توحيد الألوهية - (18) ألوان من الشرك

منذ 2017-12-28

من ألوان الشرك الأكبر - أيضًا -: النذر للقبور والصالحين والجن؛ قال -تعالى-: ﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ [البقرة: 270]، فالنذر عبادة كما سبق، وصرْفُها لغير الله تعالى..

(18) ألوان من الشرك

قدَّمتُ أن الشرع احتاط للحِفاظ على جَناب التوحيد أعظم الحيطة، وعلى الرغم من ذلك فإن هناك صورًا من الشرك يقع فيها كثيرٌ من الناس دون أن يفطنوا لها؛ لخفائها عليهم، وسكوت العلماء عن بيانها لهم، وتحذيرهم منها، وهذه الصور التي سأذكر بعضها - إن شاء الله تعالى - منها ما هو شرك أكبر، ومنها ما هو شرك أصغر، ولكن يُخشى من المداومة على صور النوع الأخير والثقة بها أن تصير شركًا أكبر، خاصة بعد إقامة الحجَّة على فاعلها - إن كان جاهلاً بحكمها - فمنها:

1- الرياء: وهو أن يعمل الرجل العمل مِن صلاة أو صدقة أو حجٍّ أو جهاد لا يَبتغي به وجه الله -تعالى- ولكن ليراه الناس فيَعظم في أعينهم، ويعتقدوا فيه الصَّلاح والطيبة، فترى أحدهم يقوم في الصلاة فيُزيِّنها ويُطيلها؛ لِما يرى من نظر الناس إليه، قال -تعالى-: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110].

 

روى مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا قال الله -تعالى-: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري، تركتُه وشِركه))، وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((أخوَفُ ما أخاف عليكم الشرك الأصغر))، فسُئل عنه، فقال: ((الرياء))؛ والحديث رواه الطبراني، وصححه الألباني.

 

قال ابن رجب - رحمه الله -:

اعلم أن العمل لغير الله أقسام؛ فتارة يكون رياءً محضًا، بحيث لا يُراد به سوى مرئيات المخلوقين لغرض دُنيويٍّ؛ كحال المنافقين في صلاتهم إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يُراؤون الناس، ولا يَذكرون الله إلا قليلاً، وكذلك وصَف اللهُ الكفار بالرياء المحْضِ في قوله -تعالى-: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ ﴾ [الأنفال: 47]، وهذا الرياء المحْض لا يَكاد يَصدُر عن مؤمن في فرض الصلاة والصيام، وقد يصدر في الصدقة الواجبة والحج وغيرها من الأعمال والتي يتعدَّى نفْعُها؛ فإن الإخلاص فيها عزيز، وهذا العمل لا يشكُّ مسلم في أنه حابط، وأن صاحبه يستحقُّ المقْت والعقوبة.

 

وتارة يكون العمل لله ويُشاركه الرياء؛ فإن شاركه مِن أصلِه، فالنصوص الصحيحة تدلُّ على بطلانه وحبوطه أيضًا؛ كحديث مسلم السابق: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك))، فإن خالط فيه نيةَ الجهاد مثلاً نيةٌ غيرُ الرياء؛ مثلُ أخذ أجرة للخِدمة، أو أخذ شيء من الغنيمة أو التجارة، نقَص بذلك أجرُ جهاده ولم يَبطل بالكلية، وقال الإمام أحمد فيمن يأخذ جُعْل الجهاد: إذا لم يَخرجْ لأجل الدَّراهم، فلا بأس؛ كأن خرج لدِينه، وإن أُعطي شيئًا أخذه، وقال: إن كان أصل العمل لله، ثم طرأ عليه نية الرياء؛ فإن كان خاطر ثم دفعه، فلا يضرُّ بغير خِلاف، وإن استرسَل معه: فهل يَحبط عمله أم لا، فيُجازى عن أصل نيَّته؟! في ذلك اختلاف بين العلماء من السلف، حكاه الإمام أحمد وابن جرير، ورجَّحا أن عمله لا يَبطُل بذلك، وأنه يُجازى بنيَّته الأولى، وهو يروى عن الحسن وغيره، وفي هذا جاء حديث مسلم عن أبي ذر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه سئل عن الرجل يعمل العمل من الخير ويَحمده الناس عليه، فقال: ((تلك عاجِل بُشرى المؤمن))، وإذا أراد بعمله الدنيا، فقد قال -تعالى-: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [هود: 15، 16]، قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن في فتح المجيد: "سُئل شيخنا المصنِّف عن هذه الآية، فأجاب بما حاصله: عن السلف فيها أنواع مما يَفعله الناس اليوم ولا يَعرفون معناه، فمِن ذلك:

1- العمل الصالح الذي يفعله كثيرٌ من الناس ابتغاء مرضات الله؛ من صدقة وصلاة وصِلَة وإحسان إلى الناس وترْك ظُلمٍ ونحو ذلك مما يفعله الإنسان أو يتركُه خالصًا لله، لكنه لا يُريد ثوابه في الآخِرة؛ إنما يُريد أن يجازيَه الله بحفْظ ماله وتَنميَتِه، أو حفْظ أهله وعياله، أو إدامة النعمة عليهم، ولا همَّة له في طلب الجنة والهرب من النار، فهذا يُعطى ثواب عمل الدنيا، وليس له في الآخِرة من نصيب، وهذا النوع ذكره ابن عباس.

 

2- وهو أكبر من الأول وأخْوَف، وهو الذي ذكره مُجاهد في الآية أنها نزلت فيه: هو أن يعمل أعمالاً صالحةً ونيَّته رياءُ الناس، لا طلب ثواب الآخِرة.

 

3- أن يعمل أعمالاً صالحة يقصد بها مالاً؛ مثل أن يحجَّ لمالٍ يأخذه، أو يُهاجر لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، أو يجاهد لأجل المَغْنم، فقد ذكر أيضًا هذا النوع في تفسير الآية، كما يتعلَّم الرجل لأجل مدرسة أهله أو مكسبهم أو رياستهم، أو يتعلم القرآن ويُواظِب على الصلاة لأجل وظيفة في المسجد كما هو واقعٌ كثيرًا.

 

4- أن يعمل بطاعة الله مُخلصًا في ذلك لله وحده لا شريك له، ولكنه على عمل يُكفِّره كفرًا يُخرجه عن الإسلام؛ مثل اليهود والنصارى إذا عبدوا اللهَ أو تصدَّقوا أو صاموا ابتغاء وجه الله والدار الآخِرة، ومثل كثير من هذه الأمَّة الذين فيهم كفْر أو شِرك أكبر يُخرجهم من الإسلام بالكلية، إذا أطاعوا الله طاعةً خالصةً يُريدون بها ثواب الله في الدار الآخِرة، لكنهم على أعمال تُخرجهم من الإسلام، وتمنع قَبول أعمالهم، فهذا النوع أيضًا قد ذُكر في هذه الآية عن أنس بن مالك وغيره، وكان السلف يَخافون منها، قال بعضهم: لو أعلم أن الله تقبَّل مني سجدةً واحدةً، لتمنَّيتُ أن أموت؛ لأن الله يقول: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 27].

 

ثم قال: بقي أن يُقال: إذا عمل الرجل الصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج ابتغاء وجه الله، طالبًا ثواب الآخِرة، ثم عمل بعد ذلك أعمالاً قاصدًا بها الدُّنيا؛ مثل أن يحجَّ فرضه لله ثم يحجَّ بعد ذلك لأجْل الدنيا، كما هو واقع، فهو لِما غلَب عليه منهما، وقد قال بعضهم: القرآن كثيرًا ما يَذكُر أهل الجنة الخلَّص، وأهل النار الخلَّص، ويَسكُت عن صاحب الشائبتَين، وهو هذا وأمثاله".

 

2- ومن ألوان الشرك: العطف على اسم الله بما يُوهِم الندِّية؛ كقول القائل: ما شاء الله وفلان، ونحو ذلك؛ لأن العطف هنا بالواو، فيُفيد مساواة المعطوف عليه في الحُكم، وتلك هي النِدِّيَّة المنهيُّ عنها، وقد جعل الشرع سبيلاً للتخلُّص من ذلك بوضع "ثم" بدل "الواو".

 

3- إسناد بعض الحوادث إلى غير الله -تعالى- واعتقاد تأثيره فيها؛ كأن يقول مثلاً: لولا وجود فلان لحصل كذا، إلى غير ذلك من الألفاظ التي تَنسب بعض الحوادث إلى أسبابها القريبة على أنها وحدها هي التي أدَّت إلى وقوعها، وليس معنى ذلك نفْيَ تأثير الأسباب في مسبَّباتها؛ فإن ذلك جهْل بحكمة الله الذي وضَعها وجعلها أسبابًا، بل المقصود اعتقاد أن تأثيرها بمشيئة الله وحكمته، لا أنها مستقلَّة بالتأثير.

 

4- التنجيم: وهو الاستدلال بمطالع الكواكب أو غروبها على وقوع الحوادث، واعتقاد تأثيرها في العالم الأرضي؛ كقولهم: إذا طلع نجْم كذا حصل كذا، وإذا كانت الشمس في برج الحمل - مثلاً - حصل كذا وكذا، إلى غير ذلك مما درَج عليه أصحاب التقاويم، فلا يكاد يخلو تقويم منها من تذْييل يَذكُر صاحبُه ما يتوقَّع من حوادث خلال هذا العام، ومن العجيب أن الناس يصدِّقون بهذه التنبؤات كما لو كانت حقائقَ واقعةً، ويَبنون عليها كثيرًا من تصرُّفاتهم ومعاملاتهم دون إنكار، حتى إن عالِمًا كان مدرِّسًا بإحدى كليات الأزهر، كان يُصدِر كل عام تقويمًا يملؤه بهذه الترَّهات، ويَسجع فيه سجْع الكهان، ولم يتوجه أحد من إخوانه، ولا من إدارة كليته، ولا من إدارة الأزهر حتى بمجرَّد اللوم، كأن الأمر لا يُهمُّ أحدًا، هذا مع علمهم بمُنافاة هذه التكهنات لبديهة من بديهات الإسلام، وهي: أنه لا يعلم ما في غدٍ إلا اللهُ وحده، وفي الصحيح عن زيد بن خالد الجهني قال: صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاة الصبح بالحديبية على إثْر سماء كانت من الليل، فلما انصرَف أقبل على الناس فقال: ((هل تدرون ما قال ربكم الليلة؟))، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((قال: أصبح من عبادي مؤمنٌ بي وكافر؛ فأما من قال: مُطرْنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي، كافرٌ بالكواكب، وأما من قال: مُطرْنا بنَوء كذا وكذا، فذلك كافر بي، مؤمن بالكواكب))، قال بعض العلماء: إذا قال القائل: مُطرْنا بنَوء كذا وكذا، فلا يخلو إما أن يَعتقد أن له تأثيرًا في نزول المطر، فهذا شرك صريح، وهو ما كان يَعتقِده أهل الجاهلية؛ كاعتقادهم أن دُعاء الميِّت والغائب يَجلب لهم ضرًّا أو نفعًا، وإما أن يقول ذلك مُعتقِدًا أن المؤثِّر هو الله وحده، ولكنه أجرى عادته بسقوط ذلك النجم، فالصحيح أنه يَحرُم نسبة ذلك إلى النجم، ولو على سبيل المجاز؛ روى البخاري في صحيحه عن قتادة قال: "إن اللهَ خلَق هذه النجوم لثلاث؛ جعلها زينةً للسماء، ورجومًا للشياطين، وعلاماتٍ يُهتدى بها، فمن تأوَّل فيها بغير ذلك، أخطأ وأضاع نصيبه، وتكلَّف ما لا علْمَ له به"، ويقول الربيع بن زياد: "والله ما جعل اللهُ في نجْم حياةَ أحد ولا رِزقه ولا موته؛ وإنما يفترون على الله الكذبَ، ويتعلَّلون بالنجوم"، وليس من هذا الباب طبعًا ما تتنبَّأ به المراصدُ الفلكية من أوقات الخسوف والكسوف، ومدَّة وقوعهما، وكونه جزئيًّا أو كليًّا؛ لأن ذلك مبنيٌّ على قواعد حسابية لا تُخطئ، وكذلك ما تتنبأ به هذه المراصد من درجات الحرارة أو الرطوبة، وهبوب الرياح واتجاهاتها، وكونها نشيطة أو غير نشيطة، ووجود فرص لسقوط الأمطار، ونحو ذلك، فإن كلَّ هذه من قَبيل الأمارات التي تدلُّ على قرب وقوع ما تبشّر به، كما قال -تعالى-: ﴿ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا ﴾ [الرعد: 12]، فرؤية البرق تُنذر بالمطر، فيخاف المسافر، ويطمع الزارع، وكما قال -تعالى-: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ﴾ [الأعراف: 57]، فالرِّياح إذا هبَّتْ باردةً، وساقت السحب بين يدَيها، استبشر الناس وترقَّبوا المطر.

 

5- الكهانة والعرافة: وهما ادِّعاء علم الغيب ومعرفة الأمور الغائبة؛ كالإخبار بما سيقع في الأرض وما سيحصل، وأين مكان الشيء المفقود، وذلك عن طريق استخدام الشياطين الذين يَسترقون السمع من السماء، وكان الكهَّان قبل المبعث كثيرين، وأما بعد المبعث فإنهم قليل؛ لأنه -تعالى- حرَس السماء بالشُّهُب، وأكثر ما يقع في هذه الأمة ما يُخبِر به الجنُّ أولياءَهم من الإنس عن الأشياء الغائبة، فيَظنُّه الجاهل كشفًا وكرامةً، والواقع أن ذلك من تآلُف رُوح الشيطان القرين مع رُوح قرينه الإنسان الخبيث، فيتناجَيان، ويتكلم الشيطان مع قرينه بما يحب من الأخبار التي يتلقاها الشيطان عن الشيطان الآخَر - قرين الإنسان الآخَر - وهكذا فإن لكل إنسان قرينًا من الشياطين؛ كما جاء ذلك في القرآن والسنة، فيُخبر شيطانُ الإنس بما يُوحي إليه شيطانُ الجن من أخبار السائل وأحواله في منزله وخصوصية نفْسِه مما ألقاه إليه الشيطانُ القرين، فيظن الجهَلة المغفَّلون أن ذلك عن صلاح وتقوى وكرامات، وأنه بصلاحه قد كُشف الحجاب عنه، وهذا من أضلِّ الضلال، ومن أعظم الخِذلان، وإن اعتقده وخُدع به كثيرٌ ممن يَنتسِب إلى ظاهر العلم والصلاح.

 

قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما صحَّحه الألباني: ((من أتى كاهنًا فصدَّقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم))، وروى مسلم عن بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((من أتى عرّافًا فسأله عن شيء، لم تُقبَل له صلاة أربعين ليلة))، وللأربعة والحاكم - وقال: صحيح على شرطهما - عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((من أتى عرّافًا أو كاهنًا فصدَّقه، فقد كفر بما أنزل على محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم)).

 

قال البغوي في "شرح السنة":

"هو الذي يدَّعي معرفة الأمور بمقدِّمات أسباب يستدلُّ بها على مواقعها؛ كالمسروق من الذي سرَقه، ومكان الضالة، وتُتَّهم المرأة بالزنا فيقول مَن صاحبها، ونحو ذلك من الأمور"، وقال ابن تيمية في "الفتاوى": العرَاف قد قيل: إنه اسم عام للكاهن والمنجِّم والرمال ونحوهم ممن يتكلَّم في تقديم المعرفة بهذه الطُّرق".

 

وأما كفْر الكاهن، فمن وجوه، منها:

كونه وليًّا للشيطان، فلم يُوحِ إليه الشيطانُ إلا بعد أن تولاه؛ قال -تعالى-: ﴿ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ ﴾ [الأنعام: 121]، والشيطان لا يتولى إلا الكفار، ويتولَّونه؛ قال -تعالى-: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ﴾ [البقرة: 257]، وهذا وجْه ثانٍ.

 

والثالث: قوله -تعالى-: ﴿ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ ﴾؛ أي: نور الإيمان والهُدى ﴿ إِلَى الظُّلُمَاتِ ﴾؛ أي: ظلمات الكفر والضلالة، وقال -تعالى-: ﴿ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ﴾ [النساء: 119]، وهذا وجْه رابع.

 

والخامس: تسميته طاغوتًا في قوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيدًا ﴾ [النساء: 60]، نزلت في المُتحاكِمَيْن إلى كاهن جُهينة، وقوله: ﴿ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ﴾؛ أي: بالطاغوت، وهذا وجه سادس.

 

والسابع: أن مَن هداه الله للإيمان من الكهان كسواد بن قارب - رضي الله عنه - لم يأتِه رئيُّه بعد أن دخل في الإسلام؛ فدل على أنه لم ينزل عليه في الجاهلية إلا لكُفرِه وتوليه إياه.

 

الثامن - وهو أعظمها -: تشبُّهُه بالله -تعالى- في صفاته، ومُنازَعته في ربوبيَّته؛ فإنَّ علم الغيب من صفات الربوبية التي استأثر اللهُ بها دون سواه، فلا سميَّ له ولا مُضاهِيَ ولا مشارك.

 

التاسع: أن دعواه تلك تتضمَّن التكذيبَ بالكتاب وبما أرسل اللهُ به رسله.

 

العاشر: النصوص في كُفْر مَن سأله عن شيء فصدَّقه بما يقول، فكيف به هو نفسه فيما ادعاه؟

هذا؛ وقد روى البزار بإسناد جيد عن عمران بن حصين مرفوعًا: ((ليس منَّا من تطيَّر أو تُطيِّر له، أو تَكهَّن أو تُكهِّن له، أو سحَرَ أو سُحِر له، ومَن أتى كاهِنًا فصدَّقه بما يقول، فقد كفر بما أُنزل على محمد))، فقوله: "ليس منا" فيه دليل نفْي الإيمان الواجب، وهو لا ينافي كون الطِّيَرة شركًا، وكون الكهانة كفرًا، فـ"ليس منا": فيه وعيد شديد يدلُّ على أن هذه الأمور من الكبائر، وقوله: "من تطيَّر"؛ أي: فعَل الطِّيَرة، "أو تُطيِّر له"؛ أي: قَبِلَ قول المتطيِّر له وتابَعه، كذا معنى "أو تُكهِّن له"؛ كالذي يأتي الكاهن ويصدِّقه ويُتابعه، وكذلك عمَلُ الساحرِ له السِّحرَ، فكل من تلقى هذه الأمور عمَّن تعاطاها، فقد بَرئ منه رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- لكونها إما شركًا كالطِّيَرة، أو كفرًا كالكهانة والسِّحر، فمن رضي بذلك وتابع عليه فهو كالفاعل؛ لقَبوله الباطلَ واتِّباعِه، فمن سأله وصدَّق بما قال، فقد كفَر كما في الحديث السابق، ومن سأل مطلقًا لم تُقبل له صلاةٌ أربعين ليلة؛ كما أخرج مسلم من حديث صفيَّة عن بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((من أتى عرَّافًَا فسأله عن شيء، لم تُقبل له صلاة أربعين ليلة)).

 

ثم اعلم أن الكاهن وإن كان أصله ما ذكرتُ، فهو عامٌّ في كل من ادَّعى معرفة المغيبات ولو بغيره؛ كالرمَّال الذي يخطُّ بالأرض أو غيرها، والمنجِّم الذي قدَّمت ذِكرَه، أو الطارق بالحصى وغيرهم ممن يتكلَّمُ في معرفة الأمور الغائبة؛ كالدَّلالة على المسروق، ومكان الضالة ونحوها، أو المُستقبَلة؛ كمجيء المطر، أو رجوع الغائب، أو هبوب الرياح، ونحو ذلك مما استأثر اللهُ بعلمه، فلا يعلمه ملَك مقرَّبٌ ولا نبي مُرسَل.

 

6- السحر: وهو من ألوان الشرك أيضًا، وقضية السحر قضية خطيرة؛ حيث انتشر في أيامنا هذه انتشارًا كبيرًا، ووقع فيه كثيرٌ من الناس، حتى بعض أهل الخير؛ إما جهلاً، وإما عجزًا؛ لوقوعه عليه وعدم قدرته على دفعه بما أحلَّ الله؛ ولهذا فإني سأقف مع هذه القضية وقفةً قد تطول شيئًا ما، أتناول فيها الجانب العقديَّ في هذه القضية، وأوضِّح فيها ما يعتقده أهل السنَّة والجماعة، وذلك في عدة مَحاور، وهي على الترتيب الآتي:

• هل السحر حقيقة أم لا؟

• حُكم الساحر.

• حدُّ الساحر.

• بيان بعض ألوان السحر.

• المخرج الشرعي لمن أصيب بالسِّحر، والله الموفِّق والهادي إلى سواء السبيل.

 

أولاً: هل وجود السحر ووقوعه حقيقة أم لا؟

بداية: السِّحر في اللغة هو كل ما لَطُفَ مأخذه، وخفِي سببه؛ ولهذا جاء في الحديث الذي رواه البخاري ومالك وأحمد وأبو داود والترمذي عن ابن عمر: ((إن من البيان لسِحرًا))، وسُمي السَّحَر سَحَرًا؛ لأنه يقع خفيًّا آخِر الليل، والسِّحر متحقِّق وقوعُه ووجوده، ولو لم يكن موجودًا حقيقة لم تَرِدِ النواهي عنه في الشرع، والوعيد على فاعله، والعقوبات الدُّنيوية والأخروية على مُتعاطيه، والاستعاذة منه أمرًا وخبرًا، وقد أخبر الله -تعالى- أنه كان موجودًا في زمن فرعون، وأنه أراد أن يعارض الآياتِ التي أمدَّ الله بها نبيَّه ورسوله موسى -صلى الله عليه وسلم- في العصا بعد أن رماه بقوله: ﴿ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ﴾ [الأعراف: 109، 110]، وقد أخبَر الله -تعالى- قوم صالح - وكانوا قبل إبراهيم عليه السلام - أنهم قالوا لنبيِّهم: ﴿ إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ﴾ [الشعراء: 153]، وكذا قال قوم شعيب، وقريش لنبيَّيْهما - صلى الله عليهما وسلم - بل ذكر الله -تعالى- أن ذلك القول تداوَله كلُّ الكفار لرُسلهم، فقال -تعالى-: ﴿ كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ ﴾ [الذاريات: 52، 53]، وقال - سبحانه - في ذم اليهود: ﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ ﴾ [البقرة: 101] الآية والتي بعدها، وقال -تعالى-: ﴿ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ﴾ [الفلق: 4]، وهُنَّ السواحِر اللاتي يَعقدْن في سحرهنَّ، ويَنفُثنَ في عُقَدهنَّ، ولولا أن للسحر حقيقةً لم يأمرِ الله -تعالى- بالاستعاذة منه.

 

والمقصود: أنه قد ثبت بهذه النصوص وغيرها مما قد أذكره - إن شاء الله - أن السحر حقيقةٌ وجودُه؛ قال أبو محمد المقدسي في "الكافي": السحر عزائم ورُقًى وعُقَد، يؤثِّر بإذن الله في القلوب والأبدان، فيُمرِض ويَقتُل، ويفرِّق بين المرء وزوجه؛ قال -تعالى-: ﴿ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ﴾ [البقرة: 102].

 

فالسِّحر له حقيقة، وليس مجرد تخيُّل، فهو كما قال أبو محمد - عزائم ورقًى وعُقد، يؤثِّر بإذن الله في القلوب والأبدان، فيَقتل ويُمرض ويفرِّق بين المرء وزوجه، ومنه ما يأخذ بالعقول، ومنه ما يأخذ بالأبصار، لكن أكرِّر: إن تأثير هذا يكون بما قضاه اللهُ -تعالى- وقدَّره وخلَقه عندما يُلقي الساحر ما يُلقي، فهو تقدير كوني قدري لا تقدير شرعي؛ حتى لا يعترض علينا مُعترض؛ بأنك أيها المتحدِّث عن السحر تذكر أن حدوثه يكون بقدر الله -تعالى- فكيف تَزعُم أنه منهيٌّ عنه أو أنه حرام؟ وأن فاعله يدخل في الكفر؟ وهل يقدِّر الله ويشاء ما هو حرام؟ ومعلوم أن الله لا يحرِّم إلا ما يَكره، فكيف يَكره شيئًا ثم يشاؤه ويقدِّره؟!

فالجواب: هنالك أمر يجب التنبيه عليه والتنبُّه له، وبمعرفته تزول إشكالات كثيرة تَعرِض لمن لم يُحِطْ به علمًا؛ وهو أن الله -تعالى- له الخلق والأمر، وأمره - سبحانه - نوعان: أمر كوني قدري، وأمر ديني شرعي؛ فمشيئته - سبحانه - متعلِّقة بخَلقه وأمره الكوني، كذلك تتعلق بما يحب وبما يكره، كل ذلك داخل تحت مشيئته، كما خلق إبليس وهو يُبغضه، وخلَق الشياطين والكفار والأعيان والأفعال والمسخوطة له وهو يبغضها، فمشيئته - سبحانه - شاملة لذلك كله.

 

وأما محبته ورضاه، فمتعلِّقة بأمْرِه الديني وشَرعِه الذي شرَعه على ألسنة رسله، فما وجد منه تعلَّقت به محبَّتُه وأمرُه الديني، وما وُجد من الكفر والفسوق والعصيان تعلَّقت به مشيئته، ولم تتعلق به محبتُه ولا رضاه ولا أمرُه الديني.

 

وما لم يوجد منها، لم تتعلق به مشيئته ولا محبَّته، فلفظ المشيئة كوني، ولفظ المحبة ديني شرعي، ولفظ الإرادة ينقسم إلى: إرادة كونية، فتكون هي المشيئة، وإرادة دينية، فتكون هي المحبَّة، وكذلك لفظ القضاء والحُكمِ، وقد أُكرِّر ذلك مرةً أخرى في القدر - إن شاء الله - ولكن الذي يُهمُّني هنا أن نَعْرِِف أن القضاء والأمر والحكْم والإرادة كل منها ينقسم إلى: كوني وشرعي؛ فالكوني يشمل ما يرضاه الله ويحبُّه شرعًا وما لا يرضاه في الشرع ولا يحبُّه، والشرعي يختص بمرضاته - سبحانه - ومحابِّه.

 

والمقصود: أن السحر ليس بمؤثِّر بذاته نفعًا ولا ضرًّا؛ وإنما يؤثِّر بقضاء الله -تعالى- وقدَرِه وخلْقه وتكوينه، ولأنه -تعالى- خالق الخير والشر، مع الأخذ في الاعتبار أن خلْقه -تعالى- للشر ليس مُطلقًا، بل المقصود بالشرِّ هو الشر النسبي الذي يكون عند التحقيق خيرًا عظيمًا؛ وذلك لحِكمة الله -تعالى- وفي الحديث: ((والشرُّ ليس إليك))، أقول: ولأنه -تعالى- خالق الخير والشر، والسِّحرُ من الشر؛ ولهذا قال -تعالى-: ﴿ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 102]، وهو القضاء الكوني القدري، فإن الله -تعالى- لم يأذنْ بذلك شرعًا.

 

وقد ثبت في الصحيحين من طُرقٍ عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سُحِرَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى إنه لَيُخيَّلُ إليه أنه يفعل الشيء وما فعله، حتى إذا كان ذات يوم وهو عندي، دعا الله - عزَّ وجلَّ - ودعاه، ثم قال: ((أشعرتِ يا عائشة أن الله قد أفتاني فيما استفتيتُه فيه؟!))، قلتُ: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: ((جاءني رجلان، فجلس أحدهما عند رأسي، والآخَر عند رِجلي، ثم قال أحدهما للآخَر: ما وجَعُ الرجل؟ قال: مطبوبٌ، قال: ومَن طبَّه؟ قال: لَبيد بن الأعصمِ اليهودي من بني زُرَيق، قال: فبماذا؟ قال: في مشط ومشاطَة، قال: فأين؟ قال: في بئر ذي أَرْوان))، فذهب النبي -صلى الله عليه وسلم- في أناس من أصحابه إلى البئْر، فنظَر إليها، وعليها نخْل، ثم رجع إلى عائشة فقال: ((والله لكأنَّ ماءها نقاعة الحنَّاء، ولكأنَّ نخْلها رؤوسُ الشياطين))، قلت: يا رسول الله، أفأخرجتَه؟ قال: ((لا، أما أنا، فقد عافاني الله - عزَّ وجلَّ - وشفاني، وخشيتُ أن أُثوِّر على الناس منه شرًّا))، وأمَر بها فدُفنتْ، وفي رواية: قال: ((ومن طبَّه؟ قال: لبيد بن الأعصم، رجل من بني زريق، حليفٌ ليهود، كان منافقًا، فقال: وفيمَ؟ قال: في مُشْطٍ ومُشاقَة، قال: وأين؟ قال: في جُفِّ طلعةٍ ذَكَرٍ، تحت راعوفة في بئر ذَرْوان))، وذكره، وهذا لفظ البخاري، والمُشاطة: ما يَخرُج من الشَّعَر، والمُشط: أسنان ما يُمشط به، والمُشاقة: من مشاقة الكتَّان، وجُفُّ طلعة: غشاؤها، وهو الوعاء الذي يكون فيه الطلْع، "تحت راعوفة": هو حجر يُترك في البئر عند الحفر، ثابتٌ لا يُستطاع قلعُه يقوم عليه المُستقي، وقيل: حجر على رأس البئر يَستقي عليه المُستقي، وقيل: حجر بارز من طيِّها يقف عليه المستقي والناظرُ فيها، وقيل: في أسفل البئر يجلس عليه الذي يُنظِّفها لا يمكن قلعُه لصلابته، والله -تعالى- أعلم.

 

قال الإمام النووي في شرح مسلم:

"قال المازري: مذهب أهل السنة والجماعة وجمهور علماء الأمَّة على إثبات السِّحر، وأن له حقيقةً كحقيقة غيره من الأشياء الثابتة، خلافًا لمَن أنكر ذلك ونفى حقيقته، وأضاف ما يقَع منه إلى خيالات باطلة لا حقائق لها، وقد ذكره الله -تعالى- في كتابه، وذكر أنه مما يُتعلَّم، وذكر ما فيه إشارة إلى أنه مما يُكفر به، وأنه يفرِّق بين المرء وزوجه، وهذا كله لا يُمكن فيما لا حقيقة له، وهذا الحديث أيضًا مصرِّح بإثباته، وأنه أشياء دُفنتْ وأُخرِجتْ، وهذا كله يُبطِل ما قالوه، فإحالة كونه من الحقائق محالٌ، ولا يُستنكَر في العقل أن الله - سبحانه - يَخرق العادة عند النطق بكلام ملفَّق، أو تركيب أجسام، أو المزج بين قُوًى على ترتيب لا يعرفه إلا الساحِر، وإذا شاهد الإنسان بعض الأجسام؛ منها قاتِلة كالسموم، ومنها مُسقِمة كالأدوية الحادة، ومنها المُضرَّة كالأدوية المضادة للمرض - لم يَستبعِد عقلُه أن يَنفرِد الساحر بعلم قُوى قتَّالة، أو كلام مُهلِك، أو مؤدٍّ إلى التفرقة، قال: وقد أنكر بعض المُبتدعة هذا الحديث بسبب آخَر، فزعم أنه يحطُّ من منصب النبوة ويُشكِّك فيها، وأن تجويزه يمنع الثقة بالشرع، وهذا الذي ادعاه المبتدعة باطل؛ لأن الدلائل القطعية قد قامت على صدْقِه وصحَّته وعصمته -صلى الله عليه وسلم- فيما يتعلق بالتبليغ، والمعجزة شاهدة بذلك، وتجويز ما قام الدليل بخلافه باطلٌ، فأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يُبعَث بسببها، ولا كان مفضَّلاً من أجْلها، وهو مما يَعرض للبشر، فغيرُ بعيد أن يُخيَّل إليه من أمور الدنيا ما لا حقيقة له، وقد قيل: إنه إنما كان يخيَّل إليه أنه وطئ زوجاته وليس بواطئ، وقد يتخيل الإنسان مثل هذا في المنام، فلا يبعد تخيُّله في اليقظة ولا حقيقة له، وقيل: إنه يخيَّل إليه أنه فعله وما فعله، ولكن لا يعتقد صحة ما يتخيله فتكون اعتقاداته على السَّداد"، قال المازري: "خلافًا لمَن أنكر ذلك".

 

قال ابن هُبَيرة: "أجمعوا على أن السحر له حقيقة إلا أبا حنيفة؛ فإنه قال: لا حقيقة له عنده"، ثم ذكر الاختلاف في حُكمِ الساحر.

 

وقال القرطبي: "وعندنا أن السحر حقٌّ، وله حقيقة، يَخلق اللهُ عنده ما يشاء، خلافًا للمعتزلة وأبي إسحاق الإسفراييني؛ حيث قالوا: إنه تمويه وتخييل".

 

إذًا قد ثبت وتقرَّر من هذا الذي ذكرته - وغيره - تحقُّق السحر وتأثيره بإذن الله؛ بظواهر الآيات والأحاديث، وأقوال عامة الصحابة وجماهير العلماء بعدَهم رواية ودراية، فأما القتل به والإمراض والتَّفرِقة بين المرء وزوجه، وأخذه بالأبصار، فحقيقة لا مُكابَرة فيها، وأما قلب الأعيان كقلب الجماد حيوانًا، وقلب الحيوان من شكْل إلى آخَر، فليس بمحال في قدرة الله - عزَّ وجلَّ - ولا غير مُمكن؛ فإنه هو الفاعل في الحقيقة، وهو الفعَّال لِما يريد، فلا مانع من أن يحول الله -تعالى- ذلك عندما يُلقي الساحر ما يُلقي؛ امتحانًا وابتلاءً وفِتنةً لعباده، ولكن الذي أخبرنا الله -تعالى- به في الواقع من سحَرة فرعون في قصتهم مع موسى إنما هو التخييل والأخْذ بالأبصار، حتى رأوا الحبال والعصيَّ حيَّات، فنؤمن بالخبر ونصدِّقه، ولا نتعداه، ولا نبدِّل قولاً غير الذي قيل لنا، ولا نقول على الله -تعالى- ما لا نعلم، وبالله التوفيق.

 

ثانيًا: حُكم الساحِر:

ثبت لنا في المسألة الأُولى حقيقةُ السحر ووجوده واقعًا لا خيالاً، وبهذا عُلم خطأ قول الذين يَنفون حقيقة السِّحر في هذا الزمان، سواء كان ذلك بقصد أم بجهْل، فالحقُّ في هذه المسألة هو ما عليه أهل السنة من إثبات السحر، وإثبات حقيقته، واعتقاد أن تأثيره بإذن الله - تعالى.

 

أما عن السِّحر نفسه، فهو حرام بالإجماع، بل هو مِن أكبر الكبائر؛ قال -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين عن أبي هريرة: ((اجتنبوا السبعَ الموبقات))، قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: ((الإشراك بالله، والسِّحر، وقتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولِّي يوم الزحف، وقذْف المُحصَنات الغافلات المؤمنات)).

 

ومع أن السحر حرامٌ بالإجماع، إلا أننا نجد المسارعة عليه في هذا الزمان؛ ولذلك كان لزامًا علينا - جميعًا في كل مكان وزمان - أن نبيِّن حُكم الساحر، وحُكْمه الكُفْر، سواء تعلَّمه أو علَّمه، عمِل به أو لم يعمل، فقد كفَر بهذا الذنب الذي هو السحر؛ وذلك واضح صريح في آية البقرة بأمور، منها: سبب عدول اليهود إليه، وهو نبذهم الكتابَ - كتاب الله - وراء ظهورهم: ﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 101]، وسواءٌ أريد بالكتاب التوراة التي بأيديهم، أو القرآن الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- فكل ذلك نبْذُه كفرٌ.

 

ومنها قوله -تعالى-: ﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ﴾ [البقرة: 102]؛ أي: في ملكه وعهده، ومعلوم أن استبدال ما تتلوه الشياطين وتتقوَّله، والانقياد له، والعمل به عِوَضًا عما أوحى الله -تعالى- إلى رسوله - عليه السلام - من أعظم الكُفرِ، وهو من عبادة الطاغوت التي هي أصل الكفْر.

 

ومنها قوله: ﴿ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ﴾ [البقرة: 102]؛ حيث برَّأ الله - سبحانه - نبيَّه - عليه السلام - من الكفر؛ وهو علْم السحر وعمَله، ولو فُرض وجود عمَلِه به لكفَر؛ لأنه شرك، والشرك أكبر الذنوب، وأعظم المُحبطات للأعمال، وهذا معلوم من أصل القصة؛ فإن اليهود - قبَّحهم الله - تلقَّوا السحر عن الشياطين، ونسبوه إلى سليمان، فبرَّأه الله من إفكهم بهذه الآية.

 

ومنها قوله: ﴿ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ﴾ [البقرة: 102]؛ حيث كذَّب الله -تعالى- اليهود فيما نسبوه إلى نبيِّه، فقال: ﴿ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ﴾ وهم إنما نسَبوا إليه السحر لا الكفْر، ولكن لازم ما نسبوه إليه هو الكفْر؛ لأن السحرَ كفْر؛ ولهذا أثبت كفر الشياطين بتعليمهم الناس السحرَ فقال: ﴿ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ﴾ [البقرة: 102]، وكذلك كل مَن تعلم السحر أو علَّمه أو عمل به، يَكفر ككُفر الشياطين الذين علَّموه الناس؛ إذ لا فرق بينه وبينهم، بل هو تلميذ الشيطان وخرِّيجه؛ عنه روى، وبه تخرَّج، وإياه اتبع؛ ولهذا قال -تعالى- في الملَكَين: ﴿ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ﴾ [البقرة: 102]، فبيَّن -تعالى- أنه بمجرَّد تعلُّمه يَكفر، سواء عمل به وعلمه أم لا.

 

ومنها قوله: ﴿ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ﴾ [البقرة: 102]، يعنى: مِن حظٍّ ولا نصيب، وهذا الوعيد لم يُطلق إلا فيما هو كفر، لا بقاء للإيمان معه، فإنه ما من مؤمن إلا ويدخل الجنة، وكفى بدخول الجنة خلاقًا، ولا يدخل الجنة إلا نفْس مؤمنة ومن ثمَّ قال تعالى: ﴿ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 102].

 

ومنها قوله: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا ﴾ [البقرة: 103] يعنى: بمحمد -صلى الله عليه وسلم- والقرآن ﴿ وَاتَّقَوْا ﴾ السحرَ وسائر الذنوب ﴿ لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 103]، وهذا من أصرح الأدلة على كفْر الساحر، ونفي الإيمان عنه بالكلية؛ فإنه لا يقال للمؤمن المتَّقي: ولو أنه آمن واتقى، وإنما قال -تعالى- ذلك لمن كفَر وفجَر، وعمل بالسحر واتَّبعه، وخاصم به رسوله، ورمى به نبيَّه، ونبذ الكتاب وراء ظهْرِه، وهذا ظاهر لا غبار عليه، والله أعلم.

 

وقد صرَّح بذلك أئمةُ السلف من الصحابة والتابعين؛ وإنما اختَلفوا في القدْر الذي يَصير به كافرًا، والصحيح أن السحرَ المتعلَّم من الشياطين كلُّه كفْر، قليله وكثيره، كما هو ظاهر القرآن.

 

وهنا أنبِّه على أن بعض العلماء قد أباح تعلُّم السحر لتوقِّيه ودفْع ضرَرِه؛ كما قال الشاعر:

 

عَرَفتُ الشَّرَّ لا لِلشَّرِ *** لَكِنْ لِتَوَقّيهِ

وَمَن لَم يَعرِفِ الشَّرَّ *** مِنَ الخَيرِ يَقَع فيهِ

 

ولكن الصحيح أنه حرام مُطلقًا، وفاعله كافر، ومن الناس من يزعم أن السِّحر قد ينفع في فكِّ السحر عن المسحور، والردُّ عليهم بقوله -تعالى-: ﴿ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ ﴾ [البقرة: 102]، فهذا عن حُكمِ الساحر، وهو بَيِّنٌ كما ترى، مأخوذٌ من الكتاب والسنة، فلا داعي للخروج عنهما لاعتبار قول لفلان أو فلان من الناس؛ فالحقُّ أحقُّ أن يُتَّبع، وماذا بعد الحق إلا الضلال، فأنى تُصرفون؟!

 

ثالثًا: حدُّ الساحر:

وحدُّ الساحر أيضًا مسألة مهمَّة، فبعد أن عرفْنا أنه كافر يقينًا، كيف التعامل معه؟!

 

أقول: لقد أثبت الشرع له حدًّا، وهو القتل، وهذا ثابت في الكتاب بعموم النصوص في الكفار والمرتدِّين وغيرهم، والساحر كافر؛ كما هو ثابت أيضًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد رُوِيَ عنه أنه قال: ((حدُّ الساحر ضربُه بالسيف))، رُوي بالهاء والتاء، وكلاهما صحيح؛ وهذا الحديث رواه الترمذي مرفوعًا عن جندب، وقال: الصحيح أنه موقوف، وبهذا الحديث أخَذ مالك وأحمد وأبو حنيفة فقالوا: يُقتَل الساحر، وروي ذلك عن عمر، وعثمان، وابن عمر، وحفصة، وجندب بن عبدالله، وجندب بن كعب، وقيس بن سعد، وعمر بن عبدالعزيز، ولم يرَ الشافعيُّ عليه القتل بمجرَّد السحر، إلا إنْ عَمِل في سِحره ما يَبلغ الكُفر، وبه قال ابن المنذر، وهو رواية عن أحمد، والأول أَوْلى؛ للحديث، ولأثرِ عُمر، وعمل الناس به في خلافته من غير نكير، وأثَرُ عمر هو ما رواه الإمامان الجليلان أحمد بن حنبل الشيباني ومحمد بن إدريس الشافعي قالا: أخبرنا سيفان - هو ابن عينية - عن عمرو بن دينار أنه سمع بَجَالةَ بن عبدة يقول: كتب عمر بن الخطاب: أن اقتلوا كلَّ ساحر وساحرة، قال: فقتَلْنا ثلاثَ سواحِر.

 

وصحَّ عن حفصة - رضي الله عنها - أنها أمَرتْ بقتْل جارية لها سحرَتْها، فقُتلتْ؛ رواه مالك عن محمد بن عبدالرحمن بن سعد بلاغًا، ووصله عبدالله بن أحمد في مسائل أبيه، والبيهقي عن عبدالله بن عمر بسند صحيح، ووصلَه أيضًا الطبراني عن ابن عمر.

 

وقد روى البخاري في تاريخه عن أبي عثمان النهدي قال: كان عند الوليد رجل يَلعب فذبَح إنسانًا وأبان رأسه فعجبْنا، فأعاد رأسه، فجاء جندب الأزدي فقتَله.

 

وبهذا يكون قد صحَّ عن ثلاثة من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- قتْلُ الساحر، والثلاثة هم: عمر، وحفصة، وجندب - رضي الله عنهم وعن بقية الصحابة - وقال ابن كثير: وقد ذَكر الوزير أبو المظفَّر يحيى بن هُبيرة فيمَن يتعلم السحر ويستعمله: فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: يَكفُر بذلك، ومن أصحاب أبي حنيفة من قال: إنْ تعلَّمه ليتَّقِيَه أو لِيتجنَّبه، فلا يَكفُر، ومن تعلمه معتقدًا جوازه، أو أنه يَنفعه كفرَ، وكذا من اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء فهو كافر، وقال الشافعي: إذا تعلّم السحرَ قلنا له: صِفْ لنا سِحرَك، فإن وصف ما يوجب الكفرَ مثل ما اعتقده أهل بابل من التقرُّب إلى الكواكب السبعة، وأنها تفعل ما يُلتمَس منها - فهو كافر، وإن كان لا يوجب الكفر: فإن اعتقد إباحته فهو كافر.

 

قال ابن هُبَيرة: وهل يُقتل بمجرَّد فعله واستعماله؟! فقال أحمد ومالك: نعم، وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا، فأما إن قتَل إنسانًا بسحره، فإنه يُقتل عند مالك والشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة: لا يُقتل حتى يتكرَّر منه ذلك، أو يقرَّ بذلك في حق شخص مُعيَّن فيُقتل عندهم حدًّا، إلا الشافعي فإنه يُقتل - والحالة هذه - قِصاصًا.

 

قال: وهل إذا تاب الساحر تُقبل توبته؟!

فقال مالك وأحمد في المشهور عنه وأبو حنيفة: لا تقبل، وقال الشافعي وأحمد في الرواية: تُقبَل، قلتُ: وهو الصحيح - إن شاء الله - لقول الله تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53]، وهذا في حقِّ من تاب، أسأل الله أن يتوبَ علينا وعلى عُصاة المسلمين.

 

وأما ساحر أهل الكتاب؛ فعند أبي حنيفة أنه يُقتل كما يُقتل الساحر إذا كان مُسلمًا، وقال مالك وأحمد والشافعي: لا يُقتل لقصَّة لبيد بن الأعصم، واختلفوا في المسلمة الساحرة، فعند أبي حنيفة أنها لا تُقتل ولكن تُحبَس، وقال الثلاثة: حُكمها حُكْم الرجل، والله أعلم، قلت: قول الثلاثة أظهر؛ لحديث: ((النساء شقائق الرجال))، ولأنها تُحَدُّ إن زنتْ أو سرقتْ، فكذلك إن سحَرت.

 

وقال أبو بكر الخلال: أخبرنا أبو بكر المروزي قال: قرأ على أبي عبدالله - يعني ابن حنبل - عمر بن هارون، أخبرنا يونس، عن الزهْريِّ، قال: يُقتل ساحرُ المسلمين، ولا يُقتل ساحر المشركين؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سحرتْه امرأةٌ من اليهود فلم يقتلها، وقد نقل القرطبيُّ عن مالك أنه قال في الذمي: يُقتل إن قتَل سِحرُه، وحكى ابن خويز منداد عن مالك روايتَين في الذمي إذا سحَر أحدًا؛ الأولى: أنه يُستتاب، فإن أسلم وإلا قُتل، والثانية: أنه يُقتل وإن أسلم، وأما الساحر المسلم، فإن تضمَّن سِحره كفرًا كفَر عند الأئمة الأربعة وغيرهم، لكن مالكًا قال: إذا ظهر عليه لم تُقبَل توبته؛ لأنه كالزِّنديق، فإن تاب قبل أن يظهر عليه وجاءنا تائبًا قبلْناه، فإن قتَل بسحره قُتل، قال الشافعي: فإن قال: لم أتعمَّد القتل، فهو مُخطئ عليه الدِّيَة.

 

إذًا أُجمِل ما قلتُه قبل أن أدخل في المسألة التالية؛ حتى لا تتشتت الأذهان، فأقول: السحر عبارة عما خفي سببه ولَطُف مأخذه، وسُمي سِحرًا؛ لأنه يَحصل بأمور خفية، لا تُدرَك بالأبصار، وهو عزائم ورقًى وكلام يُتكلَّم به وأدوية وتدخينات، وله حقيقة، ومنه ما يؤثِّر في القلوب والأبدان؛ فيُمرض، ويَقتل، ويُفرِّق بين المرء وزوجه، وتأثيره بإذن الله الكوني القدري، وهو عمل شيطانيٌّ، وكثير منه لا يتوصل إليه إلا بالشرك والتقرُّب إلى الأرواح الخبيثة بما تحب، والتوصُّل إلى استخدامها بالإشراك بها؛ ولهذا قرنه الشارع بالشرك؛ حيث يقول -صلى الله عليه وسلم-: ((اجتنبوا السبعَ الموبقات))، قالوا: "ما هي؟" قال: ((الإشراك بالله، والسحر...)) الحديث، فهو داخل في الشرك من ناحيتَين:

الأُولى: ما فيه من استخدام الشياطين، والتعلُّق بهم، والتقرُّب إليهم بما يُحبونه؛ ليقوموا بخدمة الساحر.

 

والثانية: ما فيه من دعوى علم الغيب ودعوى مشاركة الله في ذلك، وهذا كفرٌ وضلال؛ قال -تعالى-: ﴿ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ﴾ [البقرة: 102]؛ أي: نصيب، وإذا كان كذلك، فلا شك أنه كفْر وشرك يناقض العقيدة، ويجب قتْل مُتعاطيه، كما قَتَلَه جماعةٌ من أكابر الصحابة - رضي الله عنهم.

 

وقد تساهل الناس في شأن الساحر والسحْر، وربما عدُّوا ذلك فنًّا من الفنون التي يفتخرون بها، ويَمنحون أصحابها الجوائز تشجيعًا، ويُقيمون النوادي والحفلات والمسابقات للسحرة، ويحضرها آلاف المتفرِّجين والمشجِّعين، وهذا - والله - من الجهل بالدين، والتهاون بشأن العقيدة، وتمكين للعابثين بها، فمن صفَّق لهذا الأمر، فقد أقرَّ به، فَلْيُنْظَرْ في علمه وجهله، والله المستعان.

 

رابعًا: بيان بعض أنواع السحر:

السحر له أنواع كثيرة تسمَّى بمسميات غير مسمى السحر، ولكن عند التدقيق والنظر نجد أنها من السحر؛ لذلك فإني سأبين بعض أنواع السحر، وإن كنت ذكرتُ منها من قبلُ نوعًا أو أكثر، فلا مانع من تكرار ذلك؛ ففي جمع المتفرِّقات في مكان واحد فوائدُ عظيمة، وقبل ذكر بعض أنواع السحر أودُّ أن أقدم بكلمة عن ادعاء علم الغيب؛ حتى نكون على وعي بما نقول، وبما يَحصل حولنا.

 

المراد بالغيب:

ما غاب عن الناس من الأمور المستقبلية والماضية وما لا يرونه، أو هو كل ما لا تراه ولا تسمعه، وقد اختصَّ الله بعلمه؛ فقال -تعالى-: ﴿ قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ﴾ [النمل: 65]، فلا يعلم الغيب إلا الله -تعالى- وحده، وقد يُطلع رسلَه على ما شاء من غيبه لحِكمة ومصلحة؛ قال -تعالى-: ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ﴾ [الجن: 26، 27]؛ أي: لا يطلع على شيء من الغيب إلا من اصطفاه لرسالته، فيُظهره على ما يشاء من الغيب؛ لأنه يستدلُّ على نبوته بالمعجزات التي منها الإخبارُ عن الغيب الذي يُطلعه الله -تعالى- عليه.

 

وهذا يعمُّ الرسول الملَكي والبشري، ولا يُطلع غيرهما لدليل الحصْر؛ فمن ادعى علم الغيب بأي وسيلة من الوسائل غير مَن استثناه الله من رسله، فهو كاذب كافر، سواءٌ ادعى ذلك بواسطة قراءة الكف، أو الفنجان، أو الكهانة، أو التنجيم، أو غير ذلك.

 

وهذا الذي يَحصل من بعض المشعوذين والدجالين من الإخبار عن مكان الأشياء المفقودة، أو الأشياء الغائبة، وعن أسباب بعض الأمراض، فيقولون: فلان عمِل لك كذا وكذا فمرضتَ بسببه؛ إنما هو لاستخدام الجن والشياطين، ويُظهرون للناس أن هذا يَحصل لهم عن طريق عمَل هذه الأشياء من باب الخداع والتلبيس.

 

قال شيخ الإسلام: "والكهان كان يكون لأحدهم القرين من الشياطين يخبره بكثير من الغيبيات بما يَسترِقه من السمع، وكانوا يَخلطون الصدق بالكذب... إلى أن قال: ومن هؤلاء من يأتيه الشيطان بأطعمة وفواكه وحلوى وغير ذلك، مما لا يكون في ذلك المَوضع، ومنهم من يَطير به الجنُّ إلى مكة أو بيت المقدس أو غير ذلك".

 

وبعد ما ذكرتُ من التقدمة باختصاص الله -تعالى- وحده بعلم الغيب، أبدأ في سرد بعض أنواع السحر؛ فمنها:

1- التنجيم: قال شيخ الإسلام: التنجيم هو الاستدلال بالأحوال الفلَكية على الحوادث الأرضية، وقال الخطابي: علم النجوم المنهي عنه هو ما يدَّعيه أهل التنجيم من علم الكوائن والحوادث التي ستقع في مستقبل الزمان؛ كأوقات هبوب الرياح، ومجيء المطر، وتغيُّر الأسعار، وما في معناها من الأمور التي يَزعمون أنها تُدرَك معرفتُها بمسير الكواكب في مجاريها واجتماعها وافتراقها، ويدَّعون أن لها تأثيرًا في السُّفليات، وهذا منهم تحكُّم على الغيب، وتعاطٍ لعلمٍ قد استأثر الله -تعالى- به، ولا يعلم الغيبَ سواه، فيقولون: من تزوَّج بنجم كذا أو كذا، حصل له كذا وكذا.

 

قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه: قال قتادة: "خلق اللهُ هذه النجوم لثلاث؛ جعلها زينة للسماء، ورجومًا للشياطين، وعلاماتٍ يُهتدى بها، فمن تأوَّل غير ذلك، أخطأ وأضاع نصيبه، وتكلَّف ما لا علْم له به.

 

قلت: هذا الأثر علَّقه البخاري في صحيحه، وأخرجه عبدالرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وغيرهم، وأخرجه الخطيب في كتاب النجوم عن قتادة، ولفظه قال: "إنما جعل الله هذه النجوم لثلاث خصال؛ جعلها زينةً للسماء، وجعلها يُهتدى بها، وجعلها رجومًا للشياطين، فمن تعاطى فيها غير ذلك، فقد قال برأيه، وأخطأ حظَّه، وأضاع نصيبه، وتكلَّف ما لا علْمَ له به، وإن ناسًا جهلة بأمر الله قد أحدثوا في هذه النجوم كهانةً: مَن أعرس بنجم كذا وكذا، كان كذا وكذا، ومن سافر بنجم كذا وكذا، كان كذا وكذا، ولعمري ما من نجْم إلا يولد به الأحمر والأسود، والطويل والقصير، والحسن والدميم، وما عِلم هذه النجوم وهذه الدابَّة وهذا الطائر بشيء من هذا الغَيب، ولو أن أحدًا علم الغيب، لعَلِمه آدم الذي خلقه الله -تعالى- بيده، وأسجد له ملائكته، وعلَّمه أسماء كل شيء".

 

وقول قتادة - رحمه الله - يدل على أن علم التنجيم هذا قد حدَث في عصره، فأوجب له إنكاره على من اعتقده وتعلَّق به، وهذا العلم مما يُنافي التوحيدَ ويوقِع في الشرك؛ لأنه ينسب الحوادثَ إلى غير مَن أحدثها، وهو الله - سبحانه - بمشيئته وإرادته؛ كما قال -تعالى-: ﴿ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ [فاطر: 3]، ﴿ قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ﴾ [النمل: 65].

 

فتأمَّل ما أنكره هذا الإمام مما حدَث من المُنكرات في عصر التابعين! وما زال الشرُّ يَزداد في كل عصرٍ بعدهم، حتى بلغ الغاية في هذه الأعصار، وعمَّت به البلوى في جميع الأمصار، فمُقلٌّ ومُستكثِر، وعزَّ في الناس من يُنكره، وعظُمت المصيبة به في الدين، وقد يذهب بعض الجهَّال وضعاف الإيمان إلى هؤلاء المنجِّمين، فيسألهم عن مستقبل حياته، وما يَجري عليه فيه، وعن زواجه، وغير ذلك، فإنا لله وإنا إليه راجعون!

 

ولقد ذكرتُ فيما سبق أن ما تتنبأ به المراصد الفلكية من أوقات الكسوف والخسوف وغير ذلك، ليس من هذا الباب؛ قال الخطابي: "أما علم النجوم الذي يُدرَك من طريق المشاهدة والخبر، الذي يعرف به الزوال، وتُعلَم به جهة القِبلة، إلى غير ذلك، فإنه غير داخل فيما نُهي عنه".

 

هذا، والتنجيم أنواع؛ فأعظمها ما يفعله عبَدة النجوم ويعتقدونه في السبعة السيَّارة وغيرها؛ فقد بنَوا بيوتًا لأجْلِها، وصوروا فيها تماثيل سمَّوها بأسماء النجوم، وجعلوا لها مناسك وشرائع يعبدونها بكيفياتها، واعتقدوا تصرُّفها في الكون، وهذا هو المعروف عن قوم إبراهيم - عليه السلام.

 

• ومنها: ما يفعله مَن يكتب حروف أبا جاد، ويجعل لكل حرف منها قدرًا من العدد معلومًا، ويُجري على ذلك أسماء الآدميِّين والأزمنة والأمكنة وغيرها، ويجمع جمعًا معروفًا عِنده، ويطرح منها طرحًا خاصًّا، ويُثبِت إثباتًا خاصًّا، وينسبه إلى الأبراج الاثني عشر المعروفة عند أهل الحِساب، ثم يحكم على تلك القواعد بالسعود والنحوس وغيرها مما يوجِّه إليه الشيطان، وكثير منهم يُغيِّر الاسم لأجل ذلك، ويفرّق بين المرء وزوجه بذلك، ويعتقد أنهم إن جمَعهم بيت لا يعيش أحدُهم، وقد يتحكَّم بذلك في الغيب، فيدَّعي أن هذا يُولَد له، وهذا لا يولد له، وغير ذلك من أمور الغيب، وهذا من أعظم الشرك، فمن صدَّقه واعتقد فيه، كفر - والعياذ بالله.

 

• ومنها: النظر في حركات الأفلاك ودورانها، وطلوعها وغروبها، واقترانها وافتراقها، مُعتقدين أن لكل نجم منها تأثيراتٍ في كل حركاته مُنفردًا، وله تأثيرات أخرى عند اقترانه بغيره؛ في غلاء الأسعار ورخصها، وهبوب الرياح وسكونها، ووقوع الحوادث والكوائن، وقد يَنسبون ذلك إليها مُطلقًا، ومن هذا القسم الاستِسقاء بالأنواء.

 

• ومنها: النظر في منازل القمر الثمانية والعشرين، مع اعتقاد التأثيرات في اقتران القمر بكل منها ومفارقته، وأن في تلك سعودًا أو نحوسًا، وتأليفًا وتفريقًا، وغير ذلك، واعتقاد صدق كل هذه الأنواع محادَّةٌ لله ورسوله، وتكذيب بشرْعِه وتنزيلِه، واتباع لزخارف الشيطان، ما أنزل الله بذلك من سلطان، والنجم مخلوق من المخلوقات، مربوب مُسخَّر مدبَّر، كائن بعد أن لم يكنْ، مسبوق بالعدم المحضِ متعقَّبٌ به، ليس له تأثير في حركة في الكون ولا سُكون، لا في نفسه، ولا في غيره.

 

2- ومن أنواع السحر: زجْر الطير، والخطُّ بالأرض؛ قال أحمد: حدَّثنا محمد بن جعفر، حدَّثنا عوف، عن حيان بن العلاء، حدثنا قطن بن قبيصة عن أبيه أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن العيافة والطَّرْق والطِّيَرة من الجبت))، قال عوف: العيافة: زجْر الطير، والتفاؤل بأسمائها وأصواتها وممرِّها، وهو من عادات العرب، وكثير في أشعارهم، يقال: عاف يعيف عيفًا إذا زجَر وحدَس وظنَّ، والطَّرق: الخطُّ يُخط بالأرض، وهو ما يسمونه خط الرمل وعِلمه، وهو ذائع بين أهل العصر، ولبعضهم فيه تأليف، وقد يتعيش به كثير من المتكهِّنين، يُغرون به البُلْهَ والجهلة، زاعمين أنهم يطَّلعون على المغيَّبات - وهم كاذبون - فإن هذا العلم - بل الجهل - لا يُقصد به إلا خداع الناس، وأكل أموالهم بالباطل، وقد بحثتُ في قواعده فوجدته - كما ذكرتُ - رجمًا بالغيب، وهو من الجِبْت كما في الحديث، فيجب على المؤمنين الكفْرُ به، ومثله ما يُسمونه علم قراءة الكفِّ، وقراءة الفنجان، ومُناجاة حب البن، ونحو ذلك، كل ذلك دجَل وسحر واستمتاعُ كلٍّ من شياطين الجن والإنس ببعضهم، نسأل الله العافية للمسلمين من هذه الأمراض الفتاكة.

 

وأما الطِّيَرة، فأذكرها قريبًا - إن شاء الله - وقوله: من الجِبت: هو السحر كما قال عمر، وكذلك ابن عباس، وأبو العالية، ومجاهد، والحسن، وغيرهم، وعن ابن عباس وغيره أيضًا: الجبت: الشيطان، ولا يُنافي الأول؛ لأن السحر من عمل الشيطان، وعنه أيضًا: الجبت: الشرك، وعنه الجبت: الأصنام، وعنه الجبت: حُيَيُّ بن أخطب، وعن الشعبي: الجبت: الكاهن، وعن مجاهد: الجبت: كعب بن الأشرف، ولا مُنافاة أيضًا؛ فإن السحر من الشرك الذي يشمله عبادةُ غير الله، وحُيَيُّ بن أخطب وكعب بن الأشرف ممن خاصَم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالسحر، والكاهن عاملٌ بالسحر، قال في القاموس: الجِبت - بالكسر -: الصنم، والكاهن، والساحر، والسحر، والذي لا خير فيه، وكل ما عُبد من دون الله - عزَّ وجلَّ.

 

3- ومن أنواع السحر أيضًا: العَقْد والنفْث فيه: قال -تعالى-: ﴿ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ﴾ [الفلق: 4]؛ يعني: السواحر اللاتي يفعلن ذلك، والنَّفث هو النفخ مع الريق، وهو دون التَّفل، والنفث: فعل الساحر؛ فإذا تكيَّفتْ نفسه بالخبث والشر الذي يريده المسحور، ويستعين عليه بالأرواح الخبيثة، نفخ في تلك العقدة نفخًا معه ريق، فيخرج من نفْسِه الخبيثة نفَسٌ مُمازج للشر والأذى، مقارن للريق الممازج لذلك، وقد يتَساعد هو والروح الشيطانية على أذى المسحور، فيصيبُه بإذن الله الكوني القدري لا الشرعي، كما قال ابن القيم - رحمه الله.

 

وللنسائي من حديث أبي هريرة: ((من عقَد عقدةً ثم نفث فيها، فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلَّق شيئًا وُكِلَ إليه)).

 

وقد أطلق السحر على ما فيه التخييل في قلب الأعيان، وإن لم يكن السحر الحقيقي كما في الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن من البيان لسِحرًا))، والبيان هو البلاغة والفصاحة، قال صعصعة بن صوحان: صدق نبي الله؛ فإن الرجل يكون عليه الحقُّ وهو ألحَن بالحُجَج من صاحب الحق، فيَسحَر القومَ ببيانه فيذهب الحق، فقوله: ((إن من البيان لسحرًا)) هذا من التشبيه البليغ؛ لكون ذلك يعمل عمل السحر، فيجعل الحق في قالب الباطل، والباطل في قالب الحق، فيَستميل به قلوب الجهال؛ حتى يَقبَلوا الباطل ويُنكروا الحق - نسأل الله الثبات والاستقامة على الهدى.

 

وأما البيان الذي يوضِّح الحق ويُقرِّره، ويبطل الباطل ويبيِّنه، فهو فريضة على كل مسلم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وهو من الجهاد في سبيل الله، فهذا هو الممدوح، وهكذا حال الرسل وأتباعهم؛ ولهذا علَتْ مراتبهم في الفضائل، وعَظُمتْ حسناتهم.

 

وبالجملة فالبيان لا يُحمد إلا إذا لم يخرج إلى حدِّ الإسهاب والإطناب، وتغطية الحق وتحسين الباطل، فإذا خرج إلى هذا، فهو مذموم، وعلى هذا تدلُّ الأحاديث؛ مثل حديثنا هذا، وحديث أحمد وأبي داود: ((إن الله يُبغض البليغ من الرجال، الذي يتخلَّل بلسانه كما تخلل البقرة بلسانها)).

 

وقد سمى النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يعمل عمَل السحر سحرًا، وإن لم يكن سحرًا؛ كقوله -صلى الله عليه وسلم- في صحيح مسلم: ((ألا أنبئكم ما العَضْهُ؟! هي النَّميمةُ القالَةُ بين الناس)).

 

والعَضْهُ في لغة قريش السِّحْر، ويقولون للساحر: عاضه، فسمَّى النميمة سحرًا؛ لأنها تعمل عمل السحر في التفرقة بين المرء وزوجه، وغيرِهما من المتحابِّين، بل هي أعظم في الوشاية؛ لأنها تثير العداوة بين الأخوَين، وتُسعر الحرب بين المتسالِمَين؛ كما هو معروف مشاهَد لا يُنْكَر، وذكر ابن عبدالبر عن يحيى بن أبي كثير قال: يُفسد النمَّامُ والكذَّاب في ساعة ما لا يفسد الساحرُ في سنة، وقال أبو خطاب في عيون المسائل: "ومن السحر السعي بالنميمة والإفساد بين الناس"؛ قال في الفروع: "ووجْهُه أنه يقصد الأذى بكلامه وعمله على وجه المكر والحيلة، أشبه السحر، وهذا يعرف بالعُرف والعادة أنه يؤثِّر ويُنتج ما يعمله السحر أو أكثر؛ فيُعْطى حُكْمَه؛ تسويةً بين المتماثلين أو المتقاربين، لكن يقال: الساحر إنما يَكفُر لوصف السحر، وهو أمر خاص، ودليله خاص، وهذا ليس بساحر؛ وإنما يؤثر عمله ما يؤثره، فيُعطى حكمه إلا فيما اختص به من الكفر وعدم قَبول التوبة.

 

رابعًا: النُّشرة: وهي بضم النون كما في القاموس، قال أبو السعادات: النُّشرة: ضرب من العلاج والرقية يعالَج به من يُظَن أن به مسًّا من الجن، سمِّيت نشرةً؛ لأنه ينشر بها عنه ما خامرَه من الداء؛ أي: يُكشَف ويزول، وقال الحسن: النُّشرة من السحر، وقال ابن الجوزي: النشرة حلُّ السحر عن المسحور، ولا يكاد يقدر عليه إلا من يعرف السحر، وروى أحمد بسند جيد وأبو داود عن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل عن النُّشرة فقال: ((هي من عمل الشيطان))، وسئل أحمد عنها فقال: ابن مسعود يكره هذا كله، وقد أراد أحمد - رحمه الله - أن ابن مسعود - رضي الله عنه - يَكره النُّشرة التي هي من عمل الشيطان كما يكره تعليقَ التمائم مطلقًا.

 

وفي البخاري عن قتادة قلت لابن المسيَّب: رجل به طبٌّ أو يؤخذ عن امرأته: أيحل عنه أو ينشر؟! قال: لا بأس به؛ إنما يُريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع، فلم يُنْهَ عنه، وهذا من ابن المسيب يُحمل على نوع من النُّشرة لا يُعلم أنه سحر.

 

قال ابن القيم:

"النشرة: حلُّ السحر عن المسحور، وهي نوعان؛ أحدهما: حلٌّ بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، وعليه يُحمل قول الحسن؛ فيتقرَّب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب، فيبطل عمله عن المسحور، والثاني: النشرة بالرقية والتعوذات والأدوية والدعوات المباحة، فهذا جائز".

 

ومما جاء في صفة النُّشرة الجائزة ما رواه ابن حاتم وأبو الشيخ عن ليث بن أبي سُليم قال: بلغني أن هؤلاء الآيات شفاء من السحر بإذن الله؛ تقرأ في إناء فيه ماء، ثم يصبُّ على رأس المسحور: الآية التي في سورة يونس: ﴿ فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ﴾ [يونس: 81، 82]، وقوله: ﴿ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 118] إلى آخر الآيات الأربع، وقوله: ﴿ إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ﴾ [طه: 69].

 

وقال ابن بطال في كتاب وهب بن منبه: "إنه يأخذ سبع ورقات من سدْر أخضر، فيدقُّه بين حجرَين، ثم يضرب بالماء، ويقرأ فيه آية الكرسي والقواقل، ثم يحسو منه ثلاث حسوات، ثم يغتسل به؛ يذهب عنه كلُّ ما به، هو جيِّد للرجل إذا حُبس عن أهله".

 

وقول العلامة ابن القيم:

"والثاني النُّشرة بالرقية والتعوُّذات والأدعية والأدوية المباحة، فهو جائز" يُشير - رحمه الله - إلى مثل هذا، وعليه يحمل كلام من أجاز النُّشرة من العلماء، فيكون المعنى من جواز النشرة عند من أجازها: أنها حلُّ السحر عن المسحور بالرُّقى والتعاويذ والأدعية من الوحي كتابًا وسنة، ومن أعظمِها فاتحة الكتاب، وآية الكرسي، والمعوِّذتان، وآخر سورة الحشر، فإن ضمَّ إلى ذلك الآيات التي فيها التعوذ من الشياطين مطلقًا، والآيات التي يتضمَّن لفظها إبطال السحر، كان ذلك حسنًا، ومثل ذلك الأدعية والتعاويذ المأثورة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- الواردة في الأحاديث الصحيحة، وكتبُ السنة من الأمهات وغيرها مشحوناتٌ بالأدعية والتعوُّذات الكافية الشافية بإذن الله -تعالى- فمن ابتغى ذلك وجده، والله الموفِّق.

 

والحاصل أن ما كان من النُّشرة بالقرآن والأدعية والأدوية المباحة، فجائز، وما كان منها بالسحر فيَحرُم؛ فإنه مُعاوَنة للساحر، وإقرارٌ له على عمله، وتقرُّب إلى الشياطين بأنواع القُرَب لإبطال العمل عن المسحور؛ ولهذا ترى كثيرًا من السحرة الفجَرة في الأزمان التي لا سيف فيها يردعهم، يتعمد سحْر الناس ممن يحبُّه أو يُبغضه؛ ليضطرَّه بذلك إلى سؤاله حلَّه؛ ليتوصَّل بذلك إلى أموال الناس بالباطل، فيستحوذ على أموالهم ودينهم، فنسأل الله -تعالى- العفو والعافية.

 

7- أعود إلى مظاهر وألوان الشرك فأقول:

من ألوان الشرك الأكبر - الذي لا يغفره الله - صرف أي عبادة من العبادات لغير الله، سواء كان ملَكًا أو رسولاً أو وليًّا، فضلاً عما دون ذلك من الأحجار والأشجار والقبور - حتى ولو على سبيل التوسُّل - فمن ذلك: الدعاء، والاستغاثة، وطلب المدد من الأموات والغائبين؛ قال -تعالى-: ﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ﴾ [الأحقاف: 6،5]، وسبب البلاء الغلوُّ في الصالحين، وبِناء المشاهد والقباب والمساجد على قبورهم، والتمسُّح بها، والطواف حولها، وقد سدَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الباب بقوله: ((لا تتَّخذوا القبور مساجد؛ إني أنهاكم عن ذلك)).

 

فالمشركون اعتقدوا أن الملائكة بنات لله؛ لتُقرِّبَهم من الله زُلفى، قال -تعالى-: ﴿ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى ﴾ [النجم: 19، 20] فهم اشتقُّوا اللات من الله، والعزَّى من العزيز، ومناة من المنَّان؛ قال -تعالى-: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى ﴾ [النجم: 27].

 

وأما النصارى، فيعبدون الرُّوح القدس، أما عبادة الأولياء، فكثيرة جدًّا في هذه الأمَّة، ولا فرق بين أن تُقصد عبادتهم ابتداءً، أو على سبيل التوسُّل والتقرب، طالما عبَدَ غير الله، فكثير من الناس لا يَعبُد ابتداءً، ولكن لتُقرِّبه من الله على سبيل الوساطة، فحاله كما قال المشركون: ﴿ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾ [الزمر: 3]، ﴿ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ ﴾ [يونس: 18].

 

ولا شك أن هناك فرقًا بين المشركين الأوائل وبين من وقَع في الشرك في هذه الأمَّة، وهو أن الأوائل كانوا يُصرِّحون بعبادتهم لها - الطواغيت -: ﴿ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾ [الزمر: 3] فهم يصرِّحون أنها آلهة، وأما مُشركو هذه الأمة، فلا يعتقدون أنها آلهة، ولا يظن أنه يعبدهم، كما قال عدي بن حاتم - رضي الله عنه - للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنا لا نعبدهم"، أما من صرَّح بعبادتهم وقال: أنا أعبد الأولياء، فهذا قد نقَض أصل التوحيد صراحةً، وأما من قال: أنا لا أعبدهم، فهذا نأتي له بالأدلة على أن دعاءَ غير الله عبادةٌ، ونوضِّح له ذلك، ونُزيل - بإذن الله - الشبهاتِ التي قد يتعلق بها، فإذا أصر بعد ذلك فهو كافر؛ حيث أقيمت عليه الحُجَّة.

 

والدليل على أن دعاء غير الله عبادة: قوله -تعالى-: ﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ﴾ [الأحقاف: 5،6] وقال -تعالى-: ﴿ وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ * وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ ﴾ [يونس: 107،106]، وهنا بيَّن بلوغ توحيد الألوهية في الدعاء وغيره من أنواع العبادات، وبيَّن دليلاً من توحيد الربوبية؛ لأن من يدعو من دون الله فإنه يعتقد فيه النفع والضر، وقوله -تعالى-: ﴿ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ خطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم- والمراد به غيرُه؛ فلو أنَّ أصلحَ الصالحين، وأفضل الخَلق، فعل هذا، لكان مُشركًا؛ ولذلك لا يقال: إن فلانًا هذا رجل صالح، أو عالِم يفعل ذلك! فإنه لو فعَله نبيٌّ من الأنبياء لكان مشركًا - نسأل الله العفو والعافية.

 

ومن الأدلة كذلك قوله -تعالى-: ﴿ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾ [فاطر: 14]، فهذا نصٌّ قاطع على أن دعاءَهم شرك؛ ولذلك فالحُجَّة هي آيات الله -تعالى- وليس هناك احتجاج على كلام الله، فلا يقع من المسلم بعد بيان القرآن.

 

والمقصود بالدعاء:

هو الطلب من الغائب- الجن، الملائكة، الأولياء - فذلك بخلاف الحاضرين، أو من تتوقع حضورهم بالأسباب الظاهرة، فهؤلاء يجوز للإنسان أن يسألهم، ولا يقال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- حاضر، والأولياء حاضرون، وهم حاضِرون مع الموتى، والملائكة حاضرون، ولا اعتبار لذلك؛ لأن الذي يُخاطَب بالسؤال لا بد أن يكون حاضرًا بالأسباب الظاهرة؛ يعنى بما نشاهده بأعيننا، ونسمعه بآذاننا، فالأموات لا يسمعون إلا ما ورد أنهم يسمعونه، مثل سلام من يسلم عليهم، ومَن يسأل الله لهم الرحمة، فالواجب أن تدعو للميت، وليس أن تدعوَه لحاجتك من دون الله.

 

8- ومن مظاهر الشرك الأكبر أيضًا: الذبح لغير الله، وإن كنتُ ذكرت من قبل كلامًا عنه في كيفية تحقيق توحيد الألوهية، فلا مانع من ذكره هنا ثانيةً؛ للكلام عن قضية هامة تدخل فيه، فأقول وبالله التوفيق: الذبح لغير الله -تعالى- شرك؛ فقد قال - سبحانه -: ﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ﴾ [الكوثر: 2] فإن كانت الصلاة لغير الله شِركًا، فالذبح كذلك: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 162] فالذبح تعظيمًا هو العبادة، وهذا غير أن تقول: ذبحْتُ للضَّيف؛ أي لتُكرَمه؛ فاللام هنا للتقريب، ولذلك لا بد من حضور النية؛ ولذا فبعض العلماء المتقدِّمين يقولون: ما يُذْبح للسلطان عند قدومه هو مما أُهِلَّ به لغير الله! فهذا الكلام يُنظر: هل هو إراقة للدم أمام السلطان، أم هو يذبح لكي يُكرم ويُطعم؟! وهذا هو الفارق المهمُّ، كما يقع في كثير من مجالس العرب، أنه إذا أتاهم ضيف فلا بد أن يَذبحوا له، إذًا: لا بد من التمييز وحضور النية.

 

أما ما يقوله السحرة والكهنة: إن الجنَّ يَطلبون منهم ذبح كذا وكذا، فهذا من الشرك الذي لا يغفره الله -تعالى- إلا بالتوبة؛ قال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: ((لعن الله مَن ذبح لغير الله))، والذبح لغير الله يكون بالنيَّة، أو أن يسمَّى عليه بغير الله - كالمسيح أو الصليب أو اسم من الأولياء أو نحو ذلك - ولو أنه سمَّى الله عند الذبيحة، ولكنه ينوي تعظيم الجن أو الأولياء أو غير ذلك، والتقرب إليهم، أو كان ناذرًا لهم ذلك، فهو مما أُهِلَّ لغير الله به، وكذلك ما ذبح على النُّصب - وهي الأصنام المنصوبة للذبح، مثل: قدمَي صنم يعبده المشركون، أو عند صليب مشهور يذبح عنده النصارى - فإذا كان الذابح مسلمًا، فإنه يكون بهذا الفعل مرتدًّا، وهناك قول - ولكنه ضعيف غير مُعتبَر - أن الله قد أحلَّ لنا ذبائح النصارى وهو يعلم أنها مما أُهِلَّ بها لغير الله؛ فهم يقولون: باسم المسيح وجرجس، والصحيح أن الله قد أحلَّ لنا ذبائحهم التي أحلَّها لهم، وهو - سبحانه - لم يُحلَّ الشرك في أي شرع من الشرائع، وما أباح الله لهم الخنزير، وهو يعلم أنهم يستحلون الخنزير، فهل دخل ذلك في عموم قوله -تعالى-: ﴿ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ ﴾ [المائدة: 5]، فدلَّ ذلك على أن طعام الذين أوتوا الكتاب الذي أحله الله لهم في شريعتهم التي أنزلها الله هو حلال لنا، وما حرَّمه فهو حرام: ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ﴾ [الحج: 34]، فالله - سبحانه - أَذِن لنا في هذه الرُّوح لمنفعتِنا، فلا بد أن نستأذن الله -تعالى- عند ذبحها؛ وذلك بذكر اسم الله عليها، وإلا فقد أزهقت هذه الروح بغير إذن الله -تعالى- فهي ميتة، فالنصارى يستحلُّون الميتة، ولا يرَوْن وجوب الذبح.

 

مسألة اللحوم المستوردة:

ومسألة اللحوم المستوردة تُبنى على هذا، وإن كان فيها خلاف؛ فيقول بعض أهل العلم: إن الأصل عند النصارى أنهم يسمُّون، فعليه: يحلُّ لنا ذبائحهم، ولكن هذا الخلاف غير سائغ، وذبائحهم حرام علينا إذا عرفنا أنهم لم يذكروا اسمَ الله عليها، وأنهم لم يَذبحوا، وأنها ميتة، أما إذا لم نعرف، فهذا الذي فيه الخلاف السائغ.

 

وأرى: أنه لا يجوز الأكل من هذه اللحوم المستوردة إلا إذا عَلِمنا أن الذبح قد تمَّ على ما شرع الله تعالى، أما أمر التسمية: فإنه إذا كان معلومًا عنهم التسمية كالمسلمين، فهذا يؤكَل، ولا يشترط معرفة هل سموا الله أم لا، والقول في هذه الحالة: سموا أنتم وكُلُوا؛ كما قال -صلى الله عليه وسلم- في الشاةِ التي ذُبِحت ولا يَدرون: أسموا الله أم لا، أما إذا وصَل التبديل إلى درجة أنهم يُسمُّون بالمسيح أو غيره من دون الله -تعالى- فلا يحلُّ حتى نعلم حصول التسمية الشرعية: ((ما أنْهَر الدمَ، وذُكِرُ اسمُ الله عليه، فَكُلْ)).

 

ملاحظة: هذا الكلام في متروك التسمية عمدًا، أما متروك التسمية نسيانًا، فهذا فيه خلاف بين أهل العلم في المُسلم، والأكثر على حِلِّ متروك التسمية نسيانًا؛ لأن المسلم نيَّته الذبح لله -تعالى- فقد ذكر اسم الله بقلبه.

 

مسألة الذبح الآلي:

الذي يقوم بالضغط على الزرِّ لإنزال السكين على الحيوان، هو بمنزلة الذابح، فيجب أن يُسمِّي الله -تعالى- عند ضغطه على زرِّ التشغيل، ولا يجوز أن تكون التسمية من خلال جهاز تسجيل، ولكن يجب أن تكون من الذابح، وكذا لا يقول واحد آخَر غير الذابح.

 

والخلاصة في هذه المسألة:

أن الخلاف في المجهول، والراجح فيه عندي أنه لا يجوز الأكل منه إلا بعد معرفة أنه ذُبح على شرع الله -تعالى- لأن الأصل في الذبائح الحرمة؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: ((وإذا وجدتَ مع كلبك كلبًا آخَر، فلا تأكل؛ فإنك سمَّيت على كلبك، ولم تسمِّ عليه))، وقال -صلى الله عليه وسلم- أيضًا في الحديث الصحيح: ((وإذا وجدته قد غرق في الماء، فلا تأكل؛ لأنك لا تدري أسهمك قتله أم الماء))، فجعل كلمة: "لا تدري" هي العلة، فالأصل المنع؛ ولذلك يقول الإمام النوويُّ - رحمه الله -: "إن الأصلَ في الذبائحِ والصيدِ الحرمةُ".

 

أما البعض الذي يجوِّز ذلك فيقول: إن الأصل عند أهل الكتاب الالتزامُ بالشرع، ولكن هذا لا يحدث في واقعنا الآن؛ فالذبح محرَّم في بعض البلاد، وحتى لو ذبَحوا لا يسمُّون شيئًا، ولا يتعبَّدون بهذه المسألة أصلاً، وهذا بخلاف اليهود؛ فالأصل عندهم - فعلاً - الذبحُ على الشرع، فالواقع عندهم أنهم يتعبَّدون بالذبح، ويُسمُّون، بل وعندهم شروط أشد مما عند المسلمين؛ فمثلا: الحائض لا تَذبح، ولا بد من صفات معيَّنة في السكين، وغير ذلك.

 

وإنما يجوز أكل اللحوم المستوردة لو أن مسلمًا عدلاً قال: إن هذا ذبح على الشريعة الإسلامية، وأنا أشرفتُ عليه مثلاً، ولكن لا يجوز ذلك بمجرد وجود ورقة لا نَعرِف مَن كتبَها، وأؤكد على صفة العدالة في هذا المسلم؛ فما أكثر المسلمين الذين يَبيعون اليوم دينَهم بدرهم أو درهمين!

 

9- من ألوان الشرك الأكبر - أيضًا -: النذر للقبور والصالحين والجن؛ قال -تعالى-: ﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ [البقرة: 270]، فالنذر عبادة كما سبق، وصرْفُها لغير الله -تعالى- شركٌ، والنذر لغير الله دائمًا يَرتبط بالاعتقاد، وهذا بخلاف الحلِف بغير الله الذي يقع أحيانًا من الناس؛ لشدَّة جريانه على ألسنتهم، فهم تعودوا ذلك الحلف من غير قصد لتعظيم المحلوف به كتعظيم الله، مع أن النَّذر والحلف من باب واحد، ولكن الذي يحلف بغير الله طالَما أنه يكون غالبًا بغير اعتقاد، فهو شرك أصغر، أما إن كان في حلفه بغير الله معظِّمًا لمن حلف به من دون الله، فهو الشرك الأكبر، ومثال ذلك أن توجِّه يمينًا على إنسان فتطلب منه الحلف بغير الله - الولي الفلاني مثلاً - فهذا من الشرك الأكبر؛ كما في بعض القبائل، يطلبون من الحالف أن يتوجَّه إلى قبر فلان - والله أعلم هل هو ولي أم لا - ثم يقول: بحق هذا الغالب الطالب؛ الغالب: أي إنه سيغلب مَن حلف به كذبًا، والطالب: أي إنه سيطالب بحق المظلوم، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن بعضهم إذا وجَّهته لليمين قد يحلف بالله كذبًا، فإذا قلت له: احلف بشيخك، تلجلَجَ واعترف وأبَى أن يحلف بشيخه كذبًا!

 

أما النَّذر، فلا يكاد يقع فيه جريانُه على اللسان من غير قصد الحاجةِ من الولي مثلاً، ولو كان على سبيل الوساطة، فالأغلب فيه أنه شرك أكبر؛ لأنه بقصد واعتقاد، وأما الحلف، فالأغلب فيه أنه شرك أصغر؛ لجريانه على اللسان بغير قصد.

محمود العشري

كاتب له عدد من الكتابات في المواقع الإسلامية

  • 2
  • 1
  • 37,000
المقال السابق
(17) أسباب تحصيل البصيرة
المقال التالي
(19) الحلف بغير الله

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً