التدبر ببعض الآيات في خلال رمضان ( المقال الأول )

منذ 2018-05-22

أن الله لم يزل ذا عفو عن عباده، مع قدرته على عقابهم على معصيتهم إياه. فاعفوا، أنتم أيضا، أيها الناس، عمن أتى إليكم ظلما، ولا تجهروا له بالسوء من القول..

بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسانٍ إلى يوم الدين أما بعد..

 

فمما لا شك فيه أننا بأمسِّ الحاجة إلى التدبُّر بآيات الله خصوصاً في هذا الشَّهر الفضيل فسأقول بتوفيق الله ما يفيض الله عليَّ من فتوحاته راجياً من الله العظيم أن أوفَّق وما لا فأتبرأ إلى الله من قولٍ على الله بلا علمٍ, كما أرجوا أن يستمدَّ منه بعض الدعاة ما ألقيت الضوء عليه من الآيات لينبِّهوا الغافلين والجاهلين , وأسأل الله أن ينفع بي وبالمسلمين ويوم العرض والحساب ويجعله لي ذخرا في  {يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم} إنه هو المولى والقادر على ذلك.. فقوله تعالى {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} [النساء: 148 ]

 

أقول: الجهر بالسوء إذا كان مكروهاً عند الله فكيف - بالله عليكم - ما يجهره الناس في هذا العصر بالصحافة من صحفٍ ومجلاتٍ   وإذاعاتٍ وفضائياتٍ وإنترنتٍ والتواصل الاجتماعي أخيراً

 

فإذا رخَّص الله بالجهر بالسوء للمظلوم وهي حالة استثنائية للتَّشفي والانتقام أو القصاص بالمعنى الأدق لأن ديننا دين الحرية لا يعرف الكبت والتضييق والحرج على الناس – فكيف بالكم بهذا الكم الهائل من الجهر بالسوء بالصحافة بجميع وسائلها بدون مسوِّغٍ؟!

 

سبحان الله, فكأن الناس لما يفعلون مثل هذا الأفاعيل ليس عليهم حساب ولا رقيب ولا عتيد ولا بعث ولا نشور ولا يوم الجزاء والعدالة

 

وليس المعنى أن الله سبحانه إذا منع الجهر بالسوء أنه يجوز الإسرار بالسوء للناس , وهذا المفهوم ليس بوارد أصلا , خصوصاً ونحن في شهر رمضان المبارك نُنبِّه إخواننا المسلمين أن ينتبهوا لأنفسهم فلا يجهروا بالسوء للناس كما لا يجوز  لهم أن يسروا بالسوء.

 

فالصوم من الطعام والشراب والشهوة ليس المقصود بذواتهم وإنما المقصود أن يتدرَّب المرء بالصبر في حبس النفس عن كل ما يوردها إلى المهالك والعطب, والعياذ بالله.

 

ولذلك ذكر الله سبحانه أن الحكمة من الصيام لعلنا نتَّقي, كما قال تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]                                           

 

وكما هو معلوم حرف (لعل) للترجِّي  أي يُترجَّى منكم أن تحصل لكم التقوى بسبب هذا الصوم وطاعتكم لربِّكم وهي الحكمة المقصودة المطلوبة إذ هذه الأمَّة ليست عنيدة كأمَّة بني إسرائيل,  ففد خاطب الله في القرآن الكريم بأمِّة بني إسرائيل مرَّتين فقط بقوله { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }  وكلا الموضعين كانت أمَّة بني إسرائيل فقد  ذكر الله أنه رفع عليهم الطور ويقال لهم أيضا في كلا الموضعين في القرآن الكريم خذوا ما آتيناكم بقوة كما قال تعالى {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[ البقرة: 63]                                         

 

والموضع الثاني في قوله تعالى {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأعراف: 171]  إذاً فالتَّقوى لابد أن تشمل جميع الإتيان بالطَّاعات والسَّبق إلى التَّطوعات والمستحبَّات مع ترك جميع الإتيان بالمعاصي والمحرَّمات والتقصير من المكروهات.                                          

 

أما إذا كان الشَّخص لا يتَّقي ربَّه سبحانه خصوصاً إذا كان جاهلاً  فسيأتي بلا شكٍ بمنكراتٍ وبمصائبٍ  كما سيجهر بمساوئٍ قد يذيعها بشتَّى الوسائل بدون مبالاة.

 

وقد منع الله الاشاعات والاذاعات خصوصاً في الأمور التي تمسُّ في الأمن أو الخوف أو  في مصير الأمة في سورة النساء كما قال سبحانه  {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 83]  

 

وقد أمر الله سبحانه أن يُردَّ إلى الرسول وإلى أولي الأمر , والرسول ليس حياً فيرد إذاً إلى أولي الأمر, وأولي الأمر هم العلماء والأمراء, بل العلماء هم الأمراء الحقيقيون لأن الأمراء يحتاجون إلى مشورات العلماء وعلومهم وتوجيهاتهم.

 

قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك                             .

 

فقرأته عامة قرأة الأمصار بضم"الظاء                                       "

 

وقرأه بعضهم: (إلا من ظلم)، بفتح "الظاء "                             

 

ثم اختلف الذين قرءوا ذلك بضم "الظاء" في تأويله                       .

 

فقال بعضهم: معنى ذلك: لا يحب الله تعالى ذكره أن يجهر أحدنا بالدعاء على أحد، وذلك عندهم هو" الجهر بالسوء إلا من ظلم"، يقول: إلا من ظلم فيدعو على ظالمه، فإن الله جل ثناؤه لا يكره له ذلك، لأنه قد رخَّص له في ذلك.

 

*ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم"، يقول: إن الله لا يحب الجهر بالسوء من أحد من الخلق، ولكن من ظلم فانتصر بمثل ما ظلم، فليس عليه جناح                                   .

 

فـ"من"، على هذه الأقوال التي ذكرناها، سوى قول ابن عباس، في موضع نصب على انقطاعه من الأول. والعرب من شأنها أن تنصب ما بعد"إلا" في الاستثناء المنقطع                                              .

 

فكان معنى الكلام على هذه الأقوال، سوى قول ابن عباس: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول، ولكن من ظلم فلا حرج عليه أن يخبر بما نيل منه، أو ينتصر ممن ظلمه. انتهى. أنظر تفسير الطبري جامع البيان ت شاكر (9/ 343- 348)                                                     .

 

وقوله تعالى {إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا }[النساء: 149 

 

فسَّر شيخ المفسِّرين هذه الآية بقوله:"قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه (3) "إن تبدوا" أيها الناس"خيرا"، يقول: إن تقولوا جميلا من القول لمن أحسن إليكم، فتظهروا ذلك شكرا منكم له على ما كان منه من حسن إليكم (4)،"أو تخفوه"، يقول: أو تتركوا إظهار ذلك"                  

 

قلت- الكاتب – ولكني أرى- والعلم عند الله - أن القول البليغ الجميل الذي يتمشى مع السِّياق هو أن يُحمل على من أساء إليك أي أن تبدوا له خيرا أو لا تبدون له هذا الخير بل تخفونه ولكن تعفون  وتصفحون عن السوء.

 

وقد كان هذا خلق النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يُقابل أحدا بسوءٍ بل يُبدي له خيراً ويبتسم ويعفوا ويصفح.

 

بل حثَّ الله بآيات كثيرة بالعفو والصفح وأن يُدرأ السيئة بالحسنة وجعل جزاء ذلك لمن صبر له الجنة وما أحسن الجزاء.

 

و لو قال الله سبحانه { إن تبدوا شراً أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا} لما اختل المعنى ولتمشي مع سياق الآية الأولى ولكن أبى ذلك جمال كلام الله سبحانه فأتى بالأجمل والكلام البليغ و الخلق الجميل المطلوب من العبد المؤمن وهو العفو لمن أساء إليه بالإحسان إليه وبإبدائه له بالخير وهو ما أشار الله في سياق الآية الكريمة وقد تفطن لذلك أبو جعفر رحمه الله في آخر كلامه فقال:

 

يقول: "قديرا"، يقول: ذا قدرة على الانتقام منهم. 

 

وإنما يعني بذلك: أن الله لم يزل ذا عفو عن عباده، مع قدرته على عقابهم على معصيتهم إياه. فاعفوا، أنتم أيضا، أيها الناس، عمن أتى إليكم ظلما، ولا تجهروا له بالسوء من القول، وإن قدرتم على الإساءة إليه، كما يعفو عنكم ربكم مع قدرته على عقابكم، وأنتم تعصونه وتخالفون أمره.

 

والله سبحانه وتعالى أعلم.

  • 2
  • 5
  • 8,584

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً