ثبات نادر: الشهيد "الكامل محمد الأيوبي"
رحم الله البطل الشهيد العظيم الكامل محمد رحمه الله استشهد البطل الأمير الكامل محمد الأيوبي، والذي كان بمنزلة منارة مضيئة في عالم من الظلام، وقطَع السفاح هولاكو رأسه، وأمر أن يطاف برأسه في كل بلاد الشام، وذلك ليكون عبرة لكل المسلمين.
ثبات نادر: البطل الشهيد الأيوبي العظيم، الذي قطّع التتار لحمه فلم يستسلم، الأمير "الكامل محمد الأيوبي" -رحمه الله- أمير منطقة "ميافارقين"، و"ميافارقين" مدينة تقع الآن في شرق تركيا إلى الغرب من بحيرة "وان".
القصة العظيمة الرهيبة في الشجاعة والبسالة والثبات، شهد بدايتها عام 656 هجرية، حيث كان المغول يحاصرون بغداد، وأدرك الأمير محمد بن غازي -حفيد صلاح الدين- خطورة الوضع، فدعا لاجتماع حكّام الإمارات، الموصل وحلب ودمشق، فاجتمعوا، فطلب منهم التوحُّد ومواجهة جيش التتار، فهرب الجميع ، وقالوا: لا طاقة لنا بمواجهة النظام العالمي الجديد، وسعى كل منهم للتقرُّب للتتار بالمال والولاء، ولكنه كما خان بعض أحفاد صلاح الدين ثبت حفيد صلاح الدين وجاهد وقدّم نموذجًا نادرًا في التاريخ، يليق بتاريخ صلاح الدين، أعلن الجهاد وعدم الاستسلام، رافضا الخضوع للنظام العالمي التتري.
ودخل التتار بغداد، ودمّروها، ونهبوها، وسفكوا دماء المسلمين فيها، وبدلًا من إعلان الجهاد هرع حكام المنطقة المسلمون لتقديم الولاء والاشتراك في الأمم المتحدة بقيادة التتار، ولكن حاكم مسلم واحد لا يعرف غير السجود لله رفض الانضمام الامير الكامل محمد بن غازي، جمع شعبه وذكّرهم بالله وبفرض الجهاد، وجمع حريمه وأولاده وحريم ونساء البلد ووضعهم في قلعة آمد المحصّنة.
على الطرف الآخر، النظام العالمي الجديد اشتدّ غضبه من الأمير الكامل محمد بن غازي كيف يجرؤ؟ وما هي قوته التي شجّعته؟ تساؤلات جعلت هولاكو يفكر في التعامل مع هذا المجاهد العظيم.
بدأ هولاكو بالطرق الخبيثة الدبلوماسية، فأرسل إليه رسولاً يدعوه فيه إلى التسليم غير المشروط، وإلى الدخول في طاعة النظام الدولي، كما فعل غيره من الأمراء المسلمين.
وكان هولاكو خبيثا جداً فقد أرسل رسولاً عربياً نصرانياً اسمه "قسيس يعقوبي"؛ فهذا نصراني، ليؤكد لكامل أنّ أرمينيا النصرانية متحالفة مع التتار، وهكذا أصبح الكامل محمد الأيوبي كالجزيرة في وسط خضم هائل من المنافقين والمشركين والعملاء، ولكن الكامل محمد -رحمه الله- لم يخضع لما يُحيط به من مؤامرة وتهديد، وكي لا يضعف شعبه، ويرفع روحهم المعنوية، قتل الرسول النصراني من قبل هولاكو؛ ليكون بمنزلة الإعلان الرسمي للحرب على هولاكو، وكنوع من شفاء الصدور للمسلمين، انتقاماً ممن ذبح مليون مسلم في بغداد، ولأن التتار ما احترموا أعرافاً قطّ في حياتهم.
غضب هولاكو وأرسل جيشاً كبيراً، ووضع على رأسه ابنه "أشموط بن هولاكو"، وتوجّه الجيش إلى "ميافارقين" مباشرة، بعد أن فتح له أمير الموصل العميل أرضه للمرور، تطبيقا لميثاق الأمم المتحدة بقيادة التتار، واتفاقية التحالف الدولي، للقضاء على المجاهدين المسلمين.
وحاصر التتار "ميافارقين" حصاراً شديداً، وكما هو متوقع، جاءت جيوش مملكتي أرمينيا والكرج النصارى لتحاصر ميافارقين من الناحية الشرقية، وكان هذا الحصار الشرس في شهر رجب سنة 656 هجرية، بعد الانتهاء من تدمير بغداد بحوالي أربعة شهور.
وصمدت المدينة الباسلة، وظهرت فيها مقاومة ضارية، وقام الأمير الكامل محمد في شجاعة نادرة يشجّع شعبه على الثبات والجهاد، وكان شعبه معه يجاهد، ويصبر بلا كلل، محتسبًا الأجر من الله فقد رأى فيه القدرة في القيادة.
كان من المتوقع في هذا الحصار الرهيب الذي ضرب على ميافارقين أن يأتيها المدد من الإمارات الإسلامية الملاصقة لها.. لكن هذا لم يحدث.. لم تتسرب إليها أي أسلحة ولا أطعمة ولا أدوية.. لقد حافظ الأمراء المسلمون على توقيعهم على ميثاق النظام الدولي الجديد بقيادة القوة الأولى في العالم التتار، ودفعهم الحرص على كراسى الحكم إلى أن يبيعوا دينهم وإخوانهم وأخواتهم وأبناءهم وبناتهم وآباءهم وأمهاتهم المسلمين، مقابل عرض من الدنيا.
ومع الثبات وطول الحصار كان هولاكو يُرسل بالرسائل: إنه ما جاء إلى هذه المدينة المسالمة إلا لإزاحة الكامل محمد عن الحكم، أما شعب ميافارقين فليس بيننا وبينه عداء.. إنما نريد أن نتعايش سلمياً بعضنا إلى جوار بعض، وانظروا للبلاد التى استسلمت.
ولكن الحمد لله، لم يظهر شيوخ في ميافارقين يقولون: " أن للكامل محمد أن يتنحى للمصلحة، ويجنّبَ شعبه دمار الحروب! ويصرخون يولولون المصالح والمفاسد.. وحتى لا تكون مثل بغداد،ولم يخرج من يقول لا بد من مبادرة والتفاوض مع التتار،
وتقديم تنازلات، ويستشهد بصلح الحديبية في غير موضعه".
في ظل هذه الأوضاع الصعبة ثبت الأمير الأيوبي المسلم، ومعه الشعب حتى اشتدت بهم المجاعة، فأكلوا الحيوانات، ولكن لم يستسلموا، رغم خيانة صعبة ممن ينتسبون للإسلام، أمير الموصل بدر الدين لؤلؤ، وأمراء السلاجقة (غرب تركيا)، كيكاوس الثاني وقلج أرسلان الرابع، وأشدها من ابن العم الأيوبي "الناصر يوسف الأيوبي" حاكم حلب ودمشق، وقد طلب الأمير الكامل محمد -رحمه الله- النجدة من الناصر يوسف الأيوبي، فرفض رفضاً قاطعا ً.. فقد باع كل شيء، واشترى ود التتار.. رغم أنه يعلم عندما فعل ذلك أنّ التتار لا عهد لهم ولا أمان، ولكنها شهوة كرسي الحكم الطاغية.. التي جعلته يبيع دينه ويبيع المسلمين للتتار!
وفى ظل تلك الشدة والحصار حدثت خيانة في قلعة آمد، ودخلها التتار، واعتقلوا حريم الأمير وأولاده، وجلبوهم عند أسوار ميافارقين، ووضعوا السيوف على رقابهم، لإرهاب الأمير، ولكنه لم يستسلم، بل قال للتتار: والله ما لكم عندي إلا السيف (سبحان الله الذي أعطاه القوة والثبات ليُعلّم الأمة العز والشموخ).
وبعد حصار ثمانية عشر شهراً متصلة من النضال والثبات والجهاد، سقطت ميارفاقين. وذلك دون أن تتحرك نخوة قلب أمير من الأمراء أو ملك من الملوك المسلمين، (كما سقطت بغداد وكابل وجروزني والبوسنة وحلب وسوريا اليوم وحكام بلاد المسلمين يشاهدون).
وقصة السقوط عجيبة، فقد توقّفتْ العمليات أيامًا، ثم شاهد جنود التتار بعض الصبية يفرّون فقبضوا عليهم، فقالوا لهم أنه لم يعد في المدينة أحد إلا ما يقرب من سبعين، كلهم مرضى وجرحى، فقد اشتدت المجاعة حتى أكل الناس الجثث!
فلم يصدق التتار، فدخلوا المدينة من ثغرة وظنوا أن الأمر خدعة، ومن رعبهم ظلوا أسبوعين في أماكنهم لا يتحركون خشية أن يخرج عليهم مجاهدون، ولكن مرّت الأيام فدخلوا، فلم يجدوا إلا مرضى وجرحى، وقد استُشهد حوالى 7000 مجاهدًا، ولم يشعر التتار بذلك، بسبب استمرار الجهاد.
استباح التتار مدينة ميافارقين الباسلة، واستبيحت حرماتها تماماً.. فقد جعلها أشموط بن هولاكو عبرة لكل بلد يقاوم في هذه المنطقة.. فقتل السفاح كل سكانها، وحرَّق ديارها، ودمّرها تدميراً.. ووجدوا الأمير الكامل محمد -رحمه الله- حيًّا، ولكنه مريض وجريح لا يقوى على الحركة، فاعتقلوه، ليزيد من عذابه، وذهبوا به إلى هولاكو.
واستجمع هولاكو كل كفره وحقده في الانتقام من الأمير البطل الكامل محمد الأيوبي رحمه الله، فأمسك به وقيّده، ثم أخذ يقطّع أطرافه وهو حي، بل إنه أجبره أن يأكل من لحمه!
وهي لحظات صعبة قاسية شديدة على الإنسان، ولكنّ الكامل بن محمد غازي كان ثابتا صامدا، لا يستسلم، ولا يُعطي الدنيّة في دينه.
وظل هولاكو يعذّبه، هذا التعذيب البشع، إلى أن أذن الله -عز وجل- للروح المجاهدة أن تصعد إلى بارئها..
{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(170) ۞ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ}.
روى البخارى ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد يموت، له عند الله خير، يسره أن يرجع إلى الدنيا، وأنّ له الدنيا وما فيها إلا الشهيد، لما يرى من فضل الشهادة، فإنه يسرّه أن يرجع إلى الدنيا، فيُقتل مرة أخرى».
الكل سيموت، ولكن شتان بين من مات رافعاً رأسه بالإسلام، ومن يموت ذليلاً منكسراً للعدو مطأطئ الرأس.
شتان بين من مات وهو ممسك بسيفه يدافع عن دينه، ومن مات وهو ساجد لكرسي الحكم رافع يده بالتسليم لأعداء الدين.
رحم الله البطل الشهيد العظيم الكامل محمد رحمه الله استشهد البطل الأمير الكامل محمد الأيوبي، والذي كان بمنزلة منارة مضيئة في عالم من الظلام، وقطَع السفاح هولاكو رأسه، وأمر أن يطاف برأسه في كل بلاد الشام، وذلك ليكون عبرة لكل المسلمين، وانتهى المطاف بالرأس بعد ذلك إلى دمشق، حيث عُلِّقَ فترةً على أحد أبواب دمشق، وهو باب الفراديس، وعندما دخلها بيبرس أسرع وأنزل الجثة، وكرّمه أشد تكريم، ودفنه في أحد المساجد، والذي عُرِفَ بعد ذلك بمسجد الرأس.
الأمة الآن تحتاج إلى أمثال هذا البطل العظيم في الثبات والتضحية والجهاد، علّموا أولادكم قصة هذا البطل المجاهد العظيم.
بسبب ثبات الكامل محمدبن غازي ومن معه في ميافارقين وصمودهم أمام الحصار تاخر هجوم التتار على مصر واستطاع المماليك في مصر الاستعداد فكان نصر عين جالوت في 658 بعد سنة ونصف من سقوط بغداد وهي فترة حصار ميافارقين تقبل الله الشهداء.
يقول الذهبي في سير أعلام النبلاء: "كان شابًّا، عاقلاً، شجاعًا، مهيبًا، محسنًا إلى رعيته، مجاهدًا، غازيًا، ديّنًا، تقيًّا، حميد الطريقة".
ويقول الصفدي في كتابه "الوافي بالوفَيَات عن الملك المظفر محمد بن غازي: "كان ملكًا جليلاً ديّنًا خيّرًا، عالمًا مهيبًا شجاعًا محسنًا إلى الرعية، كثير التعبد والخشوع، لم يكن في بيته من يضاهيه".
- التصنيف: