ليل الفتن وسيلها الجارف (الجزء الأول)
المراد بظهور الفتن: كثرتها واشتهارها وعدم التكاتم بها، وتغلغلها في الأمة الإسلامية.
بسم الله الرحمن الرحيم
رغم أن الفتن لا يخلو منها عصر ولا مصر، إلا أنه مع اشتداد الحال هذه الأيام يمكن أن يقال أننا نعيش «زمن الفتن» حيث نصبح على فتنة ونمسي على أخرى، كما ثبت في الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «يتقارب الزمان، ويقلُّ العمل، ويلقى الشح، وتكثر-أو قال تظهر-الفتن» (أحمد).
ويصف د. خاطر الشافعي شدة الأحوال اليوم بكلمات بليغة حيث يقول: أما وقد أتى الزمان الموعود، فقد بات القبض على الجمر سمة القابض على دينه، وأصبحت الليالي تَنزِف من الأنين، بعدما اشتدَّ وطيس المواجهة، بين ما هو كائن، وما هو مُفترَض أن يكون، فيستشعر المؤمن غربةَ رُوحه، وما يكاد يَستنِد بظهره على الواقع المرير، حتى ترتَسِم على جُدرانه لوحة بلا رُوح، وطلاسم بلا معنى، وتكسو المشهد تراجيديا العجز!.
لذلك اشتدت الحاجة في أيامنا تلك لأن نعاود قراءة نصوص الوحي التي ترسم لها معالم هذه الفتن بأدق تفاصيلها، لكي نكون على بصيرة نافذة ولا يشتبه حق بباطل ولا أهل الإيمان بأهل الخذلان، خاصة وأن الحكم على الشيء فرع من تصوره، ولا يمكن أن تكتب النجاة لمن لم يسبر غور البحار، ولذا فالحاجة إلى كشف الفِتَن وتعريتها وتبيين أضرارِها والدلالة على سبُلِ الوقاية منها لا تَقِلُّ أهَمِّية عن الحاجة إلى تعليم أمور الدِّين والْمُطالبة بتنفيذ أحكامه؛ إذِ الفِتَن أصلاً تَذْهب بالدِّين كُلِّه أو بعضه.
- عن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- قال:
أَشْرَفَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ: «هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى، إِنِّي لَأَرَى مَوَاقِعَ الْفِتَنِ خِلَالَ بُيُوتِكُمْ كَمَوَاقِعِ الْقَطْرِ» (متفق عليه).
فإخبار النبي -صلى الله عليه وسلم- عن رؤيته للفتن واقعةً في نواحي المنازل، وتشبيهه مواقع سقوطها بمواقع المطر مشعِرٌ بكثرتها واتصافها بالعموم؛ حيث تصيب قطرات المطر عموم المنطقة التي تسقط عليها، فهذا كائن وواقع في تلك الأزمنة الموصوفة بالخيرية، وأما في هذه الأزمنة المتأخرة فقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن شأنها بما هو أكبر وأكثر؛ ففي حديث آخر يخبر -صلى الله عليه وسلم- أن من علامات الساعة فُشُوَّ الفتن وظهورها والإعلان بها؛ فهذا أبو هريرة -رضي الله عنه- يحدث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ العِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلاَزِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الهَرْجُ - وَهُوَ القَتْلُ القَتْلُ - حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ المَالُ فَيَفِيضَ» (البخاري).
قال العلماء رحمهم الله:
"المراد بظهور الفتن: كثرتها واشتهارها وعدم التكاتم بها، وتغلغلها في الأمة الإسلامية".
- قال حُذَيْفَةُ -رضي الله عنه- سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ» . (مسلم).
قال أبو خالد: فقلت لسعد:
يا أبا مالك! ما أسود مربادا؟ قال: شدة البياض في السواد. قال: قلت فما الكوز مجخيا؟ قال منكوسا.
(تعرض) تلصق بعرض القلوب أي جانبها كما يلصق الحصير بجنب النائم ويؤثر فيه شدة التصاقها به (عودا عودا) أي تعاد وتكرر شيئا بعد شيء، وقيل تظهر على القلوب أي تظهر لها فتنة بعد أخرى (كالحصير) أي كما ينسج الحصير عودا عودا وشظية بعد أخرى (أُشْرِبَهَا) أي دخلت فيه دخولا تاما وألزمها وحلت منه محل الشراب، ومنه {وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة:93] أي حبه، وثوب مشرب بحمرة أي خالطته مخالطة لا انفكاك لها، وفيه فائدة أن من أول أسباب وقوع الفتن استعداد القلب لقبولها (نكت) قال بن دريد: كل نقط في شيء بخلاف لونه فهو نكت (أنكرها) ردها أبيض مثل الصفا. قال القاضي: ليس تشبيهه بالصفا بيانا لبياضه ولكن صفة أخرى على شدته على عقد الإيمان وسلامته من الخلل وأن الفتن لم تلصق به ولم تؤثر فيه كالصفا، وهو الحجر الأملس الذي لا يعلق به شيء. قال بن السراج ليس قوله كالكوز مجخيا تشبيها لما تقدم من سواده بل هو وصف آخر من أوصافه بأنه قلب ونكس حتى لا يعلق به خير ولا حكمة.
- قال -صلى الله عليه وسلم-:
«يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر» (الترمذي).
شبه المعقول بالمحسوس أي الصابر على أحكام الكتاب والسنة يقاسى بما يناله من الشدة والمشقة من أهل البدع والضلال مثل ما يقاسيه من يأخذ النار بيده ويقبض عليها بل ربما كان أشد وهذا من معجزاته فإنه إخبار عن غيب وقد وقع.
- قال -صلى الله عليه وسلم-:
«إن في مال الرجل فتنة، وفى زوجته فتنة، وولده». (الطبراني).
(إن في مال الرجل) ذكر الرجل للتغليب وإلا فالأمر يشمل النساء أيضا (فتنة) أي بلاء ومحنة، وفي هنا سببية (وفي زوجته فتنة و) في (ولده) فتنة، كما نطق به نص القرآن في غير ما مكان، وتوجيهه بما محصوله أنهم يوقعونه في الإثم والعدوان ويقربونه من سخط الرحمن. كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن الولد مبخلة مجبنة مجهلة محزنة» (صحيح الجامع:1990).
- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِى بُرَيْدَةَ يَقُولُ:
كَانَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- يَخْطُبُنَا فَجَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنِ وَعَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَحَمَلَهُمَا فَوَضَعَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «صَدَقَ اللَّهُ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ، نَظَرْتُ إِلَى هَذَيْنِ الصَّبِيَّيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ فَلَمْ أَصْبِرْ حَتَّى قَطَعْتُ حَدِيثِى وَرَفَعْتُهُمَا» (رواه أصحاب السنن).
- عن كعب بن عياض -رضي الله عنه- قل -صلى الله عليه وسلم-: «إن لكل أمة فتنة، وإن فتنة أمتي المال» (الترمذي).
(إن لكل أمة فتنة) أي امتحاناً واختباراً. وقال القاضي: أراد بالفتنة الضلال والمعصية (وإن فتنة أمتي المال) أي الالتهاء به لأنه يشغل البال عن القيام بالطاعة وينسي الآخرة، قال سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن:15] وفيه أن المال فتنة وبه تمسك من فضل الفقر على الغنى قالوا: فلو لم يكن الغنى بالمال إلا أنه فتنة فقل من سلم من إصابتها له وتأثيرها في دينه لكفى. [فيض القدير].
- عن أسامة -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء» (متفق عليه).
قال في الحديث بعدي لأن كونهن فتنة صار بعده أظهر وأشهر وأضر.. قيل:
إن إبليس لما خلقت المرأة قال: أنت نصف جندي وأنت موضع سري وأنت سهمي الذي أرمي بك فلا أخطئ أبداً.. أرسل بعض الخلفاء إلى الفقهاء بجوائز فقبلوها وردها الفضيل فقالت له امرأته: ترد عشرة آلاف وما عندنا قوت يومنا؟ فقال: مثلي ومثلكم كقوم لهم بقرة يحرثون عليها فلما هرمت ذبحوها، وكذا أنتم أردتم ذبحي على كبر سني، موتوا جوعاً قبل أن تذبحوا فضيلاً.
- التصنيف: