فثبتوا الذين آمنوا
مجتمعات المسلمين اليوم؛ وهي تتألم من طعنات المنافقين والمرتزقة الخونة من داخل صفوفها.. أحوج ما تكون إلى وقفة شامخة من «الذين يظنون أنهم ملاقو الله» تردُّ عنهم هذه الطعنات، وتوقف مشاريعهم،
ثبات القلوب مقصد شرعي:
في معركة لم يقصدها المسلمون بمسيرهم إلى بدر، إنما ظنوا أن غير ذات الشوكة تكون لهم، التقى جيش الباطل بخيلائه وكبريائه وعدته وعتاده وقد تهيأ للعراك، التقى هذا الجيش بجيش الحق وفيه رسول الله وأصحابه البدريون الكرام، حيث لم يتهيؤوا للحرب على أكمل وجه، لكنهم يحملون أرواحهم على أكفهم فداء لهذا الدين، وكان عددهم أقل بكثير من عدد المشركين، وكانت الحسبة المادية تقول: إن المعركة ستكون لصالح جيش المشركين.. حينها انكب النبي صلى الله عليه وسلم على الدعاء متضرعاً طالباً النصر من عند الله، مستمداً القوة منه، فجاءته البشائر من رب العالمين بالنصر والتمكين.
في تلك الأثناء أرسل الله تعالى ملائكته مدداً من السماء وأوحى إليهم أن ثبتوا الذين آمنوا، قال ابن كثير: «أوحى إلى الملائكة الذين أنزلهم لنصر نبيِّه ودينه وحزبه المؤمنين، يوحي إليهم فيما بينه وبينهم أن يثبتوا الذين آمنوا... أي ثبتوا أنتم المسلمين وقووا أنفسهم على أعدائهم»[1]، فمعنى التثبيت هنا هو تقوية قلوب المؤمنين، حيث يصيبها ما يصيب قلوب الناس وقت المعركة غير المتكافئة. وقد وصف الله تعالى شيئاً مما يحصل للقلوب في مثل هذا الظرف، قال تعالى: {إذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْـحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا 10 هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْـمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 10، ١١]، فتكون تلك القلوب بحاجة إلى ما يثبتها ويقويها ويحفزها للإقدام برغم صعوبة المعادلة المادية «فإنَّ الله إذا ثبَّت المؤمنين وألقى الرعب في قلوب الكافرين؛ لم يقدر الكافرون على الثبات لهم، ومنحهم الله أكتافهم»[2].
وقيل في طريقة تثبيت الملائكة للمؤمنين يوم بدر: «أن الملك كان يشبَّه بالرجل الذي يعرفون وجهه، فيأتي الرجلَ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: إني قد دنوت من المشركين، فسمعتهم يقولون: والله لئن حملوا علينا لنكشفنَّ. فتحدَّث بذلك المسلمون بعضهم بعضاً، فيقوِّي أنفسهم ويزدادون جرأة»[3]. ومهما كانت طريقة التثبيت فإنَّ الأمر الإلهي {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال: 12] أتى مطلقاً، أي قووا قلوب المؤمنين بما تتقوى قلوبهم به، قال البقاعي: «أي بأنواع التثبيت. من تكثير سوادهم، وتقوية قلوبهم، وقتال أعدائهم، وتقليلهم في أعينهم، وتحقير شأنهم»[4]. والغرض منه غرس الشعور بالقوة والنصر، قال ابن عاشور رحمه الله: «وتثبيت المؤمنين إيقاع ظن في نفوسهم بأنهم منصورون»[5].
فإذا ثبتت قلوب المؤمنين لم يبق لهم سوى الظفر بأعدائهم الذين ألقى الله الرعب في قلوبهم فكان الرعب سبباً لهزيمتهم؛ كما أنَّ ثبات قلوب المؤمنين هو السبب الآخر: {إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلَى الْـمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12].
إن المؤمنين وهم يقاسون لأواء الصراعات والمعارك ضد أعداء الله لأحوج ما يكونون إلى تثبيت قلوبهم وبعث الأمل والتفاؤل فيها، فإن ثبات القلب أصل ثبات الأقدام، وعلى قوة القلب وضعفه وشجاعته وخوره تكون نتيجة المعركة ومآلات الصراع، ولقد تربى رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الهدي، فكان في أوج المحنة تبرق أسارير وجهه ابتهاجاً بنصر الله المأمول؛ كما حدث ذلك في غزوة الخندق «عندما واجهت الصحابة صخرة عجزوا عن كسرها أثناء الحفر؛ ضربها الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاث ضربات ففتتها، وقال إثر الضربة الأولى: الله أكبر! أُعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة. ثم ضربها الثانية، فقال: الله أكبر! أُعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن أبيض. ثم ضرب الثالثة، وقال: الله أكبر! أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذه الساعة. وهكذا بشرهم بما سيكون من فتوح لهذه البلدان؛ وهم محصورون في خندق، يقرصهم البرد والجوع»[6]. لم تكن هذه الصفة في رسول الله صلى الله عليه وسلم فلتة نادرة، بل هي هدي له تكرر منه في مختلف الوقائع والأحداث.
المؤمنون يثبتون بعضهم في المحن:
تثبيت المؤمنين وتقوية قلوبهم دأب أهل الإيمان، قال الله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 249]. وذلك في قصة طالوت وجالوت، حيث قاد الملك طالوت جيشاً عظيماً قوامه ثمانون ألفاً لقتال جالوت، فلما وصلوا إلى أرض القتال لم يتبق مع طالوت من الجنود سوى ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً.. هم الذين صمدوا لقتال جالوت[7]. لكنَّ ضخامة الجيش المقابل وانهزام أغلب جيش طالوت أورثا تقهقراً في همم بعض أولئك الذين صمدوا من القلة التي ستواجه الجيش. عند ذلك «شجعهم علماؤهم وهم العالمون بأن وعد الله حق، فإن النصر من عند الله ليس عن كثرة عَدد ولا عُدد»[8]. قال أبو حيان: «هذا القول تحريضٌ من العازمين على القتال وحض عليه، واستشعار للصبر، واقتداء بمن صدَق الله. والمعنى: أنَّا لا نكترث بجالوت وجنوده وإنْ كثروا، فإنَّ الكثرة ليست سبباً للانتصار، فكثيراً ما انتصر القليل على الكثير، ولما كان قد سبق ذلك في الأزمان الماضية وعلموا بذلك؛ أخبروا بصيغة: كم، المقتضية للتكثير»[9].
إن تقوية قلوب المؤمنين في زمن الأهوال والشدائد والمواجهات هديٌ قرآني أفاد منه أهل العلم وأولوا النهى عبر القرون والأجيال، وأفاضت فيه كتب التاريخ والتراجم والسير. من ذلك موقف العز بن عبد السلام مع الملك المظفر قطز في مواجهة التتار. ففي عام 656هـ فجعت الأمة الإسلامية بسقوط الخلافة وتدمير عاصمة الإسلام الكبرى: بغداد، وما تبع ذلك من القتل العام للمسلمين وسبي نسائهم وذراريهم، وتدمير الممتلكات والمكتبات والمساجد والمدارس، وإحراق البيوت والمزارع، مما أجفل قلوب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها من هذا الزحف المهول الذي لا يبقي ولا يذر أينما حلَّ ومرَّ.
كانت الخلافة العباسية قبيل ذلك عبارة عن أشلاء ممزقة تشتكي الضعف والتفرق والانكباب على الدنيا والبعد عن صفاء الدين. وقد قدم التتار من مشرق الأرض فابتلعوا المملكة الخوارزمية، ثم دولة الحشاشين وبلاد فارس، ثم دمروا بغداد تدميراً، وكانت حرب إبادة، أو ما يسمى اليوم «الأرض المحروقة». وبلغت الممالك من الضعف والتمزق درجةً مقيتة، فقد زُيِّنت مصر واحتفلت بانتصارها على الشام في ذات الوقت الذي تصل الأنباء فيه بجحيم بغداد![10] كان القتال بين الأيوبيين في مصر والشام بينما العدو يتهيأ لابتلاعهما! يقول الذهبي رحمه الله: «وأما هولاكو فإنه عدَّى الفرات بأكثر الجيش ومعهم من السبي والأموال والخيرات والدواب ما لا يوصف»[11]، ثم زحف التتار نحو الموصل، ثم توجهوا نحو الشام فابتلعوها وسقطت حلب وحمص ودمشق، وفرَّ الملك الناصر حاكم دمشق وتركها تواجه مصيرها بنفسها، ثم زحف التتار نحو مصر والحجاز واليمن.
في تلك الأثناء تولى القائد العسكري المظفر قطز السلطنة على مصر بانقلاب على الملك المنصور صغير السن. وألقى الله في قلبه التصدي للهجوم التتري على مصر وعدم تسليمها. يقول الذهبي رحمه الله: «وفي أواخر السنة [657هـ] وقعت الأراجيف بحركة التتار نحو الشام، فانجفل الخلق. وفي آخرها قبض الأمير سيف الدين قطز المـُعزي على ابن أستاذه الملك المنصور علي بن المـُعز، وتسلطن ولُقب بالملك المظفر، وسبب ذلك قدوم الصاحب كمال الدين ابن العديم رسولاً يطلب النجدة على التتار، فجَمع قطز الأمراءَ والأعيان، فحضر الشيخ عز الدين ابن عبد السلام والقاضي بدر الدين السنجاري، وجلس الملك في دَست السلطنة، فاعتمدوا على ما يقوله الشيخ عز الدين، فكان خلاصته:
«إذا طرق العدوُّ البلادَ وجب على العالم كلهم قتالهم، وجاز أن يؤخَذ من الرعية ما يستعان به على جهادهم، بشرط ألا يبقى في بيت المال شيء، وأن تبيعوا ما لكم من الحوائص والآلات، ويقتصر كل منكم على فرسه وسلاحه، ويتساووا في ذلك هم والعامة، وأما أخْذ أموال العامة مع بقاء ما في أيدي الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا».
«ثم بعد أيام قَبض على المنصور، وقال: هذا صبي والوقت صعب، ولا بد من رجل شجاع ينتصب للجهاد... وسيَّر قطز القاضيَ برهان الدين السنجاري مع ابن العديم إلى الشام يَعِدُ الناصر بالنجدة»[12].
وتوجه جيش مصر إلى الأردن والتقى جيش التتر في عين جالوت فكسرهم المسلمون كسرة شديدة، وقُتل قائد جيش التتر «كُتْبُغا» ثم سار الجيش بقيادة «بيبرس» نحو حلب والشام، فتوقف الزحف التتري على بلاد المسلمين، والحمد لله رب العالمين.
الجيوش والعتاد والمال متوفرة لدى المسلمين، لكنهم بحاجة إلى قوة العزيمة وثبات القلب ورباطة الجأش، تلك التي ساهم العلماء في إيجادها لديهم.. لقد كان موقف الشيخ العز بن عبد السلام في التحريض على قتال التتر بكل ممكن مدداً أمدَّ به الجيش العسكري الذي يقوده الملك المظفر قطز، فجيش التتار هو جيش التتار وجيش المسلمين هو جيش المسلمين لكن ثبات القلب أحدث تغييراً في معادلة المعركة لصالح المسلمين، ونفع الله بهذا المدد، وتقوَّت قلوب العساكر والعوام بعد أن كانت مهزومة مهزوزة تتناهشها المخاوف والأهوال. قال الذهبي رحمه الله في بعض وصفه لها: «وخرجت السَّنَة والناس في أمرٍ عظيم من الخوف والجلاء والحيرة»[13]. وقد أعرضتُ عن تفاصيل ذلك لكثرته وطوله، واكتفيت بمحل الاستشهاد.
درس التثبيت التيميِّ:
إنْ كانت فتوى إمام زمانه العز بن عبد السلام رحمه الله أحدثت صدى قوياً في قلوب القادة العسكريين والأمراء، مما سيكون له تأثير إيجابي في التعبئة الإعلامية وصناعة الرأي العام فإنَّ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قدَّم عدداً من الأدوار الهادفة إلى تقوية المسلمين وتثبيتهم، على اختلاف شرائحهم ومواقعهم.
عادت الشام إلى حظيرة الإسلام بعد كسرة التتار في عين جالوت، وتوقف التمدد التتري نحو الغرب، وانكمش نفوذهم بعد موقعة عين جالوت لكن الأمور اضطربت بعد فترة من الزمان، حيث جاءت الأخبار المتكاثرة إلى الشام بحركة التتار وعزمهم على قصد البلاد في ذي الحجة من عام 698هـ[14]. والتقى جيش الحمصيين بجيش التتر بقيادة قازان في وادي الخزندار شمال شرق حمص، فكسرهم التتار. يقول الذهبي رحمه الله - وهو في دمشق - في وصفٍ ينبئك عن حالٍ شديدة: «فما أمسينا حتى أُشهر أنَّ الميمنة انكسرت. ثم قيل إن الجيش جميعه انكسر، فبتنا بليلة الله بها عليم، وفترت الهمم عن الدعاء. ودقت البشائر من الغد تطميناً ثم تبين كذبها. ثم دقت البشائر عصر يوم الجمعة فلم يعبأ بها الناس، بل بقوا حائرين في هرَج ومرَج. وجاء يومئذ خلق من الجند والأمراء، قد وقفت خيولهم، وراحت أثقالهم وأموالهم، وتمزقوا. وقد رموا الجواشن[15]. واستشهد في المصاف جماعة إلى رحمة الله. وشرع الناس في الهرب إلى مصر. وبات الناس ليلة السبت في أمر عظيم، قد أشرفوا على خطة صعبة»[16]. وقصد قازان دمشق «وأرسل قبجق إلى نائب القلعة ليسلمها إلى التتار، فامتنع أرجواش [نائب القلعة] من ذلك أشد الامتناع، فجمع له قبجق أعيان البلد، فكلموه أيضاً، فلم يجبهم إلى ذلك، وصمم على ترك تسليمها إليهم وفيها عين تطرف، فإن الشيخ تقي الدين ابن تيمية أرسل إلى نائب القلعة يقول له ذلك، فاشتد عزمه على ذلك، وقال له: لو لم يبق فيها إلا حجر واحد فلا تسلمهم ذلك إن استطعت. وكان في ذلك مصلحة عظيمة لأهل الشام، فإن الله تعالى حفظ لهم هذا الحصن والمعقل الذي جعله الله حرزاً لأهل الشام التي لا تزال دار أمان وسنة، حتى ينزل بها عيسى ابن مريم، عليه السلام»[17].
ثم «نادى أرجواش في البلد أن احفظوا الأسوار، وأخرجوا ما كان عندكم من الأسلحة، ولا تهملوا الأسوار والأبواب، ولا يبيتن أحد إلا على السور، ومن بات في داره شنق. فاجتمع الناس على الأسوار لحفظ البلد، وكان الشيخ تقي الدين ابن تيمية يدور كل ليلة فوق الأسوار يحرض الناس على الصبر والقتال، ويتلو عليهم آيات الجهاد والرباط»[18].
واستمر الحال المضطرب لمدة عام ونصف تقريباً، لكن جهود شيخ الإسلام ابن تيمية لم تتوقف عن تثبيت الناس والقادة والأمراء ففي شهر صفر من عام 700هـ «جلس الشيخ تقي الدين ابن تيمية بمجلسه في الجامع، وحرض الناس على القتال، وساق لهم الآيات والأحاديث الواردة في ذلك، ونهى عن الإسراع في الفرار، ورغَّب في إنفاق الأموال في الذب عن المسلمين وبلادهم وأموالهم، وأنَّ ما يُنفق في أجرة الهرب إذا أُنفق في سبيل الله تعالى كان خيراً، وأوجب جهاد التتر حتماً في هذه الكرَّة، وتابع المجالس في ذلك، ونودي في البلدان: لا يسافر أحد إلا بمرسوم وورقة. فتوقف الناس عن السير، وسكن جأشهم، وتحدث الناس بخروج السلطان من القاهرة بالعساكر المنصورة، ودقت البشائر لخروجه»[19].
«واستهلَّ جمادى الأولى والناس في حالة الله بها عليم، فخرج ابن تيمية إلى المرج، واجتمع بنائب السلطنة [الأفرم] وسكَّنه وثبته[20]، وأقام عنده يومين، ثم ساق البريد إلى السلطان فلم يدركه، وفات الأمر، فساق إلى القاهرة...»[21]. وكانت عودة السلطان والمصريين إلى مصر مصدر قلق لدى الناس فانجفل من البلد أمم عظيمة. قال الذهبي رحمه الله: «ويوم التاسع من الشهر أصبح الناس فِي خوفٍ مفرط وذلك أنَّ والي البلد ابن النحاس جفَّل الناس بنفسه، وصار يمر على التجار فِي الأسواق ويقول: أيش قعودكم؟ ومن قدر على السفر فليبادر، ثُم نودي في البلد بذلك الظُّهر فصاح النِّساء والأولاد وغُلِّقت الأسواق وبقي الناس فِي كآبةٍ وخَمْدَة وقالوا: عسكر المسلمين قد فرط فيه، الأمراء المصريون قد رجعوا وعسكر الشَّام لا يقوم بملتقى قازان لو ثبتوا، كيف وهم عازمون على الهرب؟! والنائب الأفرم من عزمه الملتقى لو ثبت معه الجيش، أما إذا خذلوه واندفعوا بين يدي العدو فما حيلته وتحدث الناس أن قازان يركب من حلب إلينا في عاشر جُمَادَى الأولى، ودخل القلعة في هذا اليوم خلق كثير بأقواتهم وأموالهم حتى ضاقت بالخلق وانرصت حَتَّى رَضِيَ كثير من الناس بأن يصحَّ لهم مكانٌ لجلوسهم لا يمكنهم فيه النوم، وحاروا في أمرهم وبَوْلهم، ثُمَّ نودي في عاشر الشهر: مَنْ قَصْدُه الجهاد فليقعُدْ ويتهيّأ له ومن هو عاجز فلينج بنفسه. ثُمَّ خرج من القلعة خلْقٌ مما حلَّ بهم من الضَّنْك والويل وهجُّوا إلى مصر والقلاع، وسافر من تبقى بالبلد من الكبار»[22]. في هذه الحال قام جماعة من أهل العلم بواجبهم في تثبيت الأمراء وتقوية عزائمهم «وطلع إلى المَرْج الشَّيْخ زين الدِّين الفارقيّ والشيخ إِبْرَاهِيم الرّقّيّ والشيخ مُحَمَّد بْن قوام والشيخ شرف الدين ابن تيمية وابن جبارة وطائفة وحرّضوا الأفرم على الثَّبات وشكوا إليه ما نزل بالناس وما هم من الجلاء، فتألَّم لذلك ووعد بخير، ثُمَّ قصدوا الأمير (مُهنّا) وساقوا وراءه في البرّية مسيرة يومين عن البلد، فاجتمعوا به وقوّوا عزمه على الرجوع وملتقى العدوّ مع الأفرم، فأجابهم ونالهم فِي البرية خوْف وخرج عليهم حرامية العرب وشهروا عليهم السلاح وسلمهم الله، ثم قَدِمَ الأمير عز الدين الحموي بجماعته من صرخد»[23]. وانطلق شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية إلى مصر ليلتقي هناك بالسلطان، ووصلت رسالته إلى أهل الشام في آخر الشهر «بأنه دخل القاهرة في سبعة أيام واجتمع بأركان الدولة وحصل بتحريضه وترغيبه وترهيبه خير وتحركت همم الأمراء، واعتذروا ونودي في القاهرة بالغزاة، وقوي العزم، وأنه نزل بالقلعة، ثُمَّ وصل إلينا يوم السابع والعشرين من جُمَادَى الأولى، ثُمَّ خرج الناس من القلعة ووقعت الطمأنينة والحمد لله وبَطَّل الناس القنوت في ثالث جمادى الآخرة. ومشت الأحوال»[24]. «وقال لهم فيما قال: إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته أقمنا له سلطاناً يحوطه ويحميه، ويستغله في زمن الأمن. ولم يزل بهم حتى جردت العساكر إلى الشام ثم قال لهم: لو قدر أنكم لستم حكام الشام ولا ملوكه واستنصركم أهله وجب عليكم النصر، فكيف وأنتم حكامه وسلاطينه، وهم رعاياكم وأنتم مسؤولون عنهم. وقوى جأشهم، وضمن لهم النصر هذه الكرة، فخرجوا إلى الشام، فلما تواصلت العساكر إلى الشام فرح الناس فرحاً شديداً، بعد أن كانوا قد يئسوا من أنفسهم وأهليهم وأموالهم»[25].
وحين تحالف الأمراء وجمع من العامة والفقهاء على القتال وعدم الفرار «توجَّه الشيخ تقي الدين ابن تيمية إلى العسكر الواصل من حماة، فاجتمع بهم في القطيفة، فأعلمهم بما تحالف عليه الأمراء والناس من لقاء العدو، فأجابوا إلى ذلك، وحلفوا معهم، وكان الشيخ تقي الدين ابن تيمية يحلف للأمراء والناس: إنكم في هذه الكرَّة منصورون على التتار، فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله. فيقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً. وكان يتأول في ذلك أشياء من كتاب الله، منها قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إنَّ اللَّه لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج: 60]»[26].
من هذا السرد المقتضب لما قام به شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في تثبيت الناس والأمراء وتقويتهم على مواجهة الزحف التتري نتعرَّف على الدور الكبير الملقى على أهل العلم وطلبته في زمن المحن والصراعات والمواجهات؛ حيث تضطرب الآراء وتتزلزل القلوب وتتشتت الأفكار، ويهيمن الخوف والقلق والجزع، وربما استفاد اللصوص والمفسدون من هذه الأحوال في سرقة ما تبقى من سكينة المجتمع وطمأنينته.
سألخص ما قام به شيخ الإسلام فيما يلي:
التواصل مع الأمراء والقادة والعساكر: بغرض تقوية قلوبهم وعزائمهم على مواجهة التتار، كما فعل مع السلطان، ونائبه على دمشق (الأفرم)، ونائب القلعة (أرجواش)، كما كان يجتمع بالعساكر لهذا الأمر. وقد أمكنه الله من تحقيق هذا الهدف، واستطاع بتوفيق الله أن يشد من عزيمتهم.
التواصل الكثيف مع عموم الناس: بغرض تقوية قلوبهم وتثبيتهم لمواجهة التتار والبقاء في دمشق والاستعداد للجهاد، حيث ركز نشاطه العلمي حينها على تفسير آيات الجهاد وشرح أحاديثه، وبيان أحكامه، كما كان يمر على الجند والمكلفين بأعمال التحصين والاستعداد للجهاد فيحضهم ويبشرهم ويقوي قلوبهم.
البيان الشرعي التام لحقيقة الموقف من الزحف التتري بقيادة قازان:
حيث التبس الأمر على طلبة العلم وعلى عموم الناس، لأنَّ قازان يدعي الإسلام ويشهد بشهادة التوحيد، قال ابن كثير رحمه الله: «وقد تكلَّم الناس في كيفية قتال هؤلاء التتار: من أيِّ قبيلٍ هو؟ فإنهم كانوا يظهرون الإسلام، وليسوا بغاة على الإمام، فإنهم لم يكونوا في طاعته في وقتٍ ثم خالفوه! فقال الشيخ تقي الدين: هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على عليٍّ ومعاوية، ورأوا أنهم أحق بالأمر منهما، وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق من المسلمين، ويعيبون على المسلمين ما هم متلبسون به من المعاصي والظلم وهم متلبسون بما هو أعظم منه بأضعاف مضاعفة، فتفطن العلماء والناس لذلك، وكان يقول للناس: إذا رأيتموني من ذلك الجانب وعلى رأسي مصحف فاقتلوني. فتشجع الناس في قتال التتار وقويت قلوبهم ونياتهم، ولله الحمد»[27].
المشاركة العملية في الإعداد ومباشرة القتال:
إن مجتمعات المسلمين اليوم وهي تعيش أجواء الاحتراب والصراع والزحف العالمي لغزو البلاد وتدميرها وتقسيمها وتهجير أهلها، وأجواء التكتلات الأممية لرسم خرائط جديدة للعالم الإسلامي، أحوج ما تكون إلى وقفة شامخة من «الذين يظنون أنهم ملاقو الله» تعيد إلى المسلمين ثقتهم بأنفسهم واعتزازهم بدينهم وهويتهم واعتمادهم على ربهم، وتحرضهم على حسن التدبير، وتقوي فيهم عزيمة المواجهة وحب الشهادة والفرح بلقاء الله تعالى، وتغرس فيهم قيم الشهامة والشجاعة وخصال المروءة، ليكونوا جديرين بالدفاع عن بلادهم وحرماتهم، قادرين على مواجهة هذه الكروب والمحن.
مجتمعات المسلمين اليوم؛ وهي تتألم من طعنات المنافقين والمرتزقة الخونة من داخل صفوفها.. أحوج ما تكون إلى وقفة شامخة من «الذين يظنون أنهم ملاقو الله» تردُّ عنهم هذه الطعنات، وتوقف مشاريعهم، وتكشف حقيقتها وخطرها، وتبين الموقف الشرعي تجاهها. وكفى بربك هادياً ونصيراً.
بقلم/ فايز بن سعيد الزهراني.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] تفسير ابن كثير 4/25 وانظر تفسير البغوي 2/201.
[2] تفسير السعدي 2/609.
[3] تفسير الثعلبي 4/333.
[4] نظم الدرر 3/194.
[5] تفسير التحرير والتنوير 9/281.
[6] السيرة النبوية الصحيحة 2/423.
[7] انظر تفسير ابن كثير 1/672.
[8] تفسير ابن كثير 1/672.
[9] البحر المحيط 2/591.
[10] تاريخ الإسلام 14/675.
[11] تاريخ الإسلام 14/684.
[12] تاريخ الإسلام 14/678.
[13] تاريخ الإسلام 14/679.
[14] تاريخ الإسلام 15/702.
[15] الجوشن: لباس الحديد يوضع على الصدر.
[16] تاريخ الإسلام 15/704.
[17] البداية والنهاية 17/720.
[18] البداية والنهاية 17/727.
[19] البداية والنهاية 17/736.
[20] حيث قفل السطان عائداً إلى مصر.
[21] تاريخ الإسلام 15/718.
[22] تاريخ الإسلام 15/718.
[23] تاريخ الإسلام 15/719.
[24] تاريخ الإسلام 15/719.
[25] البداية والنهاية 17/738.
[26] البداية والنهاية 18/23.
[27] البداية والنهاية 18/23. وانظر كتاب: الحكم بغير شرع الله أحواله وأحكامه، د. عبد الرحمن المحمود 260-276، ففيه تفصيل للبيان الشرعي الذي قدمه شيخ الإسلام بخصوص الموقف من التتار ووجوب جهادهم.
- التصنيف:
- المصدر: