الاعتناء بالسيرة النبوية، والهدي النبوي: ركيزة للتصوّف الصحيح
قال ابن رجب في ترجمته له في (الذيل) (4/381) : (قَدِم دمشق، فرأى الشيخَ تقيَّ الدِّين ابنَ تيمية، وصاحَبَه، فدلَّه على مُطالعة السيرة النبوية، فأقبل على سيرة ابن إسحاق تهذيب ابن هشام، فلخَّصَها واختصَرها
الاعتناء بالسيرة النبوية، والهدي النبوي: ركيزة للتصوّف الصحيح
(قبسة من تجربة ابن شيخ الحزاميين)
ولد الشيخ عماد الدين، أحمد بن إبراهيم الواسطي، المعروف بابن شيخ الحزّاميّين؛ في قلب الطائفة الأحمدية، إذ كان والده شيخًا من شيوخها. كان التصوف في بلاد إيران والعراق في العصر المغولي الذي عاش فيه الشيخ عماد الدين قوةً ضاربة الجذور اجتماعيًّا وسياسيًّا. رأى الشيخ عماد الدين في نشأته ما وقعت فيه هذه الطائفة من فواقِر مناقضة لتوحيد الله تبارك وتعالى، ومخلّة بالأخلاق الإسلامية. يقول عن نفسه في الرسالة التي كتبها يشرح فيها إنقاذ الله تعالى له من الضلال (ص26): (ومن ألطاف الله تعالى بي أن خلق فيَّ غريزةً في حال الطفولة كنت أعلم بها أن هؤلاء ليسوا على شيء، وأن الحقّ وراء ما يدّعونه، وكنت أتشبّث برسالة القشيري وكتاب (القوت) و(الإحياء)، فأعلم باطلهم علمًا في القوّة، ولا سبيل إلى ظهوره في الفعل لأنّ الدولة لهم، فلا يمكن ظهور ذلك في الفعل أصلًا). انتقل الشيخ عماد الدين من العراق إلى مصر، ونزل في الاسكندرية، والتقى بجماعة من متصوّفتها هم أحسن حالًا من أولئك الذين نشأ بينهم، إلا أنه مما انتقده عليهم (ص35) أنَّه ( لا شعور لهم بالسنة، ولا الأيام النبوية، ولا السير الصحابيَّة، ولا الأخلاق الدينيَّة، ووجدتهم يعتقدون شيئًا من التجهُّم..).
أمّا هناك في دمشق، فقد كان تقيُّ الدّين ابن تيمية وصحبُه يسعون في تربية نفوسهم على الطريقة السُّنيَّة السالمة من البدع الاعتقادية والسلوكية المنتشرة في ذلك الزمان. يقول ابن تيمية: (وكُنَّا نجتمع مع إخواننا في الله، نطلبُ الحق، ونتَّبعُه ونكشفُ حقيقة الطريق). مجموع الفتاوى (2/465). وشاء الله أن يجتمع الشيخ عماد الدين بهم بعد سفره إلى دمشق. يقول في وصف هذه الصحبة الجديدة (ص45-46): ( فلم أزَلْ في هذا العوز حتى لطف الله تعالى بي، واجتمعت بطائفة بدمشق منّ الله بهم عليّ، فوجدتهم عارفين بأيام النبوة، والسير الصحابية، ومعاني التنزيل، وأصول العقائد المستخرجة من الكتاب والسنة، عارفين بأذواق السالكين وبداياتهم، وتفاصيل أحوالهم، يرونها من كمال الدين، لا يتم الدين إلا بها، ولا تشبه أنفاسهم أنفاس أهل العصر من فقهائهم وصوفيتهم، وما شبهت أنفاسهم إلا بأنفاس القرن الأول والثاني والثالث، في عصر الصحابة والتابعين وتابعيهم، وكأني – باجتماعي بهم ورؤيتهم – وجدت أبا بكر وعمر وعثمان وعليّ، ووجدت التابعين كسعيد بن المسيّب، والحسن البصريّ، والربيع بن خثيم، وثابت البناني، وأمثالهم. وكأني وجدت برؤيتهم مالكًا والشافعي والسفيانين والحمادين وابن المبارك وإسحاق وأحمد بن حنبل وأقرانهم ونظراءهم، فإني وجدتهم عارفين بحقائق العلم الذي أنزل من السماء على محمد صلى الله عليه وسلم، مسارعين إلى إقامة أوامر الله تعالى، كمسارعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، معظّمين للدين، مُهتمِّين بإقامته وإظهار شرائعه وشعائره، حَنِقِيْنَ على من هتك حدود الدين، أو انتقص شريعة من شرائعه، اعتقادًا أو عملًا، وليستْ أصولهم أصول المتكلّمين، بل أصول عقائدهم على الآيات والأخبار الصحيحة، وأمرّوا الصفات كما جاءت بلا تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه، وأثبتوا حقائقها لله كما يليق به من الاستواء أو النزول، وجميع الصفات، وظهر لهم - مع ذلك - معارف صحيحة، وأنوار ظاهرة من معرفة الله تعالى، ومعرفة صفاته القائمة بذاته؛ ذوقًا وحالًا، مع العلم والنظر، ووجدت آثارها في قلوبهم عند صلاتهم وأذكارهم ودعوتهم إلى الله تعالى).
كانت من النشاطات المشتركة بين ابن تيمية وبين الشيخ عماد الدين؛ دفعُ الخطر الاتِّحادي عن أهل التصوّف، ذلك الخطر الذي بزغ مع ظهور دول المغول، وصارت الكتابة فيه ضروةً، وفي ذلك يقول ابن تيمية في رسالته التي أرسلها للشيخ نصر الدين المنبجي سنة (704هـ): (وأما هؤلاء الاتحادية فقد أرسل إلى الداعي من طلب كشف حقيقة أمرهم، وقد كتبتُ في ذلك كتابًا رُبُّما يُرسَل إلى الشيخ، وقد كتب سيدُنا الشيخ عماد الدين في ذلك رسائل، والله تعالى يعلم، وكفى به عليمًا، لولا أني أرى دفع ضرر هؤلاء عن أهل طريق الله تعالى السَّالكين إليه من أعظم الواجبات - وهو شبيهٌ بدفع التتار عن المؤمنين - لم يكُن للمؤمنين بالله ورسوله حاجةٌ إلى أن تُكشَف أسرارُ الطريق وتُهتَكَ أستارُه). مجموع الفتاوى (2 /463-464).
الاعتناء بالسيرة النبوية، والهدي النبوي: ركيزة للتصوّف الصحيح:
كان الاعتناء بالسيرة النبوية من الأمور التي لاحظ الشيخ عماد الدين تميز جماعة ابن تيمية فيها عن تلك المدارس الصوفية التي اطلع على أحوالها، إضافة إلى ذلك كانت هناك وصية خاصة من ابن تيمية لعماد الدين بالسيرة النبوية. قال ابن رجب في ترجمته له في (الذيل) (4/381) : (قَدِم دمشق، فرأى الشيخَ تقيَّ الدِّين ابنَ تيمية، وصاحَبَه، فدلَّه على مُطالعة السيرة النبوية، فأقبل على سيرة ابن إسحاق تهذيب ابن هشام، فلخَّصَها واختصَرها) (1) .
يظهر هذا الاعتناء بالسيرة النبوية، وجعلها ركيزة في التصوّف الصحيح، تلك الرسائل التي كتبها الشيخ عماد الدين، والتي يقول ابن رجب في وصفها: (وهي من أنفعِ كُتُب الصوفيَّة للمُريدين، انتفع بها خلقٌ من مُتصوِّفة أهل الحديث ومتعبِّدِيها). (الذيل) (4 / 382).
يوصي الشيخ عماد الدين عموم المتصوفة بالاعتناء بكتب السيرة والسنة؛ وفي ذلك يقول في كتابه (مفتاح المعرفة والعبادة لأهل الطلب والإرادة) (ص51): (فأهم ما له من ذلك: الاعتناء بعلم الحديث، والسير النبوية، والأيام الصحابية، كالسيرة لابن إسحاق والواقدي وغيرهما، والصحاح الستة، والاعتناء بالمرور عليها، ويطالع المسانيد الكبار كمسند الإمام أحمد بن حنبل وعبد بن حميد وغيرهما، ويطالع كتب دلائل النبوة، كدلائل النبوة للبيهقي، ولأبي نعيم الأصفهاني، والقاضي عياض المغربي، وشرف المصطفى لابن الجوزي وغير ذلك، ومطالعة قصص الأنبياء كالمبتدي الذي للكسائي، أو غيره).
ويجعل الشيخ عماد الدين في كتابه (مدخل أهل الفقه واللِّسَان إلى ميدان المحبّة والعرفان) (ص49)، المعرفة بالسيرة النبوية وسيلة إلى توحيد الله تعالى ومحبّته، إذ إن رسوخ شأن النبوة في القلوب: (كرسيٌّ لعلم التوحيد)، يشرح ذلك بقولِه: ( فصلٌ في بيان مَنشَأ المعرفة والمحبَّة لله عز وجل، من أين تنشأ؟ ومن ماذا تنشأ؟
أصل المعرفة: الإيمان بالله عز وجل وبرسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما ينشأ الإيمان من معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم بمعرفة سيرته، وسنته، وغزواته، ومعجزاته، وآياته، وكراماته، فبذلك يعلم شأن النبوة، وتلوح أدلتها وبراهينها في القلوب.
ومتى علم شأن النبوة، ورسخت معالمها ودلائلها في القلوب: كانت كرسيًّا لعلم التوحيد، وطريقًا إلى معرفة الربّ العظيم المرسل الباعث، لأن النبوة آيات الله عز وجل وبيناته ودلالاته لمن اتسع فهمه وصفا من الكدر، وطلب استخراج ذلك منه.
وإنما حجب أكثر من حجب عن حقائق التوحيد، وإن كانوا عالمين بالسنة وتفاصيلها، لأنهم يطلبون من السنة معرفة الأحكام وهممم قاصرة عن طلب السنة لمعرفة حقائق الإيمان، ولو طلبوه – مع المشيئة – لأدركوه، فهمهم منصرفة إلى محبة الدنيا، ومناصبها، والرفعة فيها، قد سرحت قلوبهم في أكناف الدنيا، وانصرفت عن أكناف الآخرة، وحجبت عن شهود المعرفة وذوق المحبة، ولم يتجاوزوا صورة الشريعة وظواهر الأحكام إلى حقائق أسرارها ومدلولاتها من المعارف الإلهية، فلم يشرق في قلوبهم شيء من أنوار الصفات ولا معارف الأفعال).
ويقول (ص83): (الفصل الثالث : مطالعة سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكله، وشربه، ونومه، وأخلاقه، ومعاشرته لأزواجه ولأصحابه، وأذكاره عند الحوادث، وتهجده، وسواكه، وطهوره، ثم ليتشبه به مهما أمكنه من ذلك، بعد المرور على سيرته ومعجزاته وأيامه، فبذلك تقوم شواهد نبوته في قلبه، ومعرفة الرسالة بشواهدها كرسي ينبني عليه التوحيد، وبجميع ذلك يصح الاتباع، ويترتب على الاتباع محبة الله تعالى، قال عز من قائل: ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله).
ويشرح هذه الفائدة الأخرى للمطالعة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته في كتابه (مفتاح طريق الأولياء) (ص31): (وإذا أردت أن تدخل في زمرة خواصّ العلماء المربين، فعليك بطلب الحديث وسماعه وروايته احتسابا لله عز وجل، تكون نيَّتُك فيه أن تعرفَ دينَ ربِّك عز وجل، وسُنَّة نبيِّكَ صلى الله عليه وسلم، تكون بذلك عاملًا، وعلى أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم محافظًا.
ويكون لك ورد من الأدعية الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، تقرؤها كل يوم، وورد من الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم وأنت حاضر، كأنك تراه مع المحبة له والتعظيم لحرمته، فأرجو لك بذلك وصول بركة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قلبك، وأرجو لك بذلك أن ترزق محبَّتَه ومَحبَّة التَّأسِّي به؛ فذلك مِصباح كُلِّ خير إن شاء الله تعالى).
ويوصي الشيخ عماد الدين بالمحافظة على السنن النبوية والالتزام بالهدي النبوي، ترسيخًا لمحبة نبينا صلى الله عليه وسلم في القلوب، يقول في رسالته (مفتاح طريق المحبين وباب الأنس لرب العالمين) (ص116): (وأما محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهي أن يتخذه السالكُ نبيَّه، وأستاذَه، وشيخَه، ومؤدِّبَه، فيجمع همّه عليه دون كل شيخٍ ومؤدِّب وأستاذ، ويعكفَ على مطالعة سيرته واستماع سُنَّتِه، ويطالبَ نفسه بالاتّباع للرسول صلى الله عليه وسلم في جزئيات المتابعة وكلياتها، ولا يسامح نفسه أن يترك سنة من السنن، مثل السواك، والتهجد، والصفّ الأول، وميامين الصفوف، والقرب من الإمام، وحضور التكبيرة الأولى، والتهجير إلى المسجد، والتيمّن في اللباس والأفعال وغير ذلك، فبذلك يكمل الاتباع للرسول صلى الله عليه وسلم ويكمل الحبُّ له.
ومتى صحت محبة الرسول صلى الله عليه وسلم واتّباعه: يرجى للعبد أن يحبّه الله تعالى، كما قال تعالى : ( {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} ).
وفي هذا المعنى يقول أيضًا في رسالته (السر المصون والعلم المخزون) (ص46): (النوع الثاني من محبته صلى الله عليه وسلم – الذي هو بمثابة السنة التي بها تكميل الفريضة - : فهو حسن التأسي به، وتحقيق الاقتداء بسنته، والاعتناء بمعرفة سيرته، واهتزاز القلب عند ذكره وتصوره، وكثرة الصلاة عليه، لما سكن في القلب من محبته واقتفاء آثاره في عباداته وعاداته وأخلاقه وآدابه في تهجده وسواكه وطهوره وصلاته وطعامه وشرابه ولباسه ومعاشرته الأصحاب والأزواج ؛ من حسن حركاته وسكناته وتبسمه ومزاحه وسائر أحواله في علومه وأعماله).
توفي الشيخ عماد الدين رحمه الله تعالى في دمشق سنة (711هـ)، ودفن بسفح قاسيون، كان ابن تيمية حينئذٍ في مصر قد خرج من محنته، إلا أنَّه ما زال مقيمًا في مصر. رجع ابن تيمية بعد ذلك بسَنَة. وقد حُفظَت لنا رسالة كتبها الشيخ عماد الدين يوصِي بها كبارَ أصحابِ ابنِ تيمية به، ويثني فيها عليه وعلى مسلكه ثناء عاطرًا (2). عندما رجع ابن تيمية من مصر إلى دمشق سنة (712هـ) صاحَبَه شابٌّ من تلاميذ الشيخ عماد الدين، هو الشيخ شمس الدِّين ابنُ قيم الجوزية، ولم يزل ملازمًا له إلى أن مات. يظهر في مؤلفات ابن القيم ترسيخ تلك المعاني التي ذكرها شيخه عماد الدين، وقد كتب في هذا الشأن على جهة الخصوص - أعني كون الاعتناء بالسيرة النبوية، والهدي النبوي: ركيزة في التصوّف الصحيح - كتابَه ( زاد المعاد في هدي خير العباد).
__________
(1) ذكر أبو الفضل القونوي في تحقيقه لرسالة الواسطي التي سماها (رحلة الإمام ابن شيخ الحزاميين من التصوف المنحرف إلى تصوف أهل الحديث والأثر) أنه يعمل على تحقيق هذا المختصر.
(2) ذكرها ابن عبد الهادي في (العقود الدُّريَّة)، وهي مطبوعة مفردة أيضًا. واسمها ( التذكرة والاعتبار والانتصار للأبرار).
- التصنيف: