الخطر الليبرالي
تكوين الدولة في هذه المراحل الثلاث يقوم على تكاتف هذه المؤسسات ، واستقرار الدولة وأمنها مرهون بترابط هذه المؤسسات ..
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده لا شريك له ، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك له ،
وأشهد أن محمداً رسوله ، صلى الله وسلم عليه وعلى صحبه وآله ،
والتابعين له بإحسان . . أما بعد :
عن عمير بن زوذي أبي كبير قال : خطبنا علي يوماً ، فقام الخوارج
فقطعوا عليه كلامه ، قال : فنزل فدخل ودخلنا معه فقال : ألا إني إنما
أكلت يوم أكل الثور الأبيض ، ثم قال : مثلي مثل ثلاثة أثوار وأسد
اجتمعن في أجمة : أبيض وأحمر وأسود ، فكان إذا أراد شيئاً منهن اجتمعن
، فامتنعن منه فقال للأحمر والأسود ، إنه لا يفضحنا في أجمتنا هذه إلا
مكان هذا الأبيض ، فخليا بيني وبينه حتى آكله ، ثم أخلوا أنا وأنتما
في هذه الأجمة ، فلونكما على لوني ولوني على لونكما ، قال : ففعلا ،
قال : فوثب عليه فلم يلبث أن قتله ، قال : فكان إذا أراد أحدهما
اجتمعا ، فامتنعا منه ، وقال للأحمر : يا أحمر ، إنه لا يشهرنا في
أجمتنا هذه إلا مكان هذا الأسود ، فخل بيني وبينه حتى آكله ، ثم أخلو
أنا وأنت ، فلوني على لونك ولونك على لوني ، قال : فأمسك عنه فوثب
عليه فلم يلبث أن قتله ، ثم لبث ما شاء الله ثم قال للأحمر : يا أحمر
! إني آكلك ، قال : تأكلني ، قال : نعم ، قال : فدعني حتى أصوت ثلاثة
أصوات ، ثم شأنك بي قال : فقال : ألا إني إنما أكلت يوم أكل الثور
الأبيض ، قال : ثم قال علي : ألا وإني إنما وهبت يوم قتل عثمان " [
مصنف ابن أبي شيبة ] .
توحيد الجزيرة :
إن المتأمل في بلادنا المباركة في مراحلها الثلاث منذ اتفاق الدرعية
الشهير حينما التقى الإمامان محمد بن عبدالوهاب ومحمد بن سعود -
رحمهما الله - وتعاهدا فيه على نصرة دين الإسلام والجهاد في سبيل
الله، ونشر التوحيد في أرجاء هذه الجزيرة ، فانضوت القبائل تحت
رايتهما ، إلى أن تكونت الدولة السعودية الأولى ، ثم جاءت من بعدها
الدولة السعودية الثانية ، حتى عصرنا الحاضر الذي قيض الله - عز وجل -
فيه الملك عبد العزيز - رحمه الله - فأعاد بناء مجد أجداده فبايعه
العلماء وتكاتف معه زعماء القبائل واجتمعوا تحت راية جيوشه حتى تم
توحيد شتات الجزيرة تحت دولة واحدة عرفت فيما بعد بالمملكة العربية
السعودية .
مؤسسات الدولة :
إن المتأمل في الحكم خلال المراحل الثلاث السابقة ، يجد أنه يقوم على
ثلاثة مؤسسات تشكل أضلاع تكوين الدولة في هذه المراحل :
المؤسسة الأولى / الدينية : وهي المرجعية الشرعية المتمثلة في
العلماء الذين يضطلعون بمهمة نشر الدعوة وتوضيح شرع الله - عز وجل - ،
فالدولة تستمد شرعيتها من كتاب الله - عز وجل - وسنة - نبيه عليه
الصلاة والسلام - ومنهما تُستمد الأنظمة التشريعية .
المؤسسة الثانية / السياسية : وهي نظام الحكم الملكي الذي يقوم على
الأسرة المالكة ( آل سعود ) .
المؤسسة الثالثة / الاجتماعية : وهي مؤسسة ( القبيلة ) التي كانت تمد
الجيوش بالرجال والعتاد ، وتمنح المؤسسة الحاكمة التعاطف الاجتماعي
والولاء السياسي ، سواء كانت من البادية أو الحاضرة .
الأمن بالتلاحم :
تكوين الدولة في هذه المراحل الثلاث يقوم على تكاتف هذه المؤسسات ،
واستقرار الدولة وأمنها مرهون بترابط هذه المؤسسات .
الضعف الكلي :
إن ضعف إحدى هذه المؤسسات يترتب عليه ضعف البقية ومن ثََم ضعف الدولة
، وعندما تمر الدولة بأزمة من الأزمات ، فإنه يتجلى لنا دور هذا
الترابط في حلها ، ففي ظاهرة الإرهاب التي اجتاحت بلادنا الغالية ،
نجحت الدولة في القضاء عليها نجاحاً سريعاً أبهر الدول الأجنبية ،
وذلك يرجع إلى توفيق _ الله عز وجل _ ثم إلى تكاتف المؤسسة ( الدينية
) والمؤسسة ( القبيلة ) مع الحكومة .
فالمؤسسة الدينية جابهت أتباع هذه الفئة بسلطتها الدينية المؤثرة في
رأي المجتمع ، فقامت بتعرية فكرهم وضلالهم من خلال الشرع ، فمنعت (
التعاطف الديني ) للمجتمع مع هذه الفئة .
والمؤسسة ( القبيلة ) أيضاً هي الأخرى جابهت أفراد هذه الفئة الضالة
بسلطتها الاجتماعية المؤثرة في رأي المجتمع ، من خلال التبرؤ من
ممارساتهم ، ونبذهم اجتماعياً ، فمنعت ( التعاطف الاجتماعي ) للمجتمع
مع هذه الفئة الضالة .
والمؤسسة الحكومية ، سخرت الجهود والطاقات ، وعملت الخطط
الاستراتيجية ، وضربت بيد من حديد على أيدي أولئك العابثين ، وفي
مقابل ذلك عملت ورش العمل والبرامج الدعوية والتوعوية من خلال وسائل
الإعلام المختلفة ، لفضح مخططات تلك الفئة الضالة ، فمنعت أي تعاطف
سياسي معهم .
انبهار عالمي :
أشار إلى ذلك الانجاز الكبير السريع المستشرق الفرنسي ( جيل كيبل )
المتخصص في الجماعات الإسلامية في مقابلة معه في برنامج إضاءات بتاريخ
24/2/1429هـ ، إذ جعل من أهم أسباب القضاء على جماعات التكفير
والتفجير في السعودية في وقت سريع هو وقوف القبيلة ورجال الدين ضدهم
وتكاتفهم مع الدولة ، مما أمكن من محاصرتهم والقضاء عليهم بخلاف الدول
الأخرى .
الخطر الداهم :
والراصد لمراحل مشروع التيار الليبرالي في المجتمع السعودي يجد أنه
يبدأ بتقويض ( المؤسسة الدينية ) المتمثلة في المرجعية الشرعية لدستور
الدولة ، وفي الهيئات والأجهزة الحكومية التي تمثل هذه المؤسسة
ولاسيما هيئة كبار العلماء وجهاز القضاء وهيئة الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر ، إذ إن هذه المؤسسة الدينية بأجهزتها وهيئاتها تعد المؤسسة
الأولى الأقوى تأثيراً في تشكيل الوعي الجمعي وصياغة الرأي العام
للمجتمع السعودي المحافظ بطبيعته .
مراحل المخطط الليبرالي :
يخطط الليبراليون للإطاحة بقيم المجتمع ، وتقويض بنيانه ، وجعله
مجتمعاً متفككاً شهوانياً لا يعرف إلا اللذة والمتعة ، مجتمعاً لا
يعرف الدين إلا في المساجد ، ثم ما يلبث أن يترك دينه ، فيصبح مجتمعاً
علمانياً والعياذ بالله ، هذا ما تريده الليبرالية ، ومخططها هذا
ينقسم إلى مراحل :
المرحلة الأولى : ألا وهي تقويض المؤسسة ( الدينية ) ، فيحاول المخطط
الليبرالي جاهداً بكل ما أوتي من قوة ووسائل ، إلى تحجيم تأثيرها
الكبير في الرأي العام للمجتمع السعودي ، حيث يقف تأثير هذه المؤسسة
سداً منيعاً أمام ترويج أفكاره الفاسدة البائدة وأجندته الخارجية ،
لأنه يستمد تمويله من الخارج .
ولذا يستغل التيار الليبرالي بعض الظروف والمناسبات فيطلق حملته
الشعواء ، كما حصل بعد أحداث ( الحادي عشر ) ، حيث استغل تلك الأحداث
إعلاميا في هجمته الشرسة ضد هذه المؤسسة ، فقام باستخدام الأسلوب (
المكارثي ) في النيل من العلماء والدعاة ، فطفق يتهمهم بالتواطؤ
والتعاطف مع التكفيريين ونشر الأفكار التي تزرع بذور الإرهاب في
المجتمع ، وقام بتصوير الهيئات والأجهز الحكومية التي تمثل هذه
المؤسسة في صورة البيئة التي تهيئ الأجواء الملائمة له ، وأخذ يكرس
هذه الصورة في كثير من المواقف والمناسبات .. ولا تزال هذه الحملة
مستمرة كما حدث مؤخراً مع فتاوى بعض العلماء التي قام الإعلام
اللبيرالي بتشوييها وتحريفها وتفريغها من مضمونها ، والاستهزاء
بأصحابها ، حتى كبار العلماء لم يسلموا من سخريتهم واستهزائهم .
المرحلة الثانية : ألا وهي تقويض ( القبيلة ) بوصفها نظاماً
اجتماعياً وتكويناً طبيعياً في المجتمع البشري ، له قيمه الاجتماعية
والأخلاقية ، وسلطته الاجتماعية ، التي تؤثر بشكل كبير في سلوك
أفرادها ، وفي الرأي العام لمجتمعها ، مما يجعلها حجر عثرة أمام هذا
المشروع الليبرالي ، وهذه المرحلة قد بدأت بوادرها الأولى في حملة
التشويه التي تعرضت لها القبيلة في الفترة الماضية بعد ظهور مهرجانات
القبائل للإبل ، والتي تجاوزت نقد هذه المهرجانات ونقد ( التعصب
القبلي / القبائلية ) وما يتصل به من ممارسات سيئة _ يرفضها الجميع _
إلى النيل من القبيلة ذاتها ، وتشويهها وتهويل خطرها والدعوة إلى طمس
قيمها وملامحها ، وذلك لتحجيم تأثيرها ودورها في المجتمع .
إن الليبرالية لا تهمها ( القبائلية / العنصرية ) وجهها المظلم الذي
حاربه الإسلام قبل ظهور الليبرالية ، وإنما تهمها القبيلة بقيمها
الأخلاقية السامية ، وسلطتها الاجتماعية المؤثرة على أفرادها ، والتي
تعرقل المشروع الليبرالي في المجتمع ، فالقبيلة تميل إلى المحافظة
بطبيعتها ، وهي تتعارض مع الليبرالية ؛ لأنها تعزز الحرية الفردية
للشخص ، وهو ما يتعارض مع مبدأ القبيلة الذي يعزز مصلحة الجماعة على
حرية الفرد الشخصية ، حيث تقف سلطة القبيلة الاجتماعية في وجه الحرية
الشخصية للفرد ، عندما تفضي هذه الحرية إلى ممارسات تغرد خارج السرب
وتسيء إلى سمعة القبيلة بشكل عام .
صحيح أن بعض أصحاب التوجه الليبرالي ينتمون إلى قبائل ، لكنهم لا
يستطيعون أن يعلنوا أفكارههم الليبرالية ويمارسوها في مجتمعهم القبلي
بشكل علني ، لأنهم حينئذ سيصطدمون بالسلطة الاجتماعية للقبيلة التي قد
تكون أشد عليهم من سلطة الدين . كما اصطدم طرفة بن العبد عندما مارس
حريته الشخصية في الخلاعة وشرب الخمور فتعرض للمقاطعة والنبذ من قبل
سلطة القبيلة الاجتماعية .
وكما تعرض - أيضا - امرؤ القيس لمقاطعة هذه السلطة الاجتماعية
للقبيلة عندما نفاه أبوه حينما مارس حريته الشخصية في الخلاعة والمجون
التي أساءت لقبيلته فتعرض للمقاطعة والتبرؤ من هذه السلطة ، وكذلك
الحال لدى بعض الصعاليك في الجاهلية عندما خرجوا على مبادئ قبائلهم
الاجتماعية تعرضوا للمقاطعة والنفي من سلطة العشيرة الاجتماعية حتى
تبرأت قبائلهم منهم .
ولذا لو سألت أي شخص صحاب توجه ليبرالي ينتمي إلى قبيلة ولا يزال
يعيش في ( محيطها الاجتماعي ) ويمارس أفكاره الليبرالية ( بشكل علني )
عن أشد العقبات والعراقيل الاجتماعية التي وقفت أمام توجه الليبرالي ،
فإنه بلا شك سيجعل سلطة القبيلة الاجتماعية ، وكذلك سلطة الدين
الاجتماعية على رأس قائمة هذه العقبات ، وقد تكون سلطة القبيلة أشد
عليه من سلطة الدين الاجتماعية ، إلا أن يكون هذا الشخص يعيش خارج
سلطة القبيلة في مدينة أو دولة أخرى كما فعل بعض الصعاليك في العصر
الجاهلي .
ولهذا فإن ( القبيلة ) تأتي في المرحلة الثانية من أجندة المشروع
الليبرالي ، وقد يستخدم التيار الليبرالي في مرحلته الأولى والثانية
أسلوب الإيقاع بين المؤسسة ( الدينية ) و ( القبيلة ) في معارك فكرية
تحت قضايا : كـ( القبائلية / التعصب القبلي ) و ( المناطقية ) ، مما
يخلق انفصاما نكدا بين هاتين في المؤسستين ، الأمر الذي يؤدي إلى
إضعافهما في المجتمع ، وقد يستدعي التيار الليبرالي السلطة السياسية
من خلال استخدام الأسلوب ( المكارثي ) لتحجيم مناشط هاتين المؤسستين ،
وحينها تخلو المشاهد الاجتماعية والإعلامية للتيار الليبرالي .
المرحلة الثالثة : وهي إسقاط النظام الملكي للحكم ، وتحويل هذا
النظام إلى الملكية الدستورية التي هي من مبادئ الليبرالية ، والتي
تقتضيها الحرية الفردية ، وحرية الشعب في اختيار حكومته وانتخابها كما
في بريطانيا وغيرها من الدول ، وهي تخالف النظام الملكي الذي يحكم
الدولة بشكل مباشر كما في بلادنا ، وسبب تأجيل أصحاب التوجه الليبرالي
هذا المبدأ وجعله آخر أجندة مشروعهم ، أنهم رأوا أن تحقق هذا المبدأ
في الوقت الراهن ليس من صالحهم ، بل من صالح غيرهم ، كما حصل مؤخراً
في الانتخابات البلدية التي تصدرها كل من ينتمي إلى المؤسسة الدينية
أو القبيلة .
كما أن هذا المبدأ لا يمكن أن يتحقق إلا بعد أن يضعف هذا النظام ،
وذلك بعد أن يفقد الولاء السياسي بسبب ضعف المؤسستين ( الدينية ) و (
القبيلة ) اللتين كان يستمد منهما ( التعاطف الديني ) و ( التعاطف
الاجتماعي ) ، فتكون هناك حينئذ رغبة شعبية لتقبل مثل هذا المبدأ ،
وكأن لسان حال المؤسسة الحاكمة إذ ذاك يقول كما قال علي - رضي الله
عنه - : ( إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض ) .
وسائل إعلام هدامة :
إذا تيقنا من ذلك ، وهو يقين لا مراء فيه ، وحق لا جدال فيه ، لا
ينكره إلا معاند متجاهل ، أو كاذب متغافل ، أقول : إذا أدركنا ذلك
وعلمناه ، وعقلناه ، فعلى كل مسلم ومسلمة أخذ أهبة الاستعداد لمقاضاة
كل علماني وعلمانية ، وكل مستأجر ومستأجرة ، أتونا من خارج بلادنا ،
ليقدحوا في عقيدتنا ، ويحاربوننا في ديننا ، بل وفي عقر دارنا ، أولئك
المرتزقة ، الذين يأخذون رواتبهم من هنا وهناك ، والذين تسنموا ركاب
وسائل الإعلام ، فدسوا فيه السم في الدسم ، وأودعوها كل غث وسمين ،
حتى أصبحت وسائل إعلامنا تدمر ولا تعمر ، تقتل وتبيد ، وعن الحق تحيد
، أضحت وسائل إعلامنا تهدم وتعدم ، تجلب العار والدمار ، وتستأصل
الاستقرار .
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، والحمد لله رب العالمين ،
وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
كتبه
يحيى بن موسى الزهراني
إمام جامع البازعي بتبوك
- التصنيف: