التدين والعلمانية في مصر: أصيل وأجنبي، بناء وهدم

منذ 2011-05-18

قضى الله أن لا يستقر الناس على حال، فقوم في ظلمة الضلال يرسل الله عليهم من نور الهداية، فيبصرون ويسعدون، وقوم ورثوا الهداية يتهاونون، فينحرفون وينغمسون في ظلام الضلالة ووحل المعصية..

 

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَن لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن أحبه واتبع هديه، وبعد:ـ
قضى الله أن لا يستقر الناس على حال، فقوم في ظلمة الضلال يرسل الله عليهم من نور الهداية، فيبصرون ويسعدون، وقوم ورثوا الهداية يتهاونون، فينحرفون وينغمسون في ظلام الضلالة ووحل المعصية. دولة تزول ودولة تقوم، حتى لا تكاد تجد على ظهرها شعباً بلا تاريخ، ولا تكاد تجد على ظهرها قوماً لم يكونوا يوماً في ذرا مجدٍ قاهرين.

هكذا الدنيا ، وهكذا حال الناس فيها أبداً، فنحن بين غالب يحافظ على مكتسباته، ومغلوب يدفع مضراته، والعبرة بمن صلح قلبه وسعيه، ولقي الله بقلب سليم وعمل سديد.


ومن يتأمل الأحداث يعمل أن الله هو المدبر على الحقيقة، وأنهم يجدون ويجتهدون ثم هم حيث يشاء ربهم لا حيث يشاءون، وليس لهم من الأمر شيء، وتلك تريح الجادين، وتوحي إليهم بأنَّ على كلٍ أن ينشغل بنفسه وينظر ماذا يُكتب في صحيفته.

وتبديل الحال لا يأتي بين يوم وليلة، وإنما تدور معركة تستهدف المفاهيم والتصورات، سلاحها الكلمة، وفرسانها النخبة من أهل العلم، تبدو هادئة لا يحس بها العوام، وطويلة تمتد لعقود من الزمان.وكلما حقق أهل الفكر (العقيدة) انتشاراً وانتصاراً، تغير الواقع شيئاً فشيئاً حتى يتغير واقع الناس، فالتغير لا يأتي بين يوم وليلة، وإنما أجيال، وشيء بعد شيء.


هل حقاً تفاجئ هؤلاء بالمتدينين؟!!
لا تكاد تقرأ صفحة من تاريخ مصر المعاصر إلا وتجد فيها ذكراً للمتدينين ، بل من قرنٍ أو يزيد وجميع الأحداث مربوطة بالدين والمتدينين في مصر، وخاصة في الفترة الأخيرة، ولك أن تتدبر الظلم السياسي في مصر: على مَن كان يقع أكثر؟!

على الإسلاميين. وأمارة ذلك في السجون السياسية، وأمارة ذلك في المناصب الحكومية.

فلم تمتلئ السجون السياسية بغير الإسلاميين، وحين فَتَحت الثورةُ سجون الظالمين لم يخرج منها غير الإسلاميين.


وتشهد الوظائف الحكومية، وتشهد محافل التعليم، فقد حرم غير قليل من هؤلاء المتدينين من حقهم الإنساني في التوظيف، والمشاركة في الانتخابات الطلابية،والنقابات العامة،بل ضيق عليهم في المحافظة على الصبغة الدينية (اللحية والنقاب).

وتشهد شوارع مصر التي ملئت بمخبري أمن الدولة تدور أعينهم على المتدينين يتحرشون بهم.

وتشهدُ الحالةُ الثقافية في مصر، إذ لم تُعرف "معركة فكرية" واحدة لم يكن الدين والمتدينين طرفاً فيها، ابتداءً من ظهور الصحوة في ستينيات القرن التاسع عشر، ومروراً بالحراك الوطني بعدها ـ وكان متديناً، أو ينتسب للدين في الجملة ـ، والخطاب الديني الوافد إلى مصر متمثلاً في مخرجات جمال الدين الإيراني والمتأثرين به كمحمد عبده وتلاميذه، ومخرجات المبتعثين والمتابعين للغرب من أمثال "طه حسين" و"علي عبد الرازق"، وعباس العقاد، بل كل ما كتب ابتداء من العقد الثالث حتى يومنا هذا، كان المتدينون طرفاً وغيرهم طرفاً آخر.


ويشهد سوق الكتب في مصر، وخاصة معرض القاهرة الدولي للكتاب فقد كان الكتاب الإسلامي الأكثر مبيعاً، ويليه ما يتعاطى الإسلاميين من كتب.
كل الأحداث في مصر كانت حول الدين أو المتدينين بشكلٍ أو بآخر، والمد الإسلامي يتزايد من وقت لآخر. فمن أي زاوية تنظر إليها تجدها حول الإسلام وأهله،فالأمر لم يأتِ بين يوم وليلة، ولا هو حدث عابر، والسؤال: لماذا استيقظ هؤلاء الآن ؟ ولم يتعجبون؟

تَعَجُّبُ هؤلاء من حضور الإسلاميين في الشارع المصري، وفي الإعلام المصري، وفي الحدث في مصر، أمارةٌ على أن الإعلام بيد من يجهل تاريخ "الصراع الفكري" الذي لا ينقطع، وأمارة على أن القوم بعيدون تماماً عن السياق العملي للأحداث الذي من خلاله نتعرف على ما يحدث وما يُتوقع في المستقبل القريب.

أو أنهم يعرفون ويخفون ليضلوا العامة، ويظهرون الإسلاميين وكأنهم حدث عابر أطلَّ على الساحة بين عشية وضحاها، وكأنهم انتهازيون جاهد غيرهم وجاءوا ليقطفوا الثمرة. وكي تتضح الحقائق يجمل أن نتساءل :


أينا الأصيل وأينا الأجنبي؟
كل ما تراه عينك الآن في مصر ـ بل وغالب الدول الإسلامية ـ لم يكن موجوداً قبل قرنٍ من الزمان تقريباً، كله مستورد جاء عبر البحر إلينا، على دبابات وتحت طائرات وخلف جنود الاحتلال.


كان الرجال (من الملوك إلى العامة) أصحاب لحى، وكانت النساء محجبات؛ وصور محمد علي باشا وأبنائه متداولة، بل توجد صور لرائدات الحركة النسوية في مصر ـ "سيزا نبرواي ـ زينب محمد مراد "و"هدى شعراوي" و"نبوية موسى"،و"صفية زغلول" ـ وهن يرتدين السواد، ، ومعلوم أن كشف الوجه بدأ قبل أقل من مئة عام فقط حين نزع سعد زغلول غطاء الوجه عن زوجته عام 1925م .

كانت النساء كاسيات .. وكانت العفة تملئ الشوارع والمصالح العامة ، وما نراه اليوم مستورد جاء من عند "الآخر".

بل : والهوية القُطرية ـ ما يسمى بالوطنية ـ أمر حادث كان يعاقب عليه قبل مئة عام،ومشهور محاكمة "علي الغاياتي"و"محمد فريد"و"عبد العزيز جاويش"بسبب ديوان "وطنيتي"، فلم يكن الناس في مصر يعرفون شيئاً عن "الوطنية" الموجودة اليوم؛ وكان مفهوم مصر أكبر مما هو موجود الآن عملياً ونظرياً، فكان حاكم مصر يسيطر شرقاً وغرباً وجنوباً على أكثر مما هو موجود الآن، ولم تكن تلك الحدود الجغرافية الموجودة الآن، كل ذلك مستورد. جاء بعد الاحتلال. وإني أرجو أن يكون في الثورة المصرية أمل في إعادتها سيرتها الأولى.

وكذا المؤسسات الدينية في مصر: تولَّى مشيخة الأزهر "محمود شلتوت"وكان من المطرودين (من عام 1931م ـ 1935م)، وتمكن التصوف في الأزهر وكان محارباً من مشايخ الأزهر قبل ذلك.


والقساوسة كانوا في الأديرة والكنائس ولا تراهم في الحياة العامة إلا مواطنين مصريين ، ولذا لم نكن نشعر بـ "مسلم" و "نصراني"، ثم خرجوا للحياة العامة بل وانتشروا في الدنيا كلها يحدثون الناس بمالم نسمعه منهم من قبل .. يقولون :مظلمون، وأصحاب "حق تاريخي"معتدى عليه، وأننا ضيوف!!. إنه وضع أجنبي ، غريب عنا.

وأهم من هذا كله: غير قليلٍ من القيادات العلمانية البارزة مربوطون بالخارج إلى يومك هذا، بل بعضهم يحمل جنسية أجنبية.!!


رفضٌ للعلمانية
والتدين ليس الأصل فقط بل إن التدين الموجود الآن في مصر خرج من رحم العلمانية، أو إفاقة من سكر العلمانية، أو شاهدٌ على فشل العلمانية في مصر،فعامة رموز العمل الدعوي الإسلامي ليسوا من المؤسسة الدينية الرسمية بل من خريجي محافل التعليم العلماني، وعلى سبيل المثال: فضيلة الشيخ الدكتور محمد عبد المقصود ( كيماء حيوي)، والشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم ( طبيب)، والشيخ فوزي السعيد (مهندس) ، والشيخ ياسر برهامي (طبيب)، والشيخ الدكتور سيد العربي ( مركز البحوث بوزارة الزراعة)،والشيخ أبو اسحق الحويني ( كلية ألسن) ، والشيخ محمد حسان ( كلية إعلام)، والشيخ مصطفى العدوي ( مهندس)، ...

وعلى مستوى الشباب نجد أن الدعوة تنتشر أكثر في الكليات التقنية، كالصيدلة والطب والهندسة والعلوم.


وإن رجعت للوراء قليلاً وتدبرت وجدت أن رموز الصحوة الإسلامية في مصر من المؤسسة العلمانية أيضاً: الأستاذ حسن البنا خريج جامعة الملك فؤاد الأول (كلية دار علوم)، وسيد قطب ومحمد قطب من نفس الجامعة، والدكتور محمد محمد حسين (جامعة الإسكندرية)، والشيخ محمود شاكر درس دراسة مدنية ثم التحق بكلية الآداب وجلس لطه حسين، وعامة جماهير الحركة الإسلامية يومها كانوا كذلك.

يعطي هذا قراءة واحدة هي أن هذه الصحوة الدينية في مصر شاهد عيان على رفض العلمانية من أبنائها، أو على أن الخطاب العلماني لم يفلح ، فقد تفلت منه الخاصة والعامة.


النخبة الإسلامية والنخبة العلمانية
نوعية الكوادر القائمة على العمل تحدد اتجاهه، وقوته في السير، ومن ثم مستقبله، وبقليل من النظر في رموز العلمانية في مصر تجد أن القوم في ورطة حقيقة، فقد خلت ساحتهم ممن ينوء بحمل مبادئهم، فلا "مُنظرين" لفكرهم، ولا نماذج عملية تقية حسنة السيرة تلتف حولها الجماهير.

وربما هذا هو السبب في خروجهم عن مبادئهم الأصلية، وتحركهم في اتجاهات مغلوطة تخالف مبادئ العلمانية التي يتشدقون بها، فنجدهم يَسْتَعْدُون السلطة العسكرية على التوجه الديني،فنلاحظ في الحراك العلماني الحالي أنه يستدعي الجيش لحماية مبادئهم هم وليس حماية الدستور الذي يوضع برأي الأغلبية كما هو مقرر في قواعدهم.

ونلاحظ أن العلمانيين يدخلون في تحالفات ـ صريحة أو ضمنية ـ مع بعض المؤسسات الدينية المناوئة للإسلاميين فقط للتصدي للإسلاميين، هذا وهم "لا دينيون "!!، بل أصبح من العسير أن نفرق بين كوادر النصارى وكوادر العلمانية في أكثر من حالة وموقف، فتجد سيد القمني يدعي العلمانية ويحاضر في الكنيسة ويتكئون على مخرجاته في عُدوانهم على الإسلام و"تبشيرهم" بالنصرانية، وتجد عامة الفاعلين في التوجه العلماني ضمن فعاليات إعلامية تمول من جهات نصرانية،بل يدخل العلمانيون في تحالفات مع كنسيين أو غير كنسيين ضد الإسلاميين.

تنظر لها من كل زاوية ولا تجد سوى قراءة واحدة: حالة من البغض والرفض التام للشريعة الإسلامية وأهلها. ولكنها ضعيفة هزيلة فقد قوتها، ولن ينفعها الاستقواء بغيرها.


وفي المقابل نجد أن العمل الإسلامي يبرز فيه عديد من الرمز، وموزعون على مصر بكاملها، فلا تجد محافظة في مصر إلا وأبرز أسماؤها دعاة إلى الله. والتميز ليس في العدد فقط، بل في النوعية أيضاً، فرموز العمل الإسلامي نبتت واشتدت في حكم ديكتاتوري، ومعروف أن "جيل التيه" جيل تأسيس وبناء.
وأخرى مليحة أبينها تحت العنوان التالي


شباب العمل الإسلامي
التغيرات المرحلية التي ظهرت على الجبهة الدينية في مصر كانت من الشباب، هم شاركوا من بداية الثورة، بعكس الشيوخ الذين تتابعوا بعد ذلك، ودليل ذلك في المنتديات الإسلامية التي رصدت الحدث من أول يوم، ودليل ذلك في الصور التي التقطت للأحداث في بدايتها، ودليل ذلك في تتبع قرار المشاركة السياسية، فقد برز بداية من الشباب ثم عرض على الشيوخ ووافقوا عليه، وتوقَّفَ دور الشيوخ فيه ـ تقريباً ـ على الموافقة، والفاعل الحقيقي هم جيل الوسط ومَن خلفهم.

وتتضح لك الرؤية حين تنظر من زاوية أخرى: في العشر سنوات الأخيرة كان التحدي الأكبر في الساحة المصرية هو هجمة التنصير، من الأقباط، وكانت ـ ولا زالت ـ شرسة أشد سوءاً من تلك التي اجتاحت مصر في الثلث الأول من القرن الماضي على يد الأوربيين، ولم يشارك "رمز"إسلامي في هذه الهجمة، وكان الحراك كله شبابي، وقد خلف هذا الحراك ظاهرة شبابية في العمل الدعوي الإسلامي في مصر، ظهرت في الفعاليات المضادة للتنصير، وبدأت من البالتوك ثم تسربت للمواقع الإلكترونية، فالكتاب المطبوع، ثم الحراك العملي في أحداث كامليا شحاته، وقد رصدت هذا الأمر قبل سنوات تحت عنوان "تطور خطير في مواجهة التنصير".

فقد أصبح عند المد الإسلامي عاملي قوة، الأول: شباب يصنعون الحدث، ولهم مبادرات وتجارب عملية، ويصلحون للمواجهة. وشيوخ يخاطبون الرأي العام، ولم يبق إلا أن ينتشر خطاب جاد بين الإسلاميين عن فقه الخلاف، ليسيروا في اتجاه واحدٍ نحو أهدافٍ محددة.

وهذا الأمر مفقود عند العلمانيين، فالظاهرة تشيخ وتتآكل، وتنحسر عن الداخل، والخارج الذي جاء بالعلمانية إلينا يحتضر.


إن كل ما تراه عينك الآن في الساحة العلمانية "أجنبي"، ليس من أهلنا، ولا نعرفه في تاريخنا، وإنما وافد جاءنا من "الأعداء". يشهد تاريخ مصر على أنها أمة نصر الله بها الدين. وإن حالة التدين التي تكسو الساحة المصرية الآن أمارة على فشل التجربة العلمانية الغربية.وأمارة على أننا نواجه هدماً في الجانب العلماني، وبناءً في الجانب الإسلامي.


محمد جلال القصاص
‏12‏/06‏/1432 هـ
‏15‏/05‏/2011 م

 
المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
  • 7
  • 1
  • 5,803
  • عبدالحميد

      منذ
    الحمد لله علي نعمة الاسلام و كفي بها نعمه

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً