عشر ثمار لمن لزم الاستغفار

منذ 2018-10-11

عن قتادة رحمه الله قال: إن القرآن يدلُّكم على دائكم ودوائكم، أما داؤكم، فذنوبكم، وأما دواؤكم، فالاستغفار

إذا شعرتَ بضيقٍ في صدرك، وتزاحَمَت على قلبك الهمومُ والأحزان، وضاقت عليك الدنيا، وسُدَّت في وجهك الأبواب - فاعلَمْ أنك بحاجةٍ لأَنْ تُكثِرَ مِن قول: (أستغفِرُ الله).

إن الاستغفار زادُ الأبرار، وشعار الأتقياء، ومَفزَع الصالحين، به تسعَدُ القلوب، وتنشَرِح الصدور، وتنجلي الهموم، وتُثقَل الموازين، وتُرفَع الدرجات، وتُحَط الخطيئات، وتُفرَّج الكُرُبات، وكم جلب الاستغفارُ لأهله من الخيرات، وكم صرف عنهم من البلايا والمُلِمَّات!

إن الاستغفار دواءٌ ناجع، وعلاجٌ نافع، يقشَعُ سُحُب الهموم، ويُزِيل غيم الغموم، فهو البَلْسَم الشافي، والدواء الكافي.

إن للاستغفار ثمارًا يانعة، وفوائدَ جَمَّة، وغنيمة باهظة، إن فيه خيرَي الدنيا والآخرة، إن فيه السعادةَ في الدنيا والفلاح في الآخرة، ومَن لزِم الاستغفار فلا بد أن يربح، فتعالَ نقف عند بعض ثمرات الاستغفار وفوائده:

1- الاستغفار يُنقِّي القلبَ ويُطهِّره:

إن الاستغفارَ يُنقِّي القلب مِن ظُلُمات المعاصي والذنوب؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن العبد إذا أخطأ خطيئةً نُكِتَت في قلبه نكتةٌ سوداء، فإذا هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه، وإن عاد زِيدَ فيها حتى تعلوَ قلبَه، وهو الران الذي ذكر الله: { {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} } [المطففين: 14][1].

قال العلماء: إن الذنوب تُسوِّد القلب، ولا يزال العبد كلما أذنب ذنبًا زادت الظُّلمة وعظم السواد في قلبه، فأما إذا بادر بعد الذنب بالتوبة والاستغفار، نقي قلبه وهذب ونظف.

عن قتادة رحمه الله قال: إن القرآن يدلُّكم على دائكم ودوائكم، أما داؤكم، فذنوبكم، وأما دواؤكم، فالاستغفار[2].

وذكروا عن بعض السلف أنه قيل له: كيف أنت في دينك؟ قال: أُمزِّقه بالمعاصي، وأَرْقَعُه بالاستغفار.

قال ابن القيم رحمه الله[3]: سألتُ شيخ الإسلام ابن تيمية، فقلتُ: يسأل بعض الناس: أيُّما أنفع للعبد التسبيح أو الاستغفار؟ فقال: إذا كان الثوبُ نقيًّا، فالبخور وماء الورد أنفعُ له، وإن كان دَنِسًا، فالصابون والماء أنفع له.

قال ابن القيم: مِن أعظم أسباب ضِيق الصدرِ الإعراضُ عن الله، والغفلةُ عن ذكره، ولا يزال الاستغفارُ الصادق بالقلب حتى يردَّه بالصحة والسلامة.

فانظر يا أخي، كيف نُسوِّد قلوبَنا بمعصية الله عز وجل، ثم لا نطهرها مِن هذا السواد، حتى صرنا لا نستمتعُ بعبادة، ولا نستلذُّ بطاعة!

إننا بحاجة إلى تهذيبِ قلوبنا وتنظيفها مِن وَسِخ الذنوب، وليس شيءٌ أنقى للقلب وأنظفُ مِن الاستغفار، فإذا تراكمَتِ الذنوبُ في القلب ولم يعقُبْها استغفارٌ، أظلم وطُبِع عليه.

هل رأيت إنسانًا يعيش في بيت لا ينظفه؟

هل رأيت إنسانًا لا يغتسل ولا يُنظِّفُ ثيابه؟

عن بكر المُزَني رحمه الله قال: إن أعمال بني آدم تُرفَع، فإذا رفعت صحيفةٌ فيها استغفار رُفِعَت بيضاء، وإذا رُفِعَت ليس فيها استغفارٌ رُفِعَت سوداءَ.

2- وعد الله مَن استغفره أن يغفر له سبحانه وتعالى:

قال الله تعالى: { {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} } [طه: 82].

وتأمَّل يا أخي، لقد أكد الكلام بإن، واللام، ثم خصَّ ذلك بذاته سبحانه، فقال: "وَإِنِّي"، ولم يقُل جلَّ شأنه: "وإني لغافر"، بل قال "غفَّار"، ليدلَّ على عظيمِ عفوِه، وواسع مغفرتِه.

وقال سبحانه: { {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} } [الإسراء: 25]، وقال سبحانه: { {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} {} } [النساء: 110]، وقال سبحانه: { {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64]، وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} } [النساء: 48].

فإذا مات المسلم الموحِّد ولم يشرك بالله شيئًا، فالله سبحانه قد يغفرُ الله كلَّ ذنوبه مهما عظُمَت، ومَن أشرك باللهِ سبحانه، وعبد معه غيرَه، ثم تاب إليه وأناب؛ فهو يغفِرُ له أيضًا.

وقال الله سبحانه: { {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} } [البقرة: 58].

وعن أبي ذَرٍّ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: (( «يا عبادي، إنِّي حرَّمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلتُه بينكم مُحرَّمًا، فلا تظالموا، يا عبادي، كلُّكم ضالٌّ إلا مَن هديتُه، فاستهدوني أَهْدِكُم، يا عبادي، كلُّكم جائعٌ إلا مَن أطعمتُه، فاستطعموني أُطعِمْكم، يا عبادي، كلُّكم عارٍ إلا مَن كسوتُه، فاستكسوني أَكْسُكم، يا عبادي، إنكم تُخطِئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أَغْفِرْ لكم» ))  [أخرجه مسلم] .

قال العلماء: وإنما قال سبحانه جميعًا ها هنا قبل أمره إيَّانا باستغفاره حتى لا يقنَطَ أحدٌ مِن رحمة الله لعظيم ذنب احتقره، ولا لشديد وِزْر قد ارتكبه، ما أرحمَه وألطفَه جلَّ شأنُه، خلقنا وهو يعلَمُ أننا سوف نذنب ليلًا ونهارًا، ثم فتح لنا أبواب مغفرتِه، ولم يُقنِّط عبادَه مِن رحمته.

وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربِّه عز وجل، قال: ((أذنب عبدٌ ذنبًا، فقال: اللهم اغفِرْ لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا، فعلِم أن له ربًّا يغفِرُ الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنَب، فقال: أي رب، اغفِرْ لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنبًا فعلم أن له ربًّا يغفِرُ الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب، اغفِرْ لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا فعلِم أن له ربًّا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، اعمَلْ ما شئت، فقد غفرتُ لك))[4].

وتأمَّل في كلامه جل شأنه، قال: ((فعلِم أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب)).

قال العلماء: قدَّم المغفرة على المؤاخذة؛ لكرمه سبحانه.

قالوا: "وقوله: ((اعمل ما شئت فقد غفرت لك))، لا يدل على إباحة المعاصي، ولا الاجتراء على الله بكثرة الذنوب، وإنما معناه: ما دمت تذنب ثم تتوب، غفرت لك.

وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (( «والذي نفسي بيده، لو لم تُذنِبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقومٍ يُذنِبون، فيستغفرون الله فيغفر لهم» ))[5].

وعن أبي سعيد رضي الله عنه، أن رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( «إن الشيطان قال: وعزَّتِك يا رب، لا أبرَحُ أُغوِي عبادك، ما دامَتْ أرواحُهم في أجسادِهم، فقال الرب تبارك وتعالى: وعزَّتي وجلالي، لا أزال أغفِرُ لهم، ما استغفروني» ))[6].

وعن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (( «مَن قال: أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، وأتوب إليه ثلاثًا، غُفِرَت له ذنوبُه، وإن كان فارًّا مِن الزحف» ))[7].

3- مَن لزم الاستغفار سرَّته صحيفتُه يوم القيامة:

هنيئًا لِمَن داوم على الاستغفار، فجاء يوم القيامة قد ذهبت سيئاتُه هباءً، وتضاعَفَتْ حسناتُه وعظُمَت، فعن عبدِالله بن بُسْر رضي الله عنه قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (( «طُوبَى لِمَن وَجَد في صحيفته استغفارًا كثيرًا» ))؛ أخرجه ابن ماجه بسند حسن.

وعن الزُّبَير بن العوَّام رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (( «مَن أحبَّ أن تَسُرَّه صحيفتُه، فليُكثِر فيها مِن الاستغفار» ))[8].

4- الاستغفار سبب للنجاة مِن عذاب النار:

عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( «يا معشرَ النساءِ، تصدَّقْنَ وأكثِرْنَ الاستغفار، فإني رأيتُكن أكثرَ أهل النار» ))[9].

وتأمَّل في هذا الخبر: «عن عائشة رضي الله عنها قلت: يا رسول الله، ابنُ جُدْعَانَ كان في الجاهلية يَصِلُ الرَّحم، ويُطعِم المسكين، فهل ذاك نافِعُه؟ قال: "لا ينفَعُه، إنه لم يَقُلْ يومًا: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين» ))[10].

وعن أبي العالية قال: "إني لأرجو ألَّا يَهلِك عبدٌ بين نعمتينِ؛ نعمة يحمَدُ الله عليها، وذنب يستغفِرُ اللهُ منه".

5- الاستغفار سببٌ لرحمة الله تعالى في الدنيا والآخرة:

قال صالح عليه السلام لقومِه: { {يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} } [النمل: 46]؛ فكثرة الاستغفار والتوبةُ مِن أسباب تنزُّل الرحمات الإلهية، والألطافِ الربانية، والفلاح في الدنيا والآخرة.

6- الاستغفار سبب لدخول الجنة:

قال الله سبحانه: { {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} } [آل عمران: 135، 136]؛ فالصالحون يخطئون، لكنهم يبادرون بالاستغفار والتوبة، فأعقَبَهم الله بكثرة استغفارهم جنات النعيم.

لقد كان الصالحون مِن كلِّ أمة على هذا الدرب، قال الله تعالى: { {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} } [آل عمران: 16، 17].

 ذكر ابنُ أبي الدنيا[11] عن عبدالعزيز بن عمر بن عبدالعزيز، قال: رأيتُ أبي في النوم بعد موته كأنه في حديقةٍ، فرفع إليَّ تفاحات، فأوَّلتهن بالولد, فقلت: أي الأعمال وجدت أفضل؟ قال: الاستغفار يا بُنَي.

7- الاستغفار سبب لرفعة الدرجات:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (( «إن الله عز وجل ليَرفَعُ الدرجةَ للعبد الصالح في الجنة، فيقول: يا رب، أنَّى لي هذه، فيقول: باستغفارِ ولدِك لك» ))[12].

فانظر كيف يرفع الاستغفارُ العبدَ المؤمن بعد موته؟ فإن كان أحدُ والديك قد تُوفِّي، فاستغفِرْ له كثيرًا، فإن هذا مِن أعظم ما ينفعه في قبره.

ولهذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يأمُرُ أصحابه أن يستغفِرُوا للميت؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: « نعى لنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم النجاشيَّ صاحبَ الحبشة يوم الذي مات فيه، فقال: ((استغفروا لأخيكم» ))[13].

وعن عثمانَ بنِ عفَّانَ، قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا فرَغ مِن دفن الميِّت وقف عليه، فقال: (( «استغفروا لأخِيكم، وسَلُوا له بالتثبيت، فإنه الآن يُسأَل» ))[14].

8- الاستغفار سببٌ لسَعَة الرزق، ونزول المطر، وكثرة المال:

قال الله تعالى: { {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} } [هود: 3].

قال العلماء: { {يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا } ?؛ أي: يُمتِّعْكم بالمنافع من سَعَة الرزق ورَغَد العيش، والعافية في الدنيا، ولا يستأصِلْكم بالعذاب كما فعَل بمَن أهلَك قبلكم ? إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ?، وهو وقت وفاتكم.

وقال نوح عليه السلام: { {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} } [نوح: 10 - 12].

قال مقاتلٌ رحمه الله[15]: لَمَّا كذَّبوا نوحًا زمانًا طويلًا، حبَس الله عنهم المطر، وأعقَمَ أرحام نسائهم أربعين سنةً، فهَلَكت مواشِيهم وزُرُوعُهم، فصاروا إلى نوحٍ عليه السلام واستغاثوا به، فقال: استغفروا ربكم إنه كان غفارًا...".

قال العلماء: رغَّبهم إن هُمُ استغفَروا ربَّهم أن يُكثِر رزقَهم، بأن ? يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ?؛ أي: مطرًا متتابعًا متواصلًا يتلو بعضه بعضًا، يروي الشِّعاب والوهاد، ويُحْيِي البلاد والعباد، ? وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ ?؛ أي: يُكثِرْ أموالَكم وأولادَكم التي تُدرِكون بها ما تطلبون من الدنيا، ? وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ ? فيها أنواعُ الثمار المختلفة ? وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ?، تَرْوُون بها زُرُوعَكم، ومنها تشربون.

 وعن الشَّعبي رحمه الله أن عمر بن الخطاب خرج يستسقي فصعِد المنبر، فقال: {ا {سْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} } [نوح: 10 - 12]، ثم نزل، فقالوا: يا أمير المؤمنين، لو استسقيتَ؟ فقال: لقد طلبتُه بمجاديحِ السماء التي يستنزل بها القَطْر، والمجدح: خشبةٌ في رأسها خشبتانِ معترضتان يُساطُ بها الشراب[16].

وقال هودٌ عليه السلام لقومه: { {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} } [هود: 52].

قال العلماء: أمَرَهم بالاستغفار الذي فيه تكفيرُ الذنوب السالفة، وبالتوبةِ عما يستقبِلُون من الأعمال السابقة، ومَن اتَّصَف بهذه الصفة يسَّر الله عليه رزقه، وسهَّل عليه أمره، وحفِظ عليه شأنه وقوَّته.

عن جعفر الصادق رحمه الله قال: إذا استبطأتَ الرزق فأكثِرْ مِن الاستغفار.

9- الاستغفار سبب لكثرة الولد:

قال نوحٌ عليه السلام: { {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} } [نوح: 10 - 12]؛ فالاستغفار سببٌ لنزول الغيث المِدْرَار، وحصولِ البركة في الأرزاق والثمار، وكثرة النسل والنَّماء، وكثرة النِّعَم في الفيافِي والقِفار.

ذكر القرطبي رحمه الله في تفسيرِه عن ابن صُبَيح قال: شكا رجلٌ إلى الحسن الجُدُوبةَ، فقال له: استغفِرِ الله، وشكا آخر إليه الفقر، فقال له: استغفِرِ الله، وقال له آخر: ادعُ الله أن يرزقني ولدًا، فقال له: استغفِرِ الله، وشكا إليه آخر جفافَ بستانه، فقال له: استغفِرِ الله، قال: فقلنا له في ذلك؟ فقال: ما قلتُ مِن عندي شيئًا، إن الله تعالى يقول: { {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} } [نوح: 10 - 12].

10- الاستغفار سبب للقوة:

قال هودٌ عليه السلام لقومه: { {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} } [هود: 52].

قال العلماء: كانوا مِن أقوى الناس، ولهذا قالوا: { {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} } [فصلت: 15]، فوعدهم أنهم إن آمنوا زادَهُم اللهُ قوةً إلى قوتِهم، قوةً في الجسم، وقوةً في النِّعَم، وقوةً بكثرة المال الولد، كلُّ هذا يدخل في معنى القوة، والله أعلم.

في الاستغفار: قوةُ الجسم، وصحةُ البدن، والسلامةُ مِن العاهات والآفات، والشفاءُ من الأمراض والأوصاب.

11- الاستغفار سببٌ لتفريج الهموم والكُرُبات:

عن ابن عباسٍ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (( «مَن لزِم الاستغفارَ جعَل اللهُ له مِن كلِّ ضيقٍ مخرجًا، ومِن كل همٍّ فرجًا، ورزقه مِن حيث لا يحتسب» ))[17].

فكم مِن رجلٍ لزِم الاستغفارَ ففرَّج اللهُ همَّه، وأزال كربَه، وأبدل أحزانَه أفراحًا، وضِيقَه سَعَةً، وعسرَه يُسرًا، وفقرَه غِنًى، وأقبلَتْ عليه المَسرَّات.

قال ابن عبدالهادي رحمه الله في "العقود الدرية": "سمِعتُ شيخ الإسلام في مبادئ أمرِه يقول: إنه ليقفُ خاطري في المسألة والشيءِ أو الحالة التي تُشكِل عليَّ؛ فأستغفِرُ الله تعالى ألفَ مرَّةً أو أكثر أو أقل، حتى ينشرح الصدر، وينحلَّ إشكال ما أُشكِل، قال: وأكون إذ ذاك في السوق، أو المسجد، أو الدرب، أو المدرسة، لا يمنعني ذلك مِن الذكر والاستغفار إلى أن أنال مطلوبي".

12- الاستغفار سبب لدفع العذاب في الدنيا:

قال الله تعالى: { {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} } [الأنفال: 33].

 

وعن فضالة بن عُبَيد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( «العبدُ آمنٌ مِن عذاب الله ما استغفَرَ اللهَ» ))[18].

 وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: «خسَفَتِ الشمسُ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فقام فَزِعًا يخشى أن تكونَ الساعةُ، حتى أتى المسجد، فقام يُصلِّي بأطولِ قيامٍ وركوع وسجود، ما رأيته يفعله في صلاة قط، ثم قال: ((إن هذه الآياتِ التي يُرسِلُ اللهُ لا تكون لموت أحدٍ ولا لحياته، ولكن الله يُرسِلُها يُخوِّف بها عباده، فإذا رأيتُم منها شيئًا، فافزَعوا إلى ذكرِه ودعائه واستغفاره» ))[19].

ويذكُرُ عن عليٍّ رضي الله عنه قال: العَجَبُ ممَّن يَهلِكُ ومعه النجاة، قيل: وما هي؟ قال: الاستغفار.

وكان رضي الله عنه يقول: ما أَلْهَم اللهُ سبحانه وتعالى عبدًا الاستغفارَ، وهو يريد أن يُعذِّبَه.

ففي الاستغفار: دفعُ الكوارث، والسلامةُ مِن الحوادث، والأمنُ مِن الفتن والمِحَن.

 13- الاستغفار سبب للنصر على الأعداء:

قال الله تعالى: { {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} } [آل عمران: 146 - 148].

ومما روي في ذلك أيضًا: عن حذيفة رضي الله عنه، قال: كنتُ ذَرِبَ اللِّسان على أهلي، قلت: يا رسول الله، قد خشيتُ أن يُدْخِلَني لساني النارَ، قال: (( «فأين أنت مِن الاستغفار؟ إني لأستغفِرُ اللهَ في اليوم مائةَ مرَّةٍ» ))[20].

[1] سنده حسن: أخرجه أحمد (2/ 297)، والترمذي (3334)، وابن ماجه (4244).

[2] خرَّجه البيهقي في "شعب الإيمان" (6745).

[3] "الوابل الصيب" (92).

[4] أخرجه البخاري (7507)، ومسلم (2758).

[5] أخرجه مسلم (2749).

[6] سنده حسن: أخرجه أحمد (3/ 29).

[7] أخرجه الحاكم (1/ 692) بسند حسن، لكنه روي موقوفًا، فالله أعلم.

[8] سنده حسن: أخرجه الطبراني في الأوسط (839).

[9] أخرجه مسلم (79).

[10] أخرجه مسلم (214).

[11] "المنامات" (26).

[12] سنده حسن: أخرجه أحمد (2/ 509).

[13] أخرجه البخاري (1327)، ومسلم (951).

[14] سنده صحيح: أخرجه أبو داود (3221).

[15] "تفسير القرطبي" (18/ 302).

[16] أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 474) بإسناد صحيح إلى الشعبي.

[17] أخرجه أحمد (1/ 248)، وأبو داود (1518)، وابن ماجه (3819)، بسند ضعيف، وصححه بعض العلماء، والأظهر ضعفه، والله أعلم.

[18] أخرجه أحمد (6/ 20) بسند ضعيف، لكن حسَّنه بعض العلماء بشواهده.

[19] أخرجه البخاري (1059)، ومسلم (912).

[20] أخرجه أحمد (5/ 394)، وابن ماجة (3817)، وبعضهم يصححه، والأكثرون على ضعفه.

 

أبو حاتم سعيد القاضي

طالب علم وباحث ماجستير في الشريعة الإسلامية دار العلوم - جامعة القاهرة

  • 177
  • 15
  • 726,068

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً