مراجعة كتاب الأخطاء الستة للحركة الإسلامية في المغرب
الكتاب الذي بين أيدينا هو جزءٌ من سلسلة كتبها المؤلف في ظروفِ خلافٍ فكري وتنظيمي مع (حركة الإصلاح والتجديد المغربية) (حاتم) التي تأسست – بهذا الاسم- سنة 1992م، والتي يعدّها المؤلف الوريثة الكبرى لـ(حركة الشبيبة الإسلامية) التي تأسست في السبعينات الميلادية
مراجعة كتاب «الأخطاء الستة للحركة الإسلامية في المغرب»
للدكتور فريد الأنصاري رحمه الله تعالى (1)
- غاية الكتاب وظروف تأليفه:
الكتاب الذي بين أيدينا هو جزءٌ من سلسلة كتبها المؤلف في ظروفِ خلافٍ فكري وتنظيمي مع (حركة الإصلاح والتجديد المغربية) (حاتم) التي تأسست – بهذا الاسم- سنة 1992م، والتي يعدّها المؤلف الوريثة الكبرى لـ (حركة الشبيبة الإسلامية) التي تأسست في السبعينات الميلادية ثم تعرضت لضربات أمنيّة عقب واقعة اغتيال الزعيم اليساري عمر بن جلون سنة 1975م. والشبيبة تعدّ امتدادًا لجماعة الإخوان المسلمين في المشرق، دون تبعيةٍ تنظيمية مباشرة، إذ إن مؤسسها عبد الكريم مطيع لم يبايع المرشد العام للإخوان المسلمين في مصر إذ ذاك عمر التلمساني لما طلب ذلك منه(2).
والمؤلِّف ينتمي إلى جماعةٍ تشكَّلَت في دولة المغرب خلال الفترة (1988-1992م) من اتحادٍ لعدد من الهيئات الدعوية سميت بـ(رابطة المستقبل الإسلامي)، وقد كانت تُصدِرُ جريدةً باسم الصحوة، كتب فيها المؤلف عددًا من مقالاته.
وهذه الرابطة توحّدَت مع حركة (حاتم) آنفة الذكر تحت اسم (حركة التوحيد والإصلاح) سنة 1996م، وقد عَمِل المؤلِّف في هذه الحركة حتى سنة 2000م؛ حين أدرك أن تغلُّبَ الحاتميين على توجيه مسارات الحركة الجديدة، وابتلاع (رابطة المستقبل الإسلامي) - وهو ما يسمّيه المؤلف مرحلة الانقلاب الحاتمي - سيحول دون تفعيل الرؤية التي يراها، فقام بالاستقالة من الحركة.
يقول المؤلف واصفًا العلاقة بين مكوِّنَي (حركة التوحيد والإصلاح): (حاتم) و(رابطة المستقبل الإسلامي) خلال السنوات التي عمل فيها مع (حركة التوحيد والإصلاح): (عشنا – نحن أبناء الرابطة (رابطة المستقبل الإسلامي) كفكرٍ وتوجُّه – كالأضياف غير المرغوب فيهم! وأدركنا أنه علينا أن نقاتل، وأن نناور من أجل البقاء كفكر وكتوجه! ولكننا لم نستطع لأن ذلك شيء لم نتعلمه في مجالسنا التربوية من قبل!)(3).
ففي تجربة المؤلف في العمل مع (حركة التوحيد والإصلاح)، وخلافِه مع المكوِّن المتغوِّل في الحركة، وهو حركة (حاتم)، الذي وصفه بعبارته آنفة الذكر؛ قام بعملية مراجعة فكرية، وتكوّنت لديه أيضًا مجموعة من الآراء النقديّة على مستويات متعدّدة، والمهم والمميز جدًّا في هذه الآراء النقدية للمؤلف أنها وصلت إلى نقد مفهوم الدين لدى الحركة الإسلامية، ولم يقتصر عن نقد سلوكيات أو أمور تنظيمية، كما توسع نطاقُهَا ليشمل جماعاتٍ إسلامية متعددةً، ولم يقتصر على الحركة التي كان أصل خلافه معها (حركة حاتم).
يقول المؤلِّف: (لقد كانت تجربة (التوحيد والإصلاح) – بالنسبة لي – صدمة منهاجية مفيدة جدًّا! بل كانت فرصة تاريخية في عمري! راجعتُ فيها كثيرًا من المفاهيم الدينية، بدءًا بمفهوم (الدين) نفسه! وما تفرع عنه من مفاهيم العمل الإسلامي جملة، طبيعته، ومراتب أولوياته. فعانيتُ – شهد الله – أرَقاً وحسرةً على ما ضيعت وعلى ما فرطت! وفي غمرة ذلك بدأت أشاهد معاينةً أنَّ سفينة العمر إنما تتقدم بي نحو الآخرة! وانتصب سيف الآية الكريمة يقصم قلبي ليل نهار: ((قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً؟ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسِبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً!))(الكهف: 99). وأتحدث بهذا عن نفسي فقط! ثم اتَّبَعْتُ سبباً، فأجريتُ عمليات جراحية عميقة على نفسي؛ لاستئصال أورامها الخبيثة! وما زلتُ! فَمَنَّ الله بعد ذلك باجتهادات أخرى في الدعوة والعمل، وباختيارات أخرى في الفكر والممارسة، وبطريقة أخرى في التصريف والتدبير. وقد صدر شيء من ذلك في بعض كتبي، وستصدر تتماته في ورقات أخرى لاحقا إن شاء الله. وإنما الموفق من وفقه الله)(4).
وقد أبدى المؤلف تلك الآراء في سلسلة من الكتب هي (الفجور السياسي) أصدره سنة 2000، و(البيان الدعوي وظاهرة التضخم السياسي) أصدره سنة 2003، وكتابنا هذا (الأخطاء الستة للحركة الإسلامية في المغرب) أصدره سنة 2007، وختَمَها بكتاب (الفطرية) سنة 2009، وهي السنة التي توفي فيها، رحمه الله تعالى.
يقول المؤلف في وصف هذا الكتاب على جهة الخصوص: (لقد كان كتاب (الأخطاء الستة) صرخة ألم من جرح عميق تمادى أمدُه! جرح لا يرجع – شهد الله – إلى ضرر لحق بشخصي كما أظنك تعلم، وإنما هو جرح غاص بتجربتي المريرة في (حركة التوحيد والإصلاح) طيلة السنوات التي عرفت!)(5).
كما أن إعلان الحركة عن (حزب العدالة والتنمية) كواجهة سياسِيَّة لها عدَّه المؤلفُ إعلانًا لوفاة الحركة الإسلامية (ص24)، سيما أنه صار هو والحركة وجهان لعملة واحدة، وصارت الدعوة خادمة للسياسة. (ص94). وكان له التأثيرُ المباشرُ في استقالته من الحركة، ولهذا الإعلان - أيضًا - النصيبُ الوافرُ من النقد في كتابنا هذا.
وهذان الأمران وهما: عدم الانسجام بين مكوّني حركة التوحيد والإصلاح، وإعلان حزب العدالة والتنمية يعدّهما المؤلف فشلًا للمشروع الدعوي في المغرب، وفشلا للحركة الإسلامية في المغرب، ولذا يمكن أن نصف غاية الكتاب بصيغتين:
الأولى: (لماذا فشل المشروع الدعوي في المغرب؟) وهي الصيغة التي عبر بها المؤلف عن غاية الكتاب.
ويمكن أن نصف غاية الكتاب بصيغة أخرى -من منطلق المراقبة لتاريخ الحركة الإسلامية في المغرب- بأن نقولَ: الكتابُ يُجيبُ عن سؤال ( لماذا اختلف فريد الأنصاري مع الحركة الإسلامية في المغرب؟)
- موضوع الكتاب:
في سبيل تحقيق تلك الغاية التي قصدها المؤلف، وهي الجواب عن سؤال (لماذا اختلف فريد الأنصاري مع الحركة الإسلامية في المغرب؟) بحث المؤلف في أخطاء الحركة الإسلامية، وحصرها في ستة أخطاء، الخمسة الأولى للحركة، والسادسة للتيار السلفي.
فعنوان الكتاب (الأخطاء الستة للحركة الإسلامية في المغرب) منبىء عن موضوعه بشكل وافٍ.
- طريقة المؤلف في الكتاب وموارده:
وظّف المؤلف أدواته اللغوية والشرعية، ومهارته في التصنيف وتنظيم الأفكار، وخبراته العملية مع الحركة الإسلامية في المغرب لتقديم تلك المادّة النقدية التي تكونت لديه خلال تجربته في (حركة التوحيد والإصلاح).
ويمكن تقسيم المادة النقدية التي اشتمل عليها الكتاب إلى قسمين:
مادَّةٍ مُتعلِّقةٍ بالنقد الفكري والسلوكي للحركة الإسلامية، إذ وصف المؤلف الحركة الإسلامية بالمغرب بالوقوع في غلط في فهم الدين، وبالوقوع في خرم للأخلاق الإسلامية، مثل الوقوع في الخداع والكذب، والوقوع في الهوى والمزاجية، واللاعلمية.
ومادَّةٍ مُتعلِّقةٍ بالنقد للخيارات والقرارات التي اتخذتها الحركة الإسلامية في المغرب، مثل تشكيل الحزب السياسي، والدخول في العمل النقابي الطلابي (منظمة أوطم)، وللأحداث التي وقعت فيها الحركة، مثل فشل الوحدة بين مكوناتها.
وهو لا يفصِلُ المادتين؛ إحداهما عن الأخرى، بل يربط بينهما ربطًا محكمًا، فيقرر مثلًا أن تشكيل الحزب السياسي بالصورة التي وقعت لا ينفصل عن غلط في فهم لمنزلة السياسة في الدين، وهو في بيانه لأسباب فشل الوحدة يوضح خلفية ذلك الأخلاقية والفكرية.
ثم هو في المادّة الأولى يبين وجه كل وصف من الأوصاف التي أطلقها بحسب الحاجة، فيبين لماذا وصف الحركة بالغلط في فهم الدين، أو في الوقوع في ما يناقض الأخلاق الإسلامية... إلخ، ويذكر لذلك الدلائل من الكتاب والسنة وقد ينقل أقوالًا عن أهل العلم.
وفي المادّة الثانية يُبيِّن الجوانب المصلحية التي يراها في نقده لهذا الفعل أو ذاك أو هذا القرار أو ذاك، وفقًا لمعيار المؤلف الشرعي في النظر للمصالح، والذي هو - بطبيعة الحال - يختلف عن معيار مخالفيه من الحركة الإسلامية بالمغرب.
ولما كان ذلك كله يحتاج إلى استحضار وثائق واقعيَّة تتعلَّقُ بتاريخ الحركة، فإن الكتاب قد اشتمل على مادة توثيقيَّةٍ تاريخيَّةٍ للحركة الإسلامية في المغرب، سواء من مشاهدات المؤلف أو من تسجيلاته ورصده.
- عرض إجمالي لفصول الكتاب:
الفصل الأول من الكتاب بعنوان (استصنام الخيار الحزبي) ينتقد فيه المؤلف تأسيس (حركة التوحيد والإصلاح) لحزب سياسي هو (حزب العدالة والتنمية) ويصفه بأنه كان (كاتخاذ العجل في قصة بني إسرائيل). (ص23).
ويفرق المؤلف بين مرحلتين من مراحل العمل الإسلامي في المغرب:
المرحلة الأولى: مارست الحركة الإسلامية العمل التجديدي للدين، بالاجتهاد بالتخلق بالأعمال الصالحة، وأخذ الكتاب بقوة، فكان عطاء الحركة جيلا من الخيرات والبركات.
المرحلة الثانية: مرحلة تأسيس الحزب السياسي، الذي تطور أداؤه من صورة مشاركة إلى صورة تضخم سياسي أتى على الأخضر واليابس من منجزات العمل الإسلامي.
يقول المؤلف: (إن اتخاذ حزب سياسي للعمل الإسلامي مبدئيًا إنما يصلح عندما تكون ظروف العمل الإسلامي -باعتباره منظومة دعوية تجديدية شاملة- غير ممكنة في البيئة أو متعذرة، وبشرط أن تكون إمكانات العمل السياسي غير مؤدية إلى نتائج عكسية على مستوى الدين والتدين، ولقد علم في قواعد أصول الفقه أن (كل فرع عاد على أصله بالإبطال فهو باطل!).
ولقد كان بإمكان الحركة الإسلامية بالمغرب أن تصل إلى أفضل النتائج السياسية -دون أن نتخذ لها حزبًا- لو أنها اشتغلت كقوة دينية دعوية، حاضرة برجالها وأفكارها في كل ميدان منتشرة في كل قطاع. من المسجد إلى المعمل ثم إلى الإدارة! ومن التعليم إلى الإعلام ثم إلى الاقتصاد. لقد كان بإمكانها أن تجعل بعض الأحزاب السياسية الأخرى تنخرط في تطبيق الممكن من برامجها السياسية دون أن تنزلق هي إلى شرك الاستهلاك التجزيئي لقوتها! ولكن بعد زمن يمكنها من إنضاج تأثيرها السياسي غير المباشر في الهيئات والمؤسسات، لكن عقدتها كامنة في أنها تنظر في عملها إلى الممكن وغير الممكن في اللحظة الآتية فقط، وتلك هي مشكلتها، إن ما ليس بممكن اليوم قد يكون ممكنا غدا، إذا قدمنا شروطه العملية عند الانطلاق، وسرنا في الاتجاه الصحيح لقد كان بإمكان الحركة الإسلامية أن تكون ما أرادت لو أنها أرادت وجه الله حقيقة ولم تستعجل أمرها، إن سر الخطأ لديها أنها استثمرت كل طاقتها في الهياكل والأشكال دون أن تستثمرها في الإنسان!). (ص31-32).
وفي هذا الفصل يؤصل المؤلف لمفهوم الدين وعلاقته بالدنيا، إذ نقده كما تقدّم للحركة الإسلامية كان في أصلِ فهمها للدين، وإن كان تأصيله هنا إجمالي، وإنما فصل ذلك في كتابه (البيان الدعوي وظاهرة التضخّم السياسي).
يقول في ذلك: (وما الدين إذا لم يكن هو هذا الإيمان الذي يربط العباد بالحقائق الغيبية، إيمانًا بالله وباليوم الآخر، وما تفرّع عنهما من حقائق إيمانية أخرى، ثم ما تقرر في أصول الإسلام من وجوب الدخول في أمهات العبادات والتنزّه عن كبائر الخطيئات طلبًا للفوز بجنات النعيم والنجاة من عذاب الجحيم! هذا هو أساس خطاب القرآن وهذا أول ما ينبغي العمل على تجديده في النفس وفي المجتمع، وكل ما سواه من أمور الشأن العام إنما هو تبعٌ له، والعكس غير صحيح، كما فصلناه في غير هذا المكان). (ص24).
ويقول: (إن القرآن عندما كان يعالج قضايا الاجتماع البشري كان يحوطها بترسانة من السوابق واللواحق المقالية، التي تؤسس الحظوظ الدنيوية على المقاصد الأخروية في قلوب المؤمنين..). (ص27).
ويقول: (أمر الاجتماع البشري والنسيج العمراني لا يستقيم في الإسلام إلا ببنائه على العبادات المحضة، من ذكر الله وإقام الصلاة وسائر المغذيات للروح صلةً بالله على كل حال). (ص28).
ويقول: (الخطاب الأخروي هو أساس الرسالة الإسلامية، وما دونه من أمور البناء الدنيوي العمراني أمر مهم، ولكنه تابع لهذه الأصول ومنبنٍ عليها). (ص30).
ثم يذكر المؤلفُ أوجُهَ فشل تجربة العمل السياسي في المغرب على مستوى الفهم التصوّري للدين، وعلى المستوى التربوي والدعوي، وعلى مستوى الأمانة الأخلاقية.
يقول: (رسَخَت صورةُ العملِ الإسلامي غير المتوزانة في أذهان كثير من الإسلاميين، وتصخّم التصور السياسي للدين، وضمر موقع العبادات من مساجد وصلوات). (ص32).
ويقول: (لقد كانت الدعوة تشتغل من قبل بالتربية والتكوين في صفوف التلاميذ، فكانت تضمن بذلك تنامي الدين والتديّن في الأجيال المتعاقبة، لكنها ما أن فتنت بالصنم السياسي حتى انسحبت من مواقعها الجهادية، وتركت المجال لغول الفجور السياسي يعيث في الأرض فسادًا، ويخرج من التلاميذ والطلبة أجيالا تكره الدين وتلعن الوطن وتقدس أنصاب ناطحات السحاب..). (ص35).
ويقول: (بدل أن (يُخلِّقَ) الإسلاميون الحياة السياسية كما زعموا تدنسوا بأوساخها). (ص35). ويذكر من ذلك خلق المناورة والخداع. (ص37). وقلة الحياء في الرجال والنساء على السواء. (ص38). ثم يقول في ختام الفصل: (فبأي وجهٍ تخاطب الحركة الإسلامية الناس اليوم إذا هي كذبت في خطابها كما يكذب السياسيون، وفجرت في خصامها كما يفجر النقابيون، ثم انحَلَّتْ في أخلاقها كما ينحَلُّ الشهوانيون). (ص40).
والفصل الثاني بعنوان (استصنام الخيار النقابي) عقده المؤلف لنقد التجربة النقابية الطلابيَّة للحركة الإسلامية في المغرب، ويفرق فيه المؤلف بين مرحلتين مرَّت بهما الحركة الإسلامية:
الأولى: في فترة السبعينات وأواسط الثمانيات، أنشأ فيها الطلبة الإسلاميون مدرستهم بمجالس تربوية إيمانية، وبإصرار عجيب على القراءة المعمّقة، والتضلُّع بالصناعة العلمية الراشدة في كل التخصصات الدينية والإنسانية والطبيعية، وهي آنئذٍ تدافع ظلم التيارات الماركسية وظلماتها، والماركسية في أوج عنفوانها (ص55).
والثانية: العمل الطلابي أواخر الثمانينات وبداية التسعينات، حيث دخلت الحركة الطلابية الإسلامية الاتحاد الوطني لطلبة المغرب (أوطم)، وكان هذا الاتحاد كما يصفه المؤلف قد تكون في أحشائه المدّ الماركسي الإلحادي، فورثت الفصائل الإسلامية المنهجيّة المادّية التي خلفها الفكر الماركسي المتطرف. وبذلك يصف المؤلف الحركة الطلابية (الإسلامية) بأنها (ولدت لأم متدينة وأب ماركسي لينيني فكانت نتاجًا غير شرعي لأسوء زواج عرفه التاريخ). (ص43).
ويفصّل المؤلف في نقد هذه المرحلة التي دخلت فيها الفصائلية البغيضة – بحسب تعبير المؤلف- العمل الإسلامي، مبيِّنًا خروج هذه الفصائلية عن مقتضى الشريعة والأخلاق في ممارساتها، مثل وقوعها في تربية الطلاب على الكذب والخداع وسوء الأخلاق في المناظرة والحوار والاختلاط المنفلت بين الطلاب والطالبات؛ فيذكر فصيلين إسلاميين في الجامعة:
الأول: فصيل العدل والإحسان، الذي يصفه المؤلف بأنه (ما رأى في الإسلاميين أقلّ حياء من طالباته وطلابه، ولا دوسًا لأحكام الشريعة من رواده). (ص47). ويذكر المؤلف الشواهد على ذلك من مشاهداته لسلوكيات ووقائع في الجامعة المغربية خلال فترة تدريسه فيها، وقد يستدلّ لنقدها بنصوص من الكتاب والسنة. (ص44-52). ولا ينسى المؤلف أن يشير إلى أثر الخلفية الأيديولوجية لجماعة العدل والإحسان التي احتوت على فهمٍ غلط لموقع السياسة من الدين وهو ما يسميه المؤلف التضخم السياسي. وقد كان المؤلف نقد ذلك بالتفصيل في كتابه البيان الدعوي وظاهرة التضخم السياسي عبر تعليقه على كلامٍ لمؤسس الجماعة عبد السلام ياسين.
ثم يصف المؤلف هذا الفصيل بأنه ترك الجامعة المغربية بتاريخ شقي وسجل أسود، وأنه كان سببًا في انطلاق موجة الفجور السياسي والانحلال الخلقي نتيجةً عكسية لما كان يمارسه باسم الدين في الجامعة. (ص52).
الثاني: فصيل الوحدة والتواصل التابع لحركة التوحيد والإصلاح، والذي تطور فيما بعد باسم منظمة التجديد الطلابي، ويصفه بأنه وقع في ما وقع فيه الفصيل السابق من مزالق ومهالك، وابتلي بما ابتلي به من أدواء وأهواء. (ص52-54).
ثم يذكر المؤلف الأعمال التي كان من المفترض أن تناط بالنشاط الطلابي الجامعي، ولكنه أخل بها أيما إخلال وهي:
أولًا: تفريغ أهل التخصصات الشرعية للتحقق بوصف العالميّة، بدراسة معمّقة، والتفقّه في الدين بصورة متفانية. (ص55-56).
ثانيًا: قيادة حركة ديناميكية مستمرة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة داخل الجامعة. (ص57).
ثالثًا: الانخراط في المطالبة بحقوق الطلبة الماديّة بعد تأمين حقوقهم التربوية، متخلصين بهذا العمل النقابي التدافعي من الإرث الماركسي الشقي (ص57).
وفي نصٍّ مركزيٍّ في الكتاب، يقدّم المؤلِّف تفسيرًا لهذا التفريط في هذه الواجبات، يُرجِع فيه الخلل إلى جذوره الفكرية، التي يدندن حولها في جميع كتاباته في مجال فقه الدعوة، حيث يقول: (لقد درّستُ منذ أواخر الثمانينات من القرن الماضي بالجامعة المغربية إلى يومنا هذا، ولا أحد دخل عليّ – ولا لمرة واحدة – من هذا الفصيل أو ذاك فتصدّر منصّة المدرج أو قاعة الدراسة لإلقاء كلمة هادفة حول قضية الدين في الأمة بما هو عبادة لله ربّ العالمين أساسًا ورسالة للناس أجمعين، أو حول أهميّة فريضة الصلاة، أو خطورة التعرّي الفاجر، أو لصدّ هذا السلوك الساقط الذي يلتهم بأنيابه الوحشية الشباب يوميًّا، داخل الجامعة وخارجها! أم أن هذا كله خطاب وعظي، ومنهج سطحي، وغيبيات تعبديّة ليست من أولويات النضال (الأوطمي)؟!
فإذن؛ مشكلتنا كما ذكرت مرارًا هي في تحرير مفهوم الدين في أذهان الإسلاميين، فلو أننا حررناه حقًّا، وصار كل العمل الطلابي قائمًا على موازينه، ومرتبًا على سلّم أولوياته؛ لكان للإسلام بالجامعة شأنٌ آخر). (ص58).
والفصل الثالث بعنوان: (استصنام الشخصانية المزاجية في الحركة الإسلامية) تحدّث فيه عن سيطرة شخصية المُثقَّف أو (التكنوقراطي) على قيادة الحركة الإسلامية في المستويات العالية والمتوسطة من تلك الحركة، وتلك الشخصية تتسم باللاعلمية، وبالعُجْب وتضخم الأنا الفردية، مما أدى إلى أن تكون قراراتها خاضعة لشخصانية مزاجية، فكانت ألصق بالهوى وأبعد عن الشريعة.
وقد ذكر المؤلف نتيجتين خطيرتين لتصدّر هذا النوع من الشخصيات في قيادة الحركة الإسلامية:
الأولى: وقوع الحركات في الانحرافات السلوكية، والانجراف وراء الأهواء والبدع في العقائد والعبادات. (ص62). والتمرد نحو الفرق المبتدعة مثل الرافضة والأحباش والطرق الخرافية، أو الوقوع في العمالة لجهات معادية للإسلام. (ص73-74).
الثانية: أن غياب العالميَّة الربانيَّة من قيادة العمل الدعوي تؤدي إلى عدم القدرة على الاحتضان التربوي الشامل للحركة وأبنائها. وبيّن أن اللجان العلمية أو الخلايا التربوية لا تسدّ مسدّ العالم الحكيم الرباني في القيام بالوظائف التربوية والتأطيرية. (ص71).
وفي هذا الفصل بحث المؤلف مسألةً شرعيَّةً، وهي مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، وشروط اعتبارها. (ص63-70). وصلة ذلك بهذا الفصل أن عدم سلوك الحركات الإسلامية طريقة العلم الشرعي الصحيح لصناعة القيادات العلمية أحدث فراغًا سعى البعض لملئه بالرؤى المنامية.
والفصل الرابع بعنوان: (استصنام التنظيم الميكانيكي)، وفسّر التنظيم الميكانيكي بأنه (الأسلوب الإداري التنظيمي الذي يعتمد البناء الهرمي العمودي في إدارة العمل وتسييره، حيث تتركب هياكله بعضها على بعض على سبيل التحكم بين قطعها، فلا يتحرك الأدنى إلا بحركة الأعلى، والعكس غير صحيح). (ص75). وذكر أن الأستاذ حسن البنا أول من أنشأ تنظيمًا بهذه الصورة، ثم ندم عليه. وذكر أن الحركات الإسلامية بالمغرب اعتمدت نفس النظام الإداري مع تطويرٍ قليلٍ تمثَّل في الاقتباس من الأنظمة الحزبية الحداثية ذات البناء الهرمي والتركيب الديمقراطي. (ص76).
وذكر ظاهرتين مرضيتين نشأتا عن هذا النوع من التَّنظِيم:
الأولى: استِصْنام الأنا الجماعي: وذلك أن طبيعة التنظيم الميكانيكي تجعل العمل كله يتحرك داخل دائرة مغلقة واحدة، ولا يسمحُ بالإبداع ولا التطور، فينتج الأنا الجماعي(6). يقول: (ومن هنا يصيرُ التنظيمُ بهذه الصورة وسيلةً لاشعوريةً لبناء وهمِ (الجماعة الإسلامية الكبرى) المُتعالِيَة عن الخطأ، وعمّا فيه الأُمَّة من تدهورٍ وهوانٍ، فينمو فيهم الشعورُ بأنَّهم هُمُ الأصل، وأن على غيرهم أن يكونوا لهم تبعًا، فتنتصب الجماعة معرضًا لاستعراض العضلات الحزبية تلبيةً للشعور المرضي بالنقص، ومعالجةً للإحساس بالهوان فيما تعانيه الأمة من جراحٍ ومآسٍ، ومن هنا يتضخم الإحساس بالتنظيم على حساب الإحساس بالإسلام نفسه، فتتجه سائر الأعمال الدعوية لخدمة الجماعة، حتى ولو تعارضت مع أحكام الشريعة في بعض الأحيان..). (ص76-77).
الثانية: استصنام الهوى الديمقراطي: يشرح المؤلف هذه الظاهرة المرضية بقوله: (إن مشكلة الحركة الإسلامية ذات التنظيم الميكانيكي أنها وضعت الديموقراطية بآليتها في غير موضعها، فانتخبت رجالها بأصوات عوامّها، لوظائف الشورى ووظائف التشريع الدعوي والتوجيه المنهجي الإسلامي، بشروط الديمقراطية لا بشروط شرع الله، فتقدّم دهاةُ السفهاء وتوقف حكماء الفقهاء! ومن يدري؟ فلعلها غدًا تنتخب إمام الصلاة لمحرابها، فتأتم بالأمكر الأشقى، لا بالأقرأ الأتقى، أم أنها تفرق بين هذا وذاك كما فرق أهل الردة بين الصلاة والزكاة؟! كيف والأمر كله دين؟). (ص80).
ثم قدّم المؤلف البديل وهو التنظيم الفِطْري، وقد شرحه هنا مقتضبًا وفصل فيه في كتابه الذي أصدره بعد سنتين من هذا الكتاب وهو كتاب (الفطرية).
والفصل الخامس بعنوان (استصنام العقلية المطيعية، وإفشال الوحدة التاريخية للحركة الإسلامية) والعقلية المطيعية مصطلحٌ ابتكرَه المؤلف ويعني به (المنهج الحركي القائم على أسلوب المناورة والخداع في التعاطي للشأن الإسلامي من الناحية التنظيمية والإدارية). والوصف بالمطيعية ينطوي على نقد جذري لتنظيم الشبيبة الإسلامية الذي تأسس في السبعينات على يد عبد الكريم مطيع، وتناسلت منه حركة الإصلاح والتجديد (حاتم) التي سيجعلها المؤلف محلًا لنقده في هذا الفصل. يقول المؤلف: (وقد كان للنظريات اليسارية التي تأثر بها الأستاذ مطيع باعتباره قياديًّا سابقًا في أحد الأحزاب الاشتراكية أكبر الأثر في طبع منهجه الحركي بهذا الأسلوب الخطير المناقض للثوابت الشرعية في الدين). (ص83).
وهذا الفصل يحكي فيه المؤلفُ قصَّةَ فشلِ تجربَةِ الوحدة بين الجماعات الإسلامية، أي الفشل في الوحدة بين (حركة حاتم) و(رابطة المستقبل الإسلامي) في الصورة الجديدة التي تمثلت بـ(حركة التوحيد والإصلاح)، والفصل بهذا يمثل روايةَ فريدِ الأنصاري لشطر من تاريخ الحركة الإسلامية في المغرب. وقد ذكر في خاتمة تلك الرواية خُلاصتَها فلننقلها هنا بحروفها. يقول: (لقد صارت قصة الوحدة – ذات البناء التراجيدي الحزين – إلى ما يلي: كانت البداية تأسيسًا طموحًا لوحدةٍ إسلاميةٍ وطنيةٍ، في أعظم قسمٍ من أقسام العمل الإسلامي بالمغرب، وتأليفًا لأوعى نخبةٍ مثقفةٍ من رجاله، ولكن بعد نحو سنتين من العمل بدأ يظهر أن الوحدة صارت تؤول حقيقتها إلى مجرد التحاق (رابطة المستقبل الإسلامي) بـ(حركة الإصلاح والتجديد)، ثم بعد الانتخابات الوطنية للبرلمان المغربي لسنة 2002م صارت (حركة التوحيد والإصلاح) في صورتها (الحاتمية) تؤول إلى مجرد التحاق بـ(حزب العدالة والتنمية) وتفريغ لطاقاته في متاهاتِه المُظلمة! وانتهت القصة). (ص105-106).
ويبين المؤلف أوجهًا أُخرى لفشلِ (حركة التوحيد والإصلاح) غير الوجه المتقدّم سواء على مستوى الهدف أو على مستوى الوسائل الوظيفية أو على مستوى الشورى، فيقول: (إن الحقيقة المرّة أن العقلية المطيعية صيَّرت الحركة في كثيرٍ من مُنتسبيها بلا دين). (ص107). ويقول: (إن هذا الشيء المسمى بالشورى داخل الحركة إنما هو ضربٌ من الميكيافيلية التيارية). (ص109). ويقول: (لقد صارت حركة التوحيد والإصلاح في النهاية كـ(يا أيها الناس)! لا اجتهاد لها في الدين ولا في الدعوة، ولا فضل لها في التربية ولا في التكوين). (ص110).
والباب الثاني بعنوان (استصنام المذهبية الحنبلية في التيار السلفي) اشتمل على ثلاثة فصول.
الفصل الأول هو تمهيدٌ تاريخي، تحدث فيه عن مرحلتين للسلفية في المغرب: الأولى: كانت فيه الدعوة السلفية حركةً مباركةً أسهمت إسهامًا بالغًا في عودةِ الناس إلى ممارسة الشعائر الدينية، وخاصة الصلوات، بعدما كانت المساجد خاويةً على عروشها لا تكاد تجد فيها إلا الرجل والرجلين من الشيوخ والعجزة، فكانت كلمات المصلحين السلفيين توقظ المشاعر الدينية وتغرس الوعي الديني لدى الشباب والكهول، وكان لها الفضل الأكبر في محاربة المظاهر الشركية، من الذبح لغير الله والاستغاثة بغير الله، والتوعية بخطورة ذلك كله، وكذا محاربة مظاهر الشعوذة والخرافة والدجل.
وذكر من أعلام الدعوة السلفية في مرحلتها الأولى: المشايخ أبا شعيب الدكالي المتوفى سنة 1937م، ومحمد بن العربي العلوي المتوفى سنة 1964م، وتقي الدين الهلالي المتوفى سنة 1987م.
وأورد المؤلف عددًا من الحقائق التاريخية المتعلقة بهذه المرحلة، وهي:
- أن الدكتور تقي الدين الهلالي هو المؤسس الحقيقي للمدرسة السلفية بالمغرب في العصر الحاضر، وذلك بما خلف من تلاميذ حملوا راية التجديد بعده. (ص118).
- أن انطلاق الحركة الإسلامية بالمغرب كان متداخلا بالفكر السلفي ومتلبسًا به، وذلك منذ أواخر الستينات وبداية السبعينات من القرن الميلادي الماضي، حيث كانت التنظيمات الإسلامية الناشئة آنئذ تستفيد من التأطير العلمي لرموز الحركة السلفية بالمغرب أمثال الدكتور تقي الدين الهلالي والعلامة محمد الزمزمي وغيرهما. (ص123).
- ذكر العلاقة الجيدة بين تقي الدين الهلالي ومؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا وأن الهلالي اقترح نفسه مراسلا لجريدة الإخوان المسلمين لما طلب ذلك البنا. (ص123-124).
والمرحلة الثانية: تعرضت فيها الدعوة السلفية في المغرب إلى اختلالات في موازين الحكمة والإنصاف والحِلْم. يقول المؤلف: (وعليه فقد كان لهذا وذاك مما ذكرنا من موازين مُختلَّة أثرٌ بالغٌ على انحراف التيار السلفي وانزلاقه إلى اتجاهات أخرى وُظِّفَت أحيانًا لضرب الإسلام نفسه، فمع أواخر القرن العشرين الميلادي لم يلبث جيل الخلف من المدرسة السلفية أن تغيَّرتْ أحوالُه، واضطرب اتجاهه بسبب تعرضه لفتن مذهبية وأخرى سياسية، فشطّت به رياح الأهواء إلى ضربٍ من الانحراف المنهجي، والتعصّب المذهبي، واستصنام المشايخ والزعماء، مما أدى فيما بعد إلى أن تكونت منه تيارات وفرق شتى، كان لها أكبر الأثر في توتر الساحة الدينية بالمغرب وإرباك مسيرة الصحوة الإسلامية إرباكًا شديدًا). (ص122).
ويقول: (تطوّرت الاتجاهات السلفية من مجرد تيار دعوي تجديدي تتلخص وظيفته في محاربة البدع وإحياء السنن في العقائد والعبادات إلى فاعلٍ سياسيٍّ كبيرٍ، يُوظَّفُ سلبًا وإيجابًا على المستوى العالمي والمحلي). (ص125).
وهذه المرحلة يؤرخ المؤلف لبدايتها بوفاة الدكتور تقي الدين الهلالي. (ص125).
الفصل الثاني بعنوان (استيراد المذهبية الحنبلية باسم الكتاب والسنة) وفي هذا الفصل يعرض المؤلف رأيًا له في الصلة بين المدرسة السلفية في المغرب وبين المذهب الحنبلي، وهو ما سماه باستيراد المذهبية الحنبلية، ويدلل لها بأمرين: الأول فقهي جزئي، والثاني: منهجي أصولي. (ص128).
وفي شرح الدليل الأول، وهو الفقهي الجزئي، فيذكر مجموعة من الأحكام الفقهية التي قاله بها الحنابلة، وتبناها التيار السلفي، كوجوب النقاب وعدم جواز مس اللحية، ووجوب الخروج من الصلاة بتسليمتين، وتكفير تارك الصلاة، وتبديع القول بالقنوت في صلاة الصبح، ويذكر أيضًا أحكامًا أخرى خرجت على الأصول المذهب الحنبلي مثل القول بتحريم التصوير الفوتوغرافي. (ص129-131).
ويذكر المؤلف أيضًا تحت هذا الدليل دلائل أخرى على استيراد المذهبية الحنبلية، منها كثرة النقل عن علماء الحنابلة، وشيوع تلقيب ابن تيمية بشيخ الإسلام، مع أن في علماء المالكية المغاربة من لُقِّب بذلك، وشيوع تلقيب الإمام أحمد بإمام أهل السنة والجماعة مع أحقية الإمام مالك بذلك، والعزو للإمام أحمد قبل غيره من الأئمة لدى تخريج الأحاديث. (ص132-135).
وفي شرح الدليل الثاني وهو الأصولي الكلي، يقدم المؤلف تفسيرًا للفتاوى والأقوال الفقهية التي خالف بها شيوخ السلفية المعاصرة المذهب الحنبلي؛ بما لا يصادم ما ذكره من حنبلية السلفية، فيدّعي أن تلك الفتاوى إنما هي اجتهاد داخل إطار المذهب، وتخريجات حنبلية، وإن خالفت أقوال إمام المذهب، ولذلك فهو يدعي أن السلفية حنبلية بمعنى اتباعها لأحمد في أصول مذهبه لا في كل فروعه. (ص135-137). ووفقًا لهذا ادّعى المؤلف أن الشيخ الألباني حنبلي! (ص137-138). وقال بالنص: (يشهد الله أن من أحب حنابلة العصر إلى قلبي اثنين: الشيخ العثيمين والشيخ الألباني). (ص137).
والفصل الثالث بعنوان: (الأخطاء المنهجية للتيار السلفي في تدبير الشأن الدعوي بالمغرب) يذكر فيه المؤلف خمسة أخطاء فرعية، الثلاثة منها الأولى ترجع إلى مخالفة السلفية لنظرية يتبناها المؤلف، وهي ضرورة الانخراط في مشروع التصحيح ضمن مقولة ابن عاشر:
في عقد الاشعري وفقه مالك.. وفي طريقة الجنيد السالك
يقول: (كان حريًا بزعماء السلفية بالمغرب أن ينخرطوا في مشروع التصحيح لو كانوا عقلاء من خلال مقولة ابن عاشر:
في عقد الاشعري وفقه مالك.. وفي طريقة الجنيد السالك
ولهم في الأشعرية الأصيلة دون الجوينية المحدثة خير مجال لعرض عقيدة أهل السنة والجماعة الصحيحة السليمة، كما أن لهم في أصول مالك وقواعده الاستنباطية ما يساعدهم على تصحيح التدين عقيدةً وعبادة، وإرجاع ما انحرف من ذلك إلى أصله من الكتاب والسنة، ولهم في ذلك سلف عظيم، من أمثال ابن عبد البر والإمام الشاطبي وغيرهما كثير.
ثم لهم في مفهوم التصوف السني المجال الأوسع الأرحب لرد كل سلوك في هذا الشأن إلى ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام ثم مشاهير الزهاد والعباد من التابعين وأتباعهم، ممن أجمعت الأمة على فضلهم، كالإمام الجنيد شيخ القوم وإمامهم... وإذن يكون رجال السلفية بذلك مصلحين للبلاد والعباد من الداخل لا من الخارج، ويكونون أفقه لأحوال الناس وأدرى بطبيعة أدوائهم). (ص170).
ولذلك كانت الأخطاء الثلاثة الأولى للتيار السلفي في تدبير الشأن الدعوي بالمغرب في نظر المؤلف هي:
الإعراض عن المذهب المالكي، واختلال ميزان الأولويات:
يذكر أمورًا كان على السلفية أن يأخذوا بها وهي: أولًا: يقول المؤلف: (لقد كان حريًا برواد التيار السلفي بالمغرب أن يدرسوا تاريخ المذهب المالكي لتأصيل مقولاتهم فيه.. وأن يشتغلوا بردّ كل متونه ومنظوماته إلى أصلها من الكتاب والسنة). (ص141، 144). ثانيًا: أن يبدؤوا بصغار العلم قبل كباره، فيؤسسوا التعلم على المذهب المالكي أولا، ثم يرتقون به إلى محاولة الاجتهاد في إطاره، ثم رتبة الاجتهاد المطلق! (ص144).
أما اختلال ميزان الأولويات، ومن الأمور المهمة في اعتبار الأولويات في ما قرره المؤلف: اعتبار البيئة؛ فيذكر من مظاهر هذا الاختلال: إشعال قضايا الذات والصفات والإثبات والتعطيل والتأويل في بيئة مات فيها علم الكلام أصلا، ومنها: الغلو في محاربة البدع دون تمييز بين البدع الحقيقية والإضافية. ويقول: (إن المشكلات الدعوية للبلد غير ما يتصورون، وغير ما يتوهمون، وغير ما يستوردون من المشرق من قضايا ومعارك). (ص150).
والخطأ الثاني: الغلو في التحقيقات العقدية، ويفسر ذلك بالدخول في مواجهة الأشعرية بإطلاق مع أن الأشعرية مدارس، ويفرق المؤلف بين أشعرية الأشعري، والأشعرية الجوينية. يقول: (والعقيدة الأشعرية بمعناها الكلامي الدقيق لمن يملك البصيرة لا وجود لها بالمغرب إلا في بطون الكتب، ولا علاقة لها بحياة الناس اليوم، والشائع بين المسلمين المغاربة اليوم إنما هو الأشعرية الأصلية التي لخصها أبو الحسن الأشعري رحمه الله من نصوص الكتاب والسنة وانتصر فيها للإمام أحمد في محنته ضد المعتزلة، وهي عقيدة مالك قبلهم جميعًا كما هو معروف، ولا وجود اليوم في التدين العام للأشعرية الجوينية المحدثة ذات الطابع الكلامي الصرف). (ص152-153).
ويذكر غلط السلفية في اعتماد مصنفات عقدية صنفها حنابلة، وترك مصنفات عقدية صنفها مالكية. (ص154-155).
والخطأ الثالث: مواجهة التصوُّف بإطلاق: ويذكر فيه مخالفة السلفية لابن تيمية في تفريقه بين أنواع المتصوفة، وعدم اعتماد السلفية على المدرسة الصوفية السنية المغربية (ص157-164).
والخطأ الرابع: تضخُّم الشكلانيَّة المظهريَّة: ويعني بذلك صيرورة المظهر الخارجي مثل إعفاء اللحية وتقصير الثوب، هو المقياس لسلامة الدين. (ص164).
والخطأ الخامس: الارتباط المادّي المشروط ببعض الدول المشرقية: ويعني به الارتباط المادي المشروط ببعض دول الخليج، وأن ذلك أضر بالدعوة. (ص171-173).
وبذلك يختم المؤلف كتابه.
- تأثير الكتاب:
أحدث كتاب (الأخطاء الستة للحركة الإسلامية في المغرب) أثرًا كبيرًا في وسط الإسلاميين في المغرب، الأثر الذي سماه أحد الباحثين: (دويّ الأخطاء الستة)، وقد غطى عدد من المواقع في الشبكة خبر صدور الكتاب وردود الأفعال حوله.
وقد كان أبرز وأهم الردود التي كتبت على الكتاب: رد الدكتور أحمد الريسوني الرئيس الأول لـ(حركة التوحيد والإصلاح)، وإنما كان هذا الردّ الأبرز والأهم ليس لعمق محتواه أو دقة نقده، بل هو رد مختصر غلب عليه مدح رجال حركة الدعوة والإصلاح والسخرية من المؤلف، وإنما كان مهمًا لأنه أخذ موقعًا طبيعيًّا معدًّا له، وأعني بكونه موقعًا طبيعيًّا أن شأن هذا النوع من التآليف في عالم الجماعات والتنظيمات التي يكون فيها المؤلف منتميًا لتنظيم معين، ثم ينشق عنه ويتركه، أن يكتبه بمنطق إظهار الفضائح وكشف المستور، فيستفزّ تأليفه تلك الجهة التي انشق عنها، فتتحرك للردّ عليه، فيتمادى هو في فضحها وهتك سترها. فالموقع الطبيعي لردّ الريسوني هو هذا، ولعله وُظّف للقيام بالدور المذكور آنفًا، غير أن المؤلف كان مُدركًا لذلك في تجاوبه مع رد الريسوني، فكان متسمًا بالاتزان عفيفَ اللسان، ولم يتمادى في فضحٍ أو هتك سترٍ، يكون فيه إخلال بالأخلاق والديانة كما ينتظر المتصيّدون(7).
وقد دعا أبو زيد المقرىء الإدريسي بعد وفاة المؤلف، وهو من رجال حركة التوحيد والإصلاح الذين مدحهم المؤلف في كتابه هذا، دعا إلى الانفتاح على هذا الكتاب والاستفادة منه(8).
وكتب أحد تلامذة الشيخ عبد الكريم مطيع ردًّا على المؤلف، لا يخلو من تخوين، انتقد عليه نسبة عقلية الخداع والمناورة للشيخ عبد الكريم مطيع، مع أن المؤلف لم يتعامل معه، ولا يستطيع أن يثبت عليه شيئًا من ذلك، لكون عبد الكريم مطيع لما ترك المغرب كان الأنصاري طفلًا(9).
وفي كتاب (الماجريات) تعرض الأستاذ إبراهيم السكران لعرض مشروع فريد الأنصاري، وتحدّث عن هذا الكتاب، ووجّه نقدًا متعلقًا بالباب الثاني منه المتعلق بالتيار السلفي، إذ أكثر المؤلف من ضرورة مراعاة البيئة المغربية في تدبير الشأن الدعوي، وهذا الإكثار عدّه السكران (مبالغة في هذه المسألة جدًا، إذ تحولت مراعاة البيئة المغربية من مصلحة دعوية تراعى بقدرها، إلى تكريس للمحليّة وترسيخ للمعاير الإقليمية في الخطاب الشرعي)(10)، وعطفًا على ذلك يمكن أن يقال: إن مراعاة المؤلف لتلك المعايير طغت حتى على المعايير الشرعية والعلمية، إذ إنه لما ذكر ضرورة الاعتماد على الكتب العقدية السلفية المغربية ذكر كتاب ( النور المبين في قواعد عقائد الدين) لابن جزي مثالًا على ذلك، والواقع أن الكتاب في العقيدة الأشعرية البدعيّة وليس كتابًا سلفيًّا. كما أنه ذكر (شرح العقيدة الطحاوية) على أنه من الكتب التي صنفها بعض حنابلة العصر، ويعني بذلك الألباني، والواقع: لا الشرح للألباني، وإنما هو شرح لابن أبي العز علق عليه الألباني وحققه، ولا الألباني حنبلي، وإنما له طريقة في الفقه أقرب لطريقة الشوكاني والصنعاني وصديق حسن خان.
ومما تجدر الإشارة إليه في ختام هذه المراجعة: أن العنصر الأهم والأعمق في مشروع الدكتور فريد الأنصاري النقدي للحركة الإسلامية: هو الجزء المتعلق بنقده لتصور الإسلاميين للدين، والمادة المتعلقة بهذا الجزء منثورة في كتبه (الفجور السياسي) و(البيان الدعوي) وهذا الكتاب، وغير ذلك من المقالات، وهذه المادّة جديرة بالجمع والتحليل للإفادة منها دون الحاجة إلى الإلمام بتاريخ الحركة في المغرب، لأن هذا الوصف (أعني المغربية) ليس مؤثرًا في هذا الجزء المتعلق بنقد تصور الحركة للدين، أو هو مؤثر ثانوي جدًّا.
([1]) الطبعة المعتمدة في العزو هي الطبعة الأولى المنشورة سنة 2007 من منشورات رسالة القرآن، طباعة الكلمة للطبع والإشهار. وهي الطبعة الوحيدة.
([2]) من مقابلة مع عبد الكريم مطيع في برنامج مراجعات على قناة الحوار.
([3]) مقال: قبل الخطأ السابع. منشور في الشبكة.
([4]) مقال: قبل الخطأ السابع. منشور في الشبكة.
([5]) مقال: قبل الخطأ السابع. منشور في الشبكة.
([6]) يقول برتراند راسل: (فالذين يهتمّون كثيرًا بعملهم يكونون باستمرار في خطر الانزلاق إلى التعصب، والذي يتكون أساسًا من تذكُّر أمر أو اثنين من الأمور المرغوبة ونسيان الباقي بكامله). انتصار السعادة (ص244(. فما عبر عنه برتراند راسل بتذكر أمر أو اثنين هو ما يعنيه فريد الأنصاري بالدائرة المغلقة.
([7]) رد الدكتور أحمد الريسوني منشور في موقعه في الشبكة على حلقتين، ورد الدكتور فريد الأنصاري عليه منشور في الشبكة، وهو بعنوان (قبل الخطأ السابع).
([8]) في محاضرة له حول مشروع الدكتور فريد الأنصاري. منشورة في الشبكة.
([9]) المقال بعنوان (فريد الأنصاري وعقاربه في الدنيا والآخرة) الدكتور حسن عبد الرحمن بكير، منشور في الشبكة.
([10]) (الماجريات) (ص304).
- التصنيف:
- المصدر: