المرأة بين قيادة السيارة وقيادة البعير

منذ 2011-06-21

طرحٌ مكرر مملول يمسك بناصيته فئة من الصحفيين والإعلاميين يسلكون فيه مسلكين معا: تعمد المغالطة، وقد أحسنوا تطبيق مبدئهم المعهود: اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس، وتشويه المانعين وتبغيضهم في نفوس الناس..



بسم الله الرحمن الرحيم

يمارَس اليوم على المجتمع ضغط إعلامي مكثف يهدف إلى أن يستسيغ قيادة المرأة للسيارة، ويدع الممانعة.

طرحٌ مكرر مملول يمسك بناصيته فئة من الصحفيين والإعلاميين يسلكون فيه مسلكين معا: تعمد المغالطة، وقد أحسنوا تطبيق مبدئهم المعهود: اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس، وتشويه المانعين وتبغيضهم في نفوس الناس، ونبزهم بثقافة الممانعة، وثقافة الشك، وثقافة التخوف من كل جديد.

عبارات رنانة جوفاء، وإقناع عاطفي لا أكثر.

هذا الموضوع قد حسمه العلماء الراسخون منذ سنوات وأبانوا عن حكمه، وهم المرجع في هذه النوازل دون ريب { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83]، وأولو الأمر هنا: العلماء.

وأيم الله إنهم ليخافون على المرأة وليس منها.

ويدركون أن تمكينها من القيادة يعني أن حقًّا سُلب منها، وليس حقًّا أُخذ لها.
ولن أزيد في هذه الأسطر عن كشف شيء من المغالطات التي تطرح، قالوا: إن المرأة لم تُمنع في العهد النبوي من قيادة البعير، فلِم تمنعوها من قيادة السيارة، والصورتان متشابهتان؟

نعم، ربما قادت المرأة البعير، وكانت - في الوقت نفسه - « ترخي ذيلها شبرًا بل ذراعًا » [جامع الترمذي 1731]، فلم لا تذكرون الصورة كاملة؟


كانت المرأة تقود البعير حينما كانت النساء - إذ ذاك - « كَأنَّ عَلَى رُؤُوسِهِنَّ الغِرْبَانُ مِنَ الأكْسِيَةِ» [سنن أبي داود4101]، أيضًا لم تذكروا الصورة كاملة!

كانت المرأة تقود البعير والحال أنها كانت أحرص ما تكون مباعدة عن الرجال، حتى إن النساء «كُنَّ يَقُمْنَ بَعْدَ الصَّلاَةِ مُبَاشَرَةً إذا سَلَّمَ الإمَامُ قَبْلَ أنْ يُدْرِكَهُنَّ الرِّجَالُ » [سنن النسائي 1333]، فكيف ستُطبق هذه الصورة عند الإشارات ومواقف السيارات؟
كانت المرأة تقود البعير ولم يكن هناك من يمكن أن يحتك ببعيرها أو يصدمه أو "يسقط" عليه.
كانت المرأة تقود البعير وكان المجتمع طاهرًا، معافى من الشباب الطائش الذي لا هَمَّ له إلا معاكسة النساء وري ظمأهم منهن.

كانت المرأة تقود البعير ولم تكن فيه مظاهر سلبية محزنة، فلم تكن دور الرعاية والسجون تشكو من آلاف الهاربات من أسرهن والمتورطات في قضايا أخلاقية أو تعاطي مخدرات.
لم تكن تُعرف رائدات "الإرجيلة" اللاتي تزخر بهن المقاهي، ولم يصلْ عدد المدخنات في المجتمع إلى مليون ومائة ألف مدخنة.


كانت المرأة تقود البعير ولم ترتفعْ حينها أصوات تنادي - صراحة أو مواربة - باطراح الحجاب والمساواة بالرجل، والاضطلاع بما يضطلع به، كانت المرأة امرأة، والرجل رجلا.

كانت المرأة تقود البعير ولم يكن ثمة حوادث سير ولا إشارات مرورية ولا مواقف سيارات مكتظة ولا شوارع مزدحمة، ولا ورش صيانة ولا محلات زينة ولا نقاط تفتيش ولا رخص قيادة، لم يكن شيء من ذلك البتة يعرض الحرة المصونة إلى خلطة مقيتة بالرجال وسقوط حاجز الحياء بينها وبينهم، والله تعالى يقول: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } [الأحزاب:53]، كانت المرأة تقود البعير ولم تكن تضطر إلى الوقوف وسط الطريق أو على قارعته لتكون نهبًا لأعين الرجال، لعطل أو "بنشر" أو انتظار رجل أمن يفصل في حادث.

كانت المرأة تقود البعير ولم يكن ثمة أدنى خادش لحيائها ورقتها وأنوثتها.
كانت المرأة تقود البعير وخروجها منضبط، تعرف حدوده ودواعيه وأنه مرتبط بالحاجة (الحقيقية وليست المدعاة).


كانت تحقق قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } [الأحزاب:33].

كانت تستحضر جيدًا قوله عليه الصلاة والسلام: « المَرْأةُ عَوْرَةٌ فإذَا خَرَجَتْ، اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ » [جامع الترمذي1173]، وقوله: « مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ » [البخاري 5096، ومسلم 2740].

إنه قياس فاسد، أغفل قرائن الأحوال والظروف المحيطة، فأشبه القياس الآخر: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } [البقرة:275].

إن النظر المنصف سيقود إلى أن قيادة المرأة ستصطدم بالقاعدة الشرعية: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ }، وأجهل الناس بالعواقب يدرك أن فتح المجال للنساء أن يقدن يعني أنهن سيخرجن لكل صغيرة وكبيرة، ولحاجة ولغير حاجة، ودونكم شريحة كبيرة من الشباب الذين لا شغل لهم إلا أن يجوبوا الشوارع وإلى آخر الليل، فهل نتوق إلى رؤية فتياتنا في الوضع نفسه؟
بل إنني أزعم أن قيادة المرأة للسيارة ستثمر مشكلات متراكبة، بل تغييرًا للنمط الاجتماعي للبلد برمته، وهذا ما يرومه البعض وإن أنكروا.

إن ذلك يعني العلاقة الندية بين الرجل والمرأة، والإسلام جاء بعلاقة تكاملية بينهما، وليس التسوية والندية.

إنه يعني تملص الرجل من مسئولياته.

وأن تواجه المرأة أعباء الحياة وحدها، وقد كانت من قبل كالملكة التي يُحتفى بها، ورَجُلها سائق لها، شأنها شأن الملوك والكبراء.

إنه يعني أن تسقط كل الحواجز والستر بين الرجل المرأة، كما الحال في المجتمعات الأخرى،أي أنه سينفتح باب "لتطبيع" المنكر، وإن حاول المغالطون ستر الشمس بالغربال.
سنراها في كل دائرة، وتراجع كل معاملة، إذ ما الفرق حينها بينها وبين الرجل؟
سنشاهد تصدع أركان الأسرة ونشوء بذور الشك فيها.

سندرك حينها أن معدل الطلاق يزداد، فعند أدنى منافرة بين المرأة وزوجها لن يمنع كثيرًا منهن مانع أن يدرن المفتاح ويتركن البيت والزوج والأولاد خلفهن، سيطبقن ما يشاهدنه في المسلسلات.

لا تقولوا "ضوابط"، هذا الذر للرماد في العيون لم يعُدْ ينفع، أي ضوابط هذه التي ستطبق على مئات الآلاف - وربما أكثر- من النساء اللاتي يصعب التعامل معهن، والتحقق من توفر الضوابط فيهن؟


ولنكن صرحاء: كم نسبة الضوابط التي تقرر في قضية اجتماعية عملية كبرى ويتم تطبيقها بالفعل؟

إذن لا تستخفوا بعقولنا، ولا تختزلوا منهجكم في هذه القضية التي تزعمون فيها الشفقة على المرأة.

إنها سهامٌ تتوالى، ولم يعُدِ الأمر خفيًّا، إن طاولة البحث عندكم متسعة: قيادة المرأة، وجه امرأة، عورة المرأة، سفر المرأة، مساواتها بالرجل، اختلاطها به، إنه مشروع متكامل، ولسنا أغبياء، ومن مغالطات هؤلاء أنهم يصورون الصورة هزلية مضحكة، إنهم يتندرون بأن العلماء يحرمون أن تجلس على كرسي وتدير مفتاحًا وتمسك مقودًا وتضغط على دواسة، هكذا بكل سذاجة.
ارتقوا في طرحكم يا هؤلاء، فحينما منع العلماء قيادتها منعوها نظرًا للمفاسد المترتبة عليها، والنظر إلى المآلات وعواقب الأمور مسلكٌ شرعيٌ رشيد، وإن حاول الجهال تشويهه وإظهاره بوجه قبيح.

بل هو شأن العقلاء.

وأحزم الناس من لو مات من ظمأٍ لم يقرب الوِرد حتى يعلم الصَدَرا.


إن النظر في المباح الذي يكون ذريعة إلى الشر من حيث التقييد أو المنع أصلٌ أصيل في الشريعة، يقوم على عشرات الأدلة الصريحة.

وإن تمييز أصلح المصلحتين بحيث يقدم أعلاهما، وأفسد المفسدتين بحيث يرتكب أدناهما: خاصيةٌ لأهل العلم لا يشركهم فيها غيرهم.

ورضي الله عن الصديقة الفقيهة عائشة إذ قالت: « لَوْ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه و سلَّم رَأى مَا أحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ المَسْجِدَ» [البخاري 869 ومسلم 445]، فليت شعري ماذا ستقول لو أدركت زماننا، وجابت أسواقنا، وشاهدت فتياتنا؟

قالوا: قيادتها السيارة تعني درء مفسدة استقدام السائقين وما يجلبه ذلك من شرور.
مغالطة أخرى، فالبيوت تعج بالشباب، وبيد كل منهم مفتاح سيارة، ولم يستغن المجتمع عن السائقين، فهل سنستغني عنهم بقيادتها؟

وهل استغنت دول الخليج عنهم ونساؤهن يقدن؟

بل إنني أقول: إن عدد العمالة سيزداد بزيادة عدد الورش ومراكز الصيانة مع كثرة السيارات -بقيادتهن- والحوادث.

وما كنا نخشاه من السائقين على النساء سنضيف إليه خشيتنا - أيضا - من هؤلاء العاملين، والمرأة المسكينة تتجول في "الصناعية" وتقف بينهم، وهي تسأل وتفاوض وتشرح وتنتظر.
لا تقولوا سيتولى هذا بدلاً عنها محرمها، لأننا سنقول: أنتم تفرضون أن لا رجل لها، وعلى فرض وجوده فمن عجز عن إيصال زوجته لحاجتها سيكون أشد عجزًا في إصلاح عطل مكيف أو تغيير إطار أو انتظار في الوكالة لصيانة الدورية.

قالوا: حرمتم قيادتها غيرةً عليها، فأين غيرتكم وهي تخلو بالسائق ويخلو بها في هذه الحجرة الضيقة (السيارة)؟


مغالطة أخرى، ومن قال بجواز خلوتها بالسائق أصلا؟ فالعلماء منعوا من هذا وهذا، ثم إنه لا داعي للمشاغبة في قالب النصح والغيرة، فإنها لو قادت سنعاني مشكلتين لا مشكلة واحدة.

فهل سيضمن لنا دعاة القيادة أن لن تركب امرأة مع سائق البتة؟
قالوا: المرأة قد تضطر لإيصال ابنها إلى المستشفى في ساعة متأخرة من الليل، فأين الرحمة في قلوبكم؟

حسنا، لا رجل في البيت، ولا جيران حوله، ولا إسعاف يصل إليه، أين تعيش هذه المرأة وصبيها أيها "الرحماء"؟ أي تلاعب بالعقول هذا؟

وهل لديكم إحصائية بوفيات الأطفال نتيجة عدم قيادة المرأة للسيارة خلال عشرات السنين التي خلت؟

ثم: هل يجوز أن تكون الحالات الاستثنائية أصلا يُبنى عليه؟
بمعنى: هل سنقول بجواز أكل الميتة مطلقًا لأن الإنسان قد يكون في حالة نادرة لو لم يأكلها سيموت؟ هل يقول عاقل بهذا؟

أخيرًا أقول: إن سُلم أن في قيادة المرأة خيرًا وحلاًّ لمشكلات بعضهن، فإن مفسدتها لعموم المجتمع أكبر، ولا يكاد يخلو مظهر من مظاهر الشر من بعض خير في أعطافه، والعبرة بالغالب، والله تعالى أثبت منافع للخمر والميسر، لكنه قال: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } [البقرة:219].

وختاما، أستطيع أن ألخص الصراع على هذه القضية في مجتمعنا بأنه خلاف منهجي بين فريقين، فريق يريد أن يحافظ المجتمع على بقية من صفائه ونقائه ودفئه، ويضع نصب عينيه قوله تعالى: { وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } [الجاثية:18].

وفريق آخر يريد شيئا آخر، {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا } [النساء:27]، { وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } [يوسف:21].


كتبه: د. صالح بن عبد العزيز بن عثمان سندي

عضو هيئة التدريس بالجامعة الإسلامية بالمدينة.
 

المصدر: د. صالح بن عبد العزيز بن عثمان سندي
  • 3
  • 1
  • 5,421

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً