بشارات رب العالمين لعباده المؤمنين
فجاءَ القرآنُ الكريمُ لتبشِيرِ المؤمنين بالخيرِ العظيمِ من ربِّ العالمين، وعلى نهْجِ القرآنِ كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم؛ فلقد كانَ يعلَمُ أصحابَه رضي الله عنهم أن يستبشِروا بالخيرِ والفضْلِ.
في زمانٍ الغربة الذي يعيشه المؤمنون الصادقون، حيث علا أهل الكفر حتى صارت لهم قوة ومنعة، وضعف أهل الإسلام وذلوا من بعد عز وقوة، تأتي البشارات من الله تعالى ومن رسولِه الأمين صلى الله عليه وسلم للمؤمنين بقرب الفرج، وزوال الكرب، وعز الإسلام وأهلِه.
في هذه الحياة الدنيا التي فيها من صنوف الملذات والشهوات المحرمة ما يملأ قلوب المؤمنين خوفا ووجلا من الاقتراب منها، تأتي البشارة من الله تعالى لهؤلاء المؤمنين بأنَّ لهم في الجنة من النعيم المقيم ما يسعدون به ولا يشقون أبدًا.
فلتصبروا أيها المؤمنون الصادقون؛ فإن وعد الله آت ولو بعد حين، والعاقبة للمتقين، والغلبة لجند الله الصادقين، والنعيم في الجنة للمتقين، نسأل الله أن يشملنا برحمته أجمعين.
جاءَ القرآنُ الكريمُ لتبشيرِ المؤمنين؛ فقد قال الله تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم: 97].
وقال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89].
وقال الله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ * هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [النمل: 1، 2].
وقال الله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 97].
وقال سبحانه وتعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 102].
فجاءَ القرآنُ الكريمُ لتبشِيرِ المؤمنين بالخيرِ العظيمِ من ربِّ العالمين، وعلى نهْجِ القرآنِ كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم؛ فلقد كانَ يعلَمُ أصحابَه رضي الله عنهم أن يستبشِروا بالخيرِ والفضْلِ.
وجاءت الرؤيا الصالحة من الله لتبشير المؤمنين؛ فعن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ رُؤْيَا الْمُسْلِمِ تَكْذِبُ، وَأَصْدَقُكُمْ رُؤْيَا أَصْدَقُكُمْ حَدِيثًا، وَرُؤْيَا الْمُسْلِمِ جُزْءٌ مِنْ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، وَالرُّؤْيَا ثَلَاثَةٌ: فَرُؤْيَا الصَّالِحَةِ بُشْرَى مِنَ اللهِ، وَرُؤْيَا تَحْزِينٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَرُؤْيَا مِمَّا يُحَدِّثُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ، فَإِنْ رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ فَلْيَقُمْ فَلْيُصَلِّ، وَلَا يُحَدِّثْ بِهَا النَّاسَ» ([1]).
وفي لفظٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إِلَّا المُبَشِّرَاتُ».
قَالُوا: وَمَا المُبَشِّرَاتُ؟
قَالَ: «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ» ([2]).
وأمرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابه رضوان الله عليهم أن يستبشِروا بالخير دائمًا؛ فعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ نَازِلٌ بِالْجِعْرَانَةِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالمَدِينَةِ، وَمَعَهُ بِلاَلٌ فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: أَلاَ تُنْجِزُ لِي مَا وَعَدْتَنِي؟
فَقَالَ لَهُ: «أَبْشِرْ».
فَقَالَ: قَدْ أَكْثَرْتَ عَلَيَّ مِنْ أَبْشِرْ.
فَأَقْبَلَ عَلَى أَبِي مُوسَى وَبِلاَلٍ كَهَيْئَةِ الغَضْبَانِ، فقَالَ: «رَدَّ البُشْرَى، فَاقْبَلاَ أَنْتُمَا».
قَالاَ: قَبِلْنَا ([3]).
وعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ نَفَرٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «يَا بَنِي تَمِيمٍ أَبْشِرُوا».
قَالُوا: بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا، فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ، فَجَاءَهُ أَهْلُ اليَمَنِ، فَقَالَ: «يَا أَهْلَ اليَمَنِ! اقْبَلُوا البُشْرَى إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ».
قَالُوا: قَبِلْنَا ([4]).
بل كان صلى الله عليه وسلم يحثهم على تبشير الناس بالخير، فعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا بَعَثَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ، قَالَ: «بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا» ([5]).
أصنافُ المبشَّرين في كتابِ الله تعالى:
بشر الله تعالى في كتابه الكريم صنوفًا من الناس: أولهم: المؤمنون:
لقد بشَّر الله عبادَه المؤمنين كثيرًا في كتابه الكريم؛ وفي آيات أربع من كتابِ الله تعالى تنتهي الآية بقول الله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} بشِّرهم بماذا؟ لم يذكرْ ربُّ العالمين؛ ليدلَّ على عظم البشارة.
الآية الأولى: قول الله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 223].
والآية الثانية: قوله سبحانه: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 112].
والآية الثالثة: قولُه سبحانه: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 87].
والآية الرابعةُ: قولُه سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف: 10 - 13].
وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 17، 18].
بشَّرهمُ الله تعالى بالفضلِ الكبيرِ منه سبحانه وتعالى، فقال سبحانه: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 47].
وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء: 9].
وبشَّرهمُ سبحانه وتعالى بالخير في الدنيا والآخرة؛ فقال جلَّ شأنه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس: 63، 64].
ثانيهم: المخبتون:
قال الله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الحج: 34، 35].
ثالثهم: الصابرون:
قال الله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 - 157].
رابعهم: المحسنون:
قال الله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج: 37].
وقال الله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} [الأحقاف: 12].
خامسهم: الكافرون والمنافقون تهكمًا بهم:
قال الله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 3].
أنواعُ البشاراتِ في القرآن والسنة:
1- البشارة بالنصر والتمكين للمؤمنين:
من بُشرى الخير التي بشر الله بها عبادَه المؤمنين في الدنيا تبشيرُهم بالنصر والتمكين، قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [النور:55].
فلقد وعد الله بنصر عباده المؤمنين، وإعزاز دينه؛ قال الله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171-173].
وقال سبحانه تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47].
وسبق ذكر قول الله تعالى: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف: 13].
وبشَّر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأمةَ بالنصرِ والظَّفَرِ، قال خَبَّابُ بنُ الأرَتّ رضي الله عنه: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً، وَهُوَ فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ وَقَدْ لَقِينَا مِنَ المُشْرِكِينَ شِدَّةً، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ، فَقَعَدَ وَهُوَ مُحْمَرٌّ وَجْهُهُ.
فَقَالَ: «لَقَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ لَيُمْشَطُ بِمِشَاطِ الحَدِيدِ، مَا دُونَ عِظَامِهِ مِنْ لَحْمٍ أَوْ عَصَبٍ، مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُوضَعُ المِنْشَارُ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَيُشَقُّ بِاثْنَيْنِ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَلَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، مَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ».
وفي رواية: «وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ» ([6]).
وعَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا..» ([7]).
وعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلاَ يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الإِسْلاَمَ، وَذُلاًّ يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ» ([8]).
وعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: «بَشِّرْ هَذِهِ الأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ، وَالنَّصْرِ، وَالتَّمْكِينِ، فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الآخِرَةِ لِلدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الآخِرَةِ نَصِيب» ([9]).
2- البِشَارَةُ بأنَّ مع العسرِ يسرًا، وبعد الشِّدَّة فرجًا:
لابُدَّ في الحياة الدنيا من بلايا وملمَّاتٍ، ومحنٍ واختباراتٍ، فهذه طبيعتُها، وتلك سنَّتُها، وما خلقَ الله الحياةَ إلا لابتلاءِ العبادِ بمقارعِ الدهرِ ونوائبِه، قال الله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2].
لكنَّ المؤمنين لمَّا حلَّتْ بهم الشدائدُ استبشروا بقربِ الفرجِ، وعلِمُوا أنَّ بعد العسْرِ يُسْرًا، ولكلِّ ضيقٍ مخرجا، ولكلِّ همٍّ فرجًا؛ قال الله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5، 6]. {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف: 110].
لمَّا اشتد الظلام علِمنا أنَّ الفجرَ قابَ قوسين أو أدنى، ولمَّا عظُمَ البلاءُ واشتدَّ الخَطْبُ علِمْنا أنَّ الغُمَّة ستزولُ عمَّا قريبٍ، ولمَّا اشتدَّ ظلمُ الطُّغاةِ وبطشُ العُتَاة علِمْنا أنَّ الجبارَ منتقمٌ عاجلًا غير آجلٍ.
فالصالحون دائمًا إذا أصابتْهم بليّةٌ علِموا أنها لا تدومُ، قال الله: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا} [آل عمران: 140]. فالله يكشِفُ البَلايا، ويعلَمُ الخفايا، قال الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [فاطر: 44].
فدومًا تفاءل خيرًا، وأبشر برًّا، واعلمْ أنَّ الله رحيمٌ بعبادِه، لطيفٌ بهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: «أَلا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللهُ بِهِنَّ؟ فَقُلْتُ: بَلَى. فَقَالَ: "احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ.. وَاعْلَمْ أنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا» ([10]).
قال الشافعيّ رحمه الله:
وَلَرُبَّ نَـــــــــازِلَةٍ يَضِيقُ لَهَا الْفَتَى ذرعـاً وعند الله منها المخرجُ
ضاقت فلمَّا استحكمت حلقاتها فرجت وكنتُ أظنُّهـــا لا تُفرجُ
3- البِشَارةُ بالمغْفرةِ للمؤمنين:
قالَ الله تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [يس: 11].
4- البِشَارةُ بالجنَّةِ للمؤمنين:
بشَّرَ الله تعالى المؤمنين بأعظمِ بشارةٍ لهم وهي: دخولِ جنَّاتِ النعيم؛ قالَ الله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة: 25].
وقال الله سبحانه: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس: 2].
قال الطبري ([11]): اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {قَدَمَ صِدْقٍ}. قال: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ عِنْدِي بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ أَنَّ لَهُمْ أَعْمَالًا صَالِحَةً عِنْدَ اللَّهِ يَسْتَوْجِبُونَ بِهَا مِنْهُ الثَّوَابَ.
وقال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة: 20، 22].
وقال الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} [الكهف: 1 - 3].
وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشورى: 23].
وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت: 30، 31].
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجْتُ لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْشِي وَحْدَهُ، وَلَيْسَ مَعَهُ إِنْسَانٌ، قَالَ: فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَكْرَهُ أَنْ يَمْشِيَ مَعَهُ أَحَدٌ، قَالَ: فَجَعَلْتُ أَمْشِي فِي ظِلِّ القَمَرِ، فَالْتَفَتَ فَرَآنِي، فَقَالَ: «مَنْ هَذَا» قُلْتُ: أَبُو ذَرٍّ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ تَعَالَهْ» قَالَ: فَمَشَيْتُ مَعَهُ سَاعَةً..
فَقَالَ لِي: «اجْلِسْ هَا هُنَا»، قَالَ: فَأَجْلَسَنِي فِي قَاعٍ حَوْلَهُ حِجَارَةٌ، فَقَالَ لِي: «اجْلِسْ هَا هُنَا حَتَّى أَرْجِعَ إِلَيْكَ» قَالَ: فَانْطَلَقَ فِي الحَرَّةِ حَتَّى لاَ أَرَاهُ، فَلَبِثَ عَنِّي فَأَطَالَ اللُّبْثَ، ثُمَّ إِنِّي سَمِعْتُهُ وَهُوَ مُقْبِلٌ، وَهُوَ يَقُولُ: «وَإِنْ سَرَقَ، وَإِنْ زَنَى».
قَالَ: فَلَمَّا جَاءَ لَمْ أَصْبِرْ حَتَّى قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، مَنْ تُكَلِّمُ فِي جَانِبِ الحَرَّةِ، مَا سَمِعْتُ أَحَدًا يَرْجِعُ إِلَيْكَ شَيْئًا؟
قَالَ: «ذَلِكَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، عَرَضَ لِي فِي جَانِبِ الحَرَّةِ، قَالَ: بَشِّرْ أُمَّتَكَ أَنَّهُ مَنْ مَاتَ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الجَنَّةَ. قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، وَإِنْ سَرَقَ، وَإِنْ زَنَى؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: قُلْتُ: وَإِنْ سَرَقَ، وَإِنْ زَنَى؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَإِنْ شَرِبَ الخَمْرَ» ([12]).
5- البِشَارةُ بالنَّارِ للكافرين والمنافقين سخريةً منهم:
قال الله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 3]، والبِشارةُ إنما تكونُ بالمسرَّاتِ، وإنما جاءَ هذا على سبيلِ التهكم بهم؛ بشِّرْ هؤلاء الكفرةِ بالعذابِ الأليمِ في الدنيا والآخرةِ.
وقال سبحانه وتعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 138].
عَنْ عبدِ الله بنِ عمرَ رضي الله عنهما قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أَبِي كَانَ يَصِلُ الرَّحِمَ، وَكَانَ وَكَانَ، فَأَيْنَ هُوَ؟
قَالَ «فِي النَّارِ».
قَالَ: فَكَأَنَّهُ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيْنَ أَبُوكَ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «حَيْثُمَا مَرَرْتَ بِقَبْرِ مُشْرِكٍ فَبَشِّرْهُ بِالنَّارِ».
قَالَ: فَأَسْلَمَ الْأَعْرَابِيُّ بَعْدُ، وَقَالَ: لَقَدْ كَلَّفَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَعَبًا، مَا مَرَرْتُ بِقَبْرِ كَافِرٍ إِلَّا بَشَّرْتُهُ بِالنَّارِ ([13]).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) أخرجه البخاري (7017)، ومسلم (2263)، واللفظ له.
([2]) أخرجه البخاري (6990).
([3]) أخرجه البخاري (4328)، ومسلم (2497).
([4]) أخرجه البخاري (3190).
([5]) أخرجه مسلم (1732).
([6]) أخرجه البخاري (3852).
([7]) أخرجه مسلم (2889). "زَوَى": جمع.
([8]) إسناده صحيح: أخرجه أحمد (4 /103). أهل الْمَدرِ: سكانُ الْبيُوتِ المبنيّة. أهل الْوَبر: أهل الْبَادِيَة؛ لأَنهم يتَّخذون بُيُوتَهم من الْوَبر، وهو الصوف.
([9]) إسناده حسن: أخرجه أحمد (5 /134) والحاكم (4/ 311). السَّنَاء": الْعُلُوّ والارتفاعُ.
([10]) إسناده حسن: أخرجه أحمد (1/ 307)، وبعض أهل العلم بالحديثِ يُعِلُّ زيادة: " وَاعْلَمْ أنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى..".
([11]) "جامع البيان" (12/ 108، 111).
([12]) أخرجه البخاري (6443)، ومسلم (94).
([13]) معلول بالإرسال: أخرجه ابن ماجه (1573)، لكنه معلولٌ بالإرسال، وقد أعلَّه الإمامان أبو حاتم والدارقطني، كما بينته في كتابي "الأحاديث الضعيفة والمعلولة".
- التصنيف: