبواب الدين عنهم ولا يتتبع زلاتهم وهفواتهم ولا يتعمد تهجين أحد منهم ببث ما لا يحسن عنه، ويسكت عما لا يقع ضرورة إلى الخوض فيه فيما كان بينهم وبالله التوفيق".

 

إن الواجب تربية الناس على حب الصحابة، وذكر فضلهم، وأي شيء وقع بينهم بعد ذلك هم فيه بين الأجرين أو أجر ومغفرة، ولا يعرض خلافهم هكذا على الملأ، فهذا مخالف لعقيدة أهل السنة والجماعة فيما شجر بين الصحابة وإشاعة تفاصيله من صنيع أهل البدع، وبهذا تعرف سبب تحذير السلف من مخالطة أهل البدع فقد أضعفت حب الصحابة في قلوب قوم فأصبحوا لا يرون في تقمص الكافر والفاسق شخصية خير البشر بعد الأنبياء تنقص لهم، فرحم الله بعض السلف إذ يقول لمبتدع أراد حواره "ولا نصف كلمة".

 

إن حُبّهُم دِينٌ وإيمَانٌ وإحْسَانٌ.. كل هذه تتبعض، ليست شيئاً واحداً، فالناس في حب الصحابة يختلفون، وأجرهم على قدر كثرة محبتهم ونصرتهم وفقههم لفضائلهم.. ولذا توَسَّطَ أهل السنة والجماعة في الحب بين طرفين: بين طرف المُفْرِطِينْ وطرف المتبَرِّئِين.

 

أما الغلاة والمُفَرِّطُون في الحب فهم الذين جعلوا بعض الصحابة لهم خصائص الإلهية كما فعل طائفة مع علي -رضي الله عنه-، وكما فعل طائفة مع أبي بكر -رضي الله عنه-، أو غلو بما هو دون الإلهية بأن يجعلوا هذا الحب يقتضي انتقاص غيرهم، فيُحِبُّ أبا بكر وينتقص علياً، أو يحبّ علياً -رضي الله عنهم- وينتقص أبا بكر.. هذا إفراط وغلو.

 

فالوسط هو طريقة أهل السنة، فإنَّ الحب يقتضي موالاة الجميع، وأن لا يَغْلُوَ المسلم في أي صحابي؛ بل يُحِبُّهُم ويَوَدُّهُم ويذكرهم بالخير ولا يجعل لهم شيئا من خصائص الإلهية.

 

بل أجمع أهل العلم أنَّ من ادَّعَى في صحابيٍ أنَّ له شيئاً من خصائص الإله، أو أنَّهُ يُدْعَى ويُسْأَلْ كما يُعْتَقَد في علي -رضي الله عنه- ونحوه أنَّهُ كافر بالله العظيم.

 

وهذا الغلو وقع فيه كثير في الأمة بعد ذلك، فأُقِيْمَتْ المزارات والمشاهد والقبور والقباب على قبور الصحابة، كقبر أبي أيوبٍ الأنصاري قرب اسطنبول، وكقبر أبي عبيدة بن الجراح في الأردن، وكقبر عدد من الصحابة كالحسين والحسن وعلي إلى آخره في أمصارٍ مختلفة.

 

فجعلوا قبورهم من فَرْط المحبة أوثاناً يأتون فيسألون ويدعون ويستغيثون ويتقربون للصحابة، وهذا إفراط وليس هو الحب المأذون به؛ بل هذا حبٌ معه الشرك المُحَقَّقْ إذا وصل إلى سؤال الميت ودعائه والتقرب إليه.

 

وفي المقابل يكون فِعْلُ طائفةٍ ضالة أخرى تتبرأ من الصحابة جميعاً كفعل الزنادقة، أو تتبرأ من أكثر الصحابة كفعل الرافضة والخوارج، أو تتبرأ من طائفة من الصحابة كفعل النواصب ومن شابههم.. فهؤلاء تبرؤوا.

 

ومنهم من يعتقد أنَّهُ «لا حُبَّ ولا ولاء إلا بِبَرَاءْ»، يعني لا يصلح حب صحابي وولاء صحابي إلا بالتبرؤ ممن ضَادَّهْ. فيجعلون في ذلك أنَّ حب علي -رضي الله عنه- والولاء لعلي والحسن والحسين يقتضي بُغْضَ أبي بكر وبُغْضَ عمر وبُغْضَ عثمان، ومن سلب هؤلاء حقهم كفعل الرافضة عليهم من الله ما يستحقون.

 

لهذا كان مُعْتَقَدْ أهل السنة والجماعة في هذا أنَّ التبرؤ من الصحابة واعتقاد أنَّهُ لا موالاة إلا بالبراءة أنَّ هذا ضلالٌ وقد يوصل إلى الكفر.

 

لذا قال من كتبوا في العقيدة: {وَنُبْغِضُ مَنْ يُبْغِضُهُم، وَبِغَيْرِ الخَيْرِ يَذْكُرُهُم}.. وهذا من مقتضى المحبة الوَسَطْ، ودين الله وسط بين الغالي والجافي، فإننا من ذَكَرَهُمْ بخير أحببناه ومن ذَكَرَهُمْ بغير الخير أبغضناه؛ لأنَّ من مقتضى المحبة والولاية أن يُحَبَّ من يُحِبُّهُمْ وأن يُبْغَضَ من يُبْغِضُهُمْ.

 

ولا يدعوك حب الصحابة إلى بخس عترة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، حقوقهم وحظوظهم فإن عمر لما كتبوا الدواوين، وقدموا ذكره، أنكر ذلك وقال: "ابدءوا بطرفي رسول الله -صلى الله عليه وآله-، وضعوا آل الخطاب حيث وضعهم الله". قالوا: فأنت أمير المؤمنين؟ فأبى إلا تقديم بني هاشم، وتأخير نفسه، فلم ينكر عليه منكر، وصوبوا رأيه، وعدوا ذلك من مناقبه.

 

واعلم أن الله أراد أن لا يسوي بين بني هاشم وبين الناس، لما أبانهم بسهم ذوي القربى، ولما قال: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]؛ وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44]، وإذا كان لقومه في ذلك ما ليس لغيرهم، فكل من كان أقرب كان أرفع، ولو سواهم بالناس لما حرم عليهم الصدقة؛ وما هذا التحريم إلا لإكرامهم على الله تعالى. ولذلك قال للعباس حيث طلب ولاية الصدقات: (لا أوليك غسالات خطايا الناس وأوزارهم، بل أوليك سقاية الحاج والإنفاق على زوار الله). ولذا كان رباه أول ربا وضع. ودم ربيعة بن حارث أول دم أهدر، لأنهما القدوة في النفس والمال.

 

ولهذا قال علي -عليه السلام- على منبر الجماعة: "نحن أهل بيت لا يقاس بنا أحد". وصدق -صلوات الله عليه- كيف يقاس بقوم منهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والأطيبان علي وفاطمة، والسبطان الحسن والحسين، والشهيدان أسد الله حمزة وذو الجناحين جعفر، وسيد الوادي عبد المطلب، وساقي الحجيج العباس، وحليم البطحاء والنجدة والخير فيهم، والأنصار أنصارهم، والمهاجر من هاجر إليهم ومعهم. والصديق من صدقهم، والفاروق من فرق بين الحق والباطل فيهم، والحواري حواريهم، وذو الشهادتين لأنه شهد لهم ولا خير إلا فيهم ولهم ومنهم ومعهم، وقال عليه السلام فيما أبان به أهل بيته: «إنِّي تَارِكٌ فِيكُمَ الْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِي: كِتَابَ اللهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، وَإِنَّهُمَا لَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ» [مصنف أبي شيبة: 32337]، ولو كانوا كغيرهم، لما قال عمر -رضي الله عنه- حين طلب مصاهرة علي: إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة، إلا سببي ونسبي» [الطبراني، المعجم الكبير].

 

واعلم أن الرجل قد يتنازع في تفضيل ماء دجلة على ماء الفرات، فان لم يحتفظ، وجد في قلبه على شارب ماء دجلة رقة لم يكن يجدها، ووجد في قلبه غلظة على شارب ماء الفرات، لم يكن يجدها فالحمد لله الذي جعلنا لا نفرق بين أبناء نبينا ورسلنا، ونحكم لجميع المرسلين بالتصديق، ولجميع السلف بالولاية. ونخص بني هاشم بالمحبة، ونعطي كل امرئ قسطه من المنزلة.

 

المصادر:

شرح العقيدة الطحاوية للإمام أبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الطحاوي والمسمى بـ  «إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل» شرحها الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ.

«اعتقاد أهل السنة».. للإمام أبي بكر بن قاسم الرحبي، إعداد: موسى بن محمد بن هجاد الزهراني.

«الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة».. أبو القاسم إسماعيل ابن محمد بن الفضل التيمي الأصبهاني.

«فتاوى عبد الرزاق عفيفي» ص320.

«المفصل في الرد على شبهات أعداء الإسلام» جمع وإعداد الباحث في القرآن والسنة، علي بن نايف الشحود.

«المولاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية» محماس بن عبد الله بن محمد الجلعود.

مجلة لغة العرب العراقية - مجلة شهرية أدبية علمية تاريخية.

مسلسل الحسن والحسين ومعاوية رؤية فنية.. مقالات موقع الدرر السنية.

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز

  • 6
  • 1
  • 12,734

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً