قطار الحياة

منذ 2019-01-23

كم مرة كذَبنا؟ وكم مرة نافَقنا؟ وكم مرة اغتَبْنا؟ كم مرة أصْمَمْنا آذاننا، وأغمضْنا أعينَنا، وأغلَقنا نوافذ قلوبنا عن كل الرسائل الربانية؟

كثيرًا ما نشرد فيما مضى؛ فتمرُّ أمامَنا الذكرياتُ بحلوِها ومُرِّها، بأفراحها وأتراحِها؛ ولكنها تمُرُّ كقطار سريع لا يريد التوقُّف إلا في محطة واحدة؛ محطة النهاية. 

ولكن مع كثرة سرعته هذه ظللْتُ أتطلَّعُ من نافذته، فرأيتُ كل شيء يمُرُّ بسرعة البرق، وأنا أشاهد وأتذكَّر، وكأن حياتي بدَتْ لي شاشة عرض تعرضُ فيلمًا وثائقيًّا، لا أستطيع التعديل فيه؛ فرأيتُ ذكريات مؤلمة وأخرى سعيدة.

ولكن ما لفَتْ نظري كثرةُ الذكريات المؤلمة؛ من أحزان، واستسلام لضربات الحياة وانكساراتها، من فقد أحباب كانوا لنا مشعلَ نُورٍ في ظُلُمات الحياة، ومع أن الفَقْد كان موجِعًا ومؤلِمًا، لكننا لم نتعلَّم شيئًا من فِقْدانهم ورحيلهم عنا، مرورًا بتذكُّر أدقِّ تفاصيل حياتنا المنسية.

وعندما نظرتُ وأمعنْتُ النظر من نافذتي، رأيتُ أن الدنيا ما هي إلَّا محطات كثيرة، ولكُلٍّ منا قطاره السريع المملوء بمحطات الذكريات، وسواء كان ما رأيتَه مُسعِدًا أم محزِنًا، سواء رضيتَ أم سخطتَ لا بد من النزول من القطار - حتى إن تعمَّدتَ الإسراع لكي لا تنزل - فلكل شيء نهاية، فنحن هنا عابرون، وسنرحَل بلا شكٍّ.

مَن منَّا لم يفقِد أو يَحزَن؟! مَن منا تقوقع داخل نفسه، ورسم دائرة من الأحزان، وأرغم نفسه على عدم الخروج منها؟! من منا لم يمكث ليله غارقًا في بئر أحزانه؟! مَن منا ضيَّع على نفسه فرحةً كانت مخبَّأة وسط ابتلاءات كثيرة؟! من منا كان متهاونًا في حساب نفسه، فتركها تتلذَّذ بالمعاصي، وعاش لياليَ وأيامًا غارقًا فيها؟!

كم مرة كذَبنا؟ وكم مرة نافَقنا؟ وكم مرة اغتَبْنا؟ كم مرة أصْمَمْنا آذاننا، وأغمضْنا أعينَنا، وأغلَقنا نوافذ قلوبنا عن كل الرسائل الربانية؟ كم مرة تركنا النور لنذهب للعيش في ظلمات الحياة؟

لم تتذكَّر كل هذا إلا بعد أن مضى قطار الحياة سريعًا، وظل الماضي ماضيًا؛ فلم تتعلَّم حتى من أخطائك فيه!

وحتى إنك لم تتذكَّرْه إلا بعد ركوب القطار، ولولا سرعته هذه لما شرَدت وتذكَّرت شيئًا!

والمؤسف أن قطار الحياة لا يستطيع العودة من جديد إلا بأشخاص جُدُد، فيظل القطار يمضي بنا ثم بهم، ولم ينجح في طرقات الحياة غير مَن فَهِمَ أنه هنا راحلٌ بلا شكٍّ؛ فما كان منه إلا أن يتأهَّب ويتزوَّد من كل محطات قطاره.

فهِم وتعلَّم أن الحياة ليست كلها أحزانًا، وتعلَّم من أخطائه، وجعلها عونًا له؛ ليجتاز كل ما يمرُّ به، فظلَّ مبتسمًا لكل محطة تمرُّ به.

وسرحت بعيدًا كيف سمحت للماضي أن يمرَّ فيما لا يفيد، وتركت نفسي تائهة هكذا؟ وتساءلت في دهشة! وتعجَّبت! بالأمس القريب كنا لا نعي للدنيا همًّا، فأخذتنا متاهات الحياة إلى أن كبرنا وقد نسينا فترة من حياتنا تكاد تكون أكثر من نصف عمرنا، وقد ضاعت وضاع معها الكثير، وازداد خوفي وانقباضة قلبي وارتعاشة جسدي، فتساءلت: ماذا لو أن القطار كان قد توقَّف عند الماضي، وأعلنت صافرته أنها نهاية رحلتي؟! وا حسرتاه وقتها!!

وحينها شعرت بوخزات تجتاح قلبي، ورأيتُ دموعي قد أعلنت الندم والحسرة؛ فقلت مواسية لنفسي: ما دام القطار يسير، فهناك أمل، وسأستغلُّ ما بقي بي من أيام، وسأُصحِّح مسار قطاري، وكلما شعرت منه أنه يسير في اعوجاج، فسأعمل على إصلاحه وإصلاحي، فلن أقبل بعد اليوم إلا نهاية مرضية لي، وسأتعلم ممَّا مضى، وممَّا رأيتُه من نافذة قطاري، وسأجعل محطاتي القادمة من أجمل ما مررْتُ به في دروب حياتي، سأزرع وُرودًا يفوح عطرُها من نافذة قطاري كلما أسرع، فإن توقَّفَ سيكون زادي كافيًا للرحيل.

بقلم/ فاطمة الأمير

  • 8
  • 1
  • 5,319
  • سمر والي

      منذ
    جميل حبيبتي سلمت يداكِ نفع الله بك وبقلمك

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً