التربية في فقه الإمام أحمد

منذ 2018-02-08

التربية على إيجاد الممانعة في النفوس قبل الأخذ بالرخصة والتيسير، ومحاولة بناء نفس أبية تعشق من الأمور معاليها، ومن القربات عزائمها، سواء كان ذلك في الأسر أو كان في غيره وهو الأعم والأشمل.

التربية في فقه الإمام أحمد

من نعم الله على أمة الإسلام أنها أمة محفوفة بالعناية والرعاية، متوجة بالهدى والنور الذي أنزله الله للناس ليخرجهم من الظلمات إلى النور بعد التبليغ والإنذار والتذكير: {هَذَا بَلاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [إبراهيم: 52]، وقد جعل الله لحمل هذا البلاغ والقيام بمهمته {رُسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [النساء: 165]، ثم أورث الله البلاغ أكثر الناس أهلية لإبلاغه، وأعظمهم زكاة وتقوى لله سبحانه وتعالى، وهم العلماء الربانيون، الذين أضاءوا الأمة بنور بصائرهم، وأرشدوها بفطنة أفهامهم.

 

وبفضل الله وكرمه لم يخلُ عصر من العصور إلا وفيه نسمة من أرواح هؤلاء الأخيار، على أنه من المؤسف أن نقرأ في كتب التراجم والسير ما حصل لهم من الإعراض والتنفير عن مجالستهم، والتزهيد في علمهم، والتقليل من شأنهم، وهذا هو دأب الصالحين المصلحين، فالأذى ألصق ما يكون بأمثالهم، تمحيصاً واختباراً، ورفعة واعتباراً، ومن أولئك العمالقة العظماء إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، الذي كابد من المشاق والأحوال العصيبة ما إن قراطيس عصره لتنوء عن حمل وتسطير ما حصل له من العناء والنكد جراء تصدره للإبلاغ والدفاع عن رسالة هذا الدين الخالدة، ودعوته للسير وفق السيرة المحمدية المحمودة.

 

قبل ثلاث ساعات[1] من كتابة هذا المقال كنت في مجلس علمي يضم كوكبة من طلبة العلم المباركين، نتدارس فيه بين يدي أحد مشايخنا الأجلاء[2] كتاب «القواعد الأصولية» للإمام ابن اللحام[3]، ولما وصلنا للقاعدة السادسة التي تقضي بأن «المكرَه المحمول كالآلة، غير مكلف، وهو تكليف بما لا يطاق»[4] بدأ المؤلف رحمه الله يسوق الفروع المتعلقة بهذه القاعدة، وكان من جملة تلك المسائل التي ساقها مسألة إكراه الأسير، وذكر أن المنصوص عند الإمام أحمد في الأسير إذا خير بين القتل وشرب الخمر أنه «إن صبر فله الشرف، وإن لم فله الرخصة»[5]، وهنا بدأت الإشكالات ترد على هذا النص المشكل في كلام الإمام أحمد رحمه الله وبالأخص قوله: «إن صبر فله الشرف»، وبدأ الحاضرون يسألون شيخنا عما أشكل عليهم، وكيف أن الإمام أحمد دعا للصبر مع وجود نصوص تقضي بالحفاظ على النفس عند وجود ما يوجب إتلافها إكراهاً أو غير ذلك؟ ثم ما المقصود بالشرف الذي نص عليه الإمام أحمد: هل هو شرف الصبرِ نفسه؟ أم الشرف الأجر والثواب؟ أم إن الشرف شيء آخر لم يقصد به ما سبق؟

 

كنت أثناء دورة النقاش أفكر خارج المكان الذي أنا فيه، أحاول أن أبحث عن مخرج يختلف عن كل المخارج الفقهية البدهية التي قد أسمعها تلك اللحظات، كنت أتمنى تلك اللحظة أن يسأل أحد الحاضرين: لم لا يقصد بالشرف الثبات عند الأسر على المبدأ والقيمة التي يحاول العدو الكافر تحطيمها من نفوس معتنقيها؟ لا أدري ما الذي منعني من السؤال، لكنني أشعر الساعة لو أنني طرحت تساؤلي في خضم تلك المناقشة لما كان لهذه السطور أي وجود، كالعادة عندما تجد النفس ما يشبع رغبتها. عموماً ذاك الذي دار في خلدي عند قراءة النص الحنبلي المذكور، وهو الذي جعلني أفكر في تلك العبارة بصورة أعمق، ومن زاوية أخرى تتناسب مع حال الإمام الفقيه المحدث المجاهد أحمد بن حنبل رحمه الله.

 

إن المتأمل في هذه الكلمات العجيبة من فقيه الأمة ومحدثها، يجدها درساً تربوياً خالصاً، قبل أن تكون حكماً فقهياً ظنياً، وقد استلهمت من وحي هذه الكلمة بعض الدروس والعبر التي يبرهن صدقها ما جاء في كثير من كتب التراجم والسير، ومن ذلك:

 

أولاً: التربية على الصبر والثبات وتغليب هذا الجانب في أحلك الظروف وأشدها: وكأني بهذا الإمام التقي النقي يقول: «شرف الثبات على المبدأ مقدم على حياة معاقة بالانكسار والاستسلام»! ولا شك أن الثبات في المواقف ينعكس إيجاباً على كل النفوس، فالنفوس المؤمنة تزداد يقيناً بالحق الذي بين يديها، والنفوس الكافرة أو المريضة تزداد رغبة في التعرف على دين يفعل في قلوب أتباعه مثل هذا!

 

ثانياً: التربية على إيجاد الممانعة في النفوس قبل الأخذ بالرخصة والتيسير، ومحاولة بناء نفس أبية تعشق من الأمور معاليها، ومن القربات عزائمها، سواء كان ذلك في الأسر أو كان في غيره وهو الأعم والأشمل، لاسيما في مثل هذا الزمان الذي أصبحت العزائم فيه في عالم المآتم، والرخص هي الفرص التي تقتنص، بل هي العزيمة! والعزيمة هي الرخصة، وكل ذلك نتاج للغزو الفكري الذي لوث عقول أبناء المسلمين، والتردي الإيماني الذي وصلت إليه الأمة اليوم، واتباعها لكل صارخ وناعق متشبع بعلم لم يعطه، وبفقه لا يصح منه شيء، وهذا حصيلة العزوف عن مجالسة العلماء الكبار، والإخلاد عن طلب العلم الشرعي، والقعود عن القراءة والكتابة والبحث عن حقائق الأمور في مظانها الصحيحة والموثوقة.

 

ثالثاً: الرمزية في الشرف المذكور، وهذا من فطنة وفقه الإمام أحمد رحمه الله فلم يقل - قدس الله سره -: إن صبر فله الثواب.. فله الأجر.. فله الجزاء الأعظم إلخ، وإنما قال: «فله الشرف»؛ ذلك أن الشرف لا يتحصل بلا صبر، ولا يكون بلا تجلد، ولا ينال بلا تضحية وعطاء، ولهذا كان الشرف مع الصبر، ولم يكن مع الرخصة والمترخصين أرباب التيسير الفقهي المختزل في نزق النفس ومزالقها!

 

رابعاً: كلمة الإمام أحمد رحمه الله «إن صبر فله الشرف» ليست من وحي الأذهان ولا من هاجس الأفكار فحسب، ولكنها من رجل عظيم القدر والمنزلة، عريض الشرف والمكانة، فهو رحمه الله أولٌ في باب التضحية، أولٌ في باب الصبر، أولٌ في باب الاحتساب، أولٌ في باب الثبات على المبادئ والقيم. ومن تتبع سيرة هذا الجبل السني العظيم يدرك تماماً معنى قوله: «إن صبر فله الشرف»، فكأنه يوصي من يحب بما أوصى به نفسه، وسكن إليه ضميره، وأقامه في حاله، لينالوا الشرف الذي هو عطية الصابرين: {وَمَا يُلَقَّاهَا إلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35].

 

هذه بعض العبر التي استوحيتها من هذه الكلمة الشماء الحنبلية، وقد كتبتها بذهن مكدود، وقدحت حروفها بيد مرتعشة لا تقوى على تحمل عظمة القائل وما يقوله، وإن المتتبع لما ورثه هذا الإمام من الأقوال والمواقف النبيلة ليعلم أن في جوف الفرا صيداً ثميناً، تتنوع شعابه بتنوع أشكاله وألونه، فالإمام أحمد محدث مدقق، وفقيه ملهم، وأسد مجاهد، وعابد زاهد، وهو رجل التربية الذي لا يشق له غبار رحمه الله.

 

ولا أنسى أن أشير إلى أمر مهم في خاتمة هذا المقال، وهو أنني بعد الذي ذكرته لكم، قمت بعملية بحثية قصيرة للوقوف على بحوث ومقالات وكلمات فقهية ذات مدلول تربوي عميق كهذا الذي قرأتم فلم أجد سوى رسالة بسيطة تناولت التفكير التربوي[6] من الناحية الشمائلية والمواقف الشخصية فحسب، دون ذكر لما تم تهديفه والتركيز عليه في هذه المقالة، وإن في جمع تلك الأقوال ومحورتها في ذات السياق المقصود هنا لكنزاً ثميناً لا ينبغي التفريط فيه، بل إن ذلك ذخيرة تصنيف جديدة تضاف إلى تراث الأمة المجيد، وحسبي هنا أن أحث الباحثين للنظر فيما ذكرت، والعمل على تحقيق هذا المشروع إن كان ما قلته يستحق الاهتمام والتعني، والله أسأل أن يبلغنا خدمة دينه، وأن يعيننا على نشر سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

 

بقلم/ رشيد العطران.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] في الخامس عشر من شهر محرم 1438ه عند الساعة التاسعة مساء تقريباً.

[2] وهو الشيخ القاضي الفقيه سليمان بن عبد الله الماجد عضو مجلس الشورى، تولى القضاء الشرعي بمدينة الأحساء، وشارك في لجان عديدة في وزارة العدل السعودية رئيساً وعضواً، وأحد علماء المملكة البارزين في باب الفقه والفتوى.

[3] اشتهر بابن اللحام، وهو أبو الحسن علاء الدين بن محمد البعلي الحنبلي، وكتابه هذا من الكتب المفيدة في تخريج الأصول على الفروع في فقه الإمام أحمد رحمه الله.

[4] القواعد الأصولية لابن اللحام (القاعدة 6/ 64).

[5] راجع القواعد الأصولية (75).

[6] رسالة ماجستير بعنوان:(التفكير التربوي عند الإمام أحمد بن حنبل) إعداد جمعان أحمد صالح الدبسي.

  • 9
  • 2
  • 11,786

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً