الاصطلاح في العلوم
وثمَّة قاعدة مشتهرة متعلِّقة بالاصطلاح ألا وهي: (لا مُشَاحَّة في الاصطلاح)، ويقصد بها أنَّ الخلاف إذا كان واقعًا في الأمور الاصطلاحيَّة فإنَّه لا ينبني عليه حكمٌ.
من الأمور المسلَّم بها لدى المشتغلين بالعلوم الإسلاميَّة أنَّها نشأت نشأةً واقعيَّة؛ أي: استجابة للحاجة المعرفيَّة، ومرحليَّة؛ أي: إنَّها لم تَكتمل منذ نشأتها ولكنَّها مرَّت بأطوار ومراحل في التأليف والتدوين، إلى أن استقرَّت على شكلها الحالي لدينا الآن.
فنشأة العِلم سابقة في الوجود والتطبيق على كِتابته وتدوينِه؛ فالتدوين هو مَرحلة انتقال العلم من الطور الشَّفهي إلى طور المكتوب والمسطور.
فمثلاً أول من دوَّن وكتب في عِلم النَّحو أبو الأسود الدُّؤلي، وذلك حينما ظَهر اللحنُ بين الناس، فأمره أميرُ المؤمنين عليُّ بن أبي طالب أن يكتب شيئًا في قواعد اللغة، ثمَّ عرض الدؤليُّ ما كتبه على أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب فقال له: ما أحسن هذا النَّحو الذي نحوتَ، فمن ثمَّ سُمي النحو نحوًا[1]، وكانت العرب تستخدم هذه القواعد قطعًا قبل تدوينها.
لذا كان من الأمور المهمَّة في تكوين طالب العلم الآن: أن يدرس عن العلم قَبل أن يدرس في العلم، بعبارة أخرى: أن يقرأ عن العلم وأطوارِه ومصطلحاتِه قبل أن يقرأ في العلم، ويتعلَّم اصطلاح العلم قبل أن يشتغل به، فالاصطلاح هو لغة العلم.
والاصطلاح في اللغة: على وزن (افتِعال) من الصُّلح، وهو اتِّفاق القوم على وَضع الشيء؛ فهو مُطلق الاتفاق.
وعرَّفه الشريف الجرجاني بعدَّة تعريفات متقارِبة فقال: هو "عبارةٌ عن اتِّفاق قوم على تَسمية الشيء باسم ما ينقل عن موضعه الأول.
الاصطلاح: إخراج اللَّفظ من معنًى لغوي إلى آخر، لمناسبة بينهما.
وقيل: الاصطلاح: اتِّفاق طائفة على وَضع اللَّفظ بإزاء المعنى.
وقيل: الاصطلاح: إخراج الشَّيء عن معنًى لغوي إلى معنًى آخر؛ لبيان المراد.
وقيل: الاصطلاح: لفظٌ معيَّن بين قوم معيَّنين"[2].
فالصلاة - مثلاً - في اللُّغة: الدُّعاء، وفي الشريعة: عبارة عن أركانٍ مخصوصة، وأذكارٍ معلومة، بشرائط مَحصورة في أوقات مقدَّرة[3].
فإخراج لَفظ الصلاة عن معناه اللُّغوي إلى المعنى المتقدم لمناسبة بينهما؛ وهي أنَّ الصَّلاة دعاء، ومن ثمَّ صارَت لفظًا معيَّنًا بين قوم معيَّنين، وهم الفقهاء.
ويلزم من تَعيين القوم (العلماء المشتغلين بعلمٍ معيَّن) أنَّ المصطلح الواحد يَختلف من علمٍ إلى آخر.
مثال ذلك: مصطلح (الشَّيخان):
عند المحدِّثين: يَصطلحون على أنَّهما البخاري ومسلم.
وعند بعض كتَّاب السِّيَر والتراجم: هما أبو بكر وعمر.
وعند الفقهاء يختلف مصطلَح (الشيخان)؛ وفقًا للمذهب الفقهي!
فالأحناف: يَصطلحون على أنَّهما أبو حنيفة والقاضي أبو يوسف.
وعند المالكية: فهما ابن أبي زيد القيرواني، وأبو الحسن القابسي.
وعند الشافعية: الرافعي والنووي.
وعند الحنابلة: مجد الدين ابن تيميَّة جد شيخ الإسلام، صاحب كتاب (المحرر)، وابن قدامة المقدسي صاحب (المغني).
مثال آخر: الأئمَّة الأربعة:
عند الفقهاء: هم أئمَّة الفقه المشهورين: أبو حنيفة ومالك، والشافعي وأحمد.
وعند المحدثين: أصحاب السنن الأربع: أبو داود والترمذي، والنسائي وابن ماجة.
وثمَّة قاعدة مشتهرة متعلِّقة بالاصطلاح ألا وهي: (لا مُشَاحَّة في الاصطلاح)، ويقصد بها أنَّ الخلاف إذا كان واقعًا في الأمور الاصطلاحيَّة فإنَّه لا ينبني عليه حكمٌ.
قال الشيخ بكر أبو زيد: "وقاعدة الباب هنا ليست على عمومها، فلا مُشاحة في الاصطلاح ما لم يخالِف اللغةَ والشرع، وإلاَّ فالحَجر والمَنع، ولهذا قال ابن القيم في مدارج السالكين: "والاصطلاحات لا مشاحة فيها إذا لم تتضمَّن مفسدة"[4].
لذا وَضع العلماء شروطًا للمصطلَح وذلك بعد الاتِّفاق على معناه، وهي[5]:
1- وجود مناسبة مُعتَبَرة تَجمع بين الاصطلاح ومعناه.
2- ألَّا يكون في هذا الاصطلاح مخالَفةٌ للوضع اللغوي أو العرف العام.
3- ألا يكون في هذا الاصطلاح مخالفةٌ لشيء من أحكام الشريعة.
4- ألا يترتَّب على هذا الاصطلاح الوقوع في مفسدة الخَلط بين المصطلحات.
وأخيرًا:
يبقى أن نُشير إلى ضَرورة الوقوف على أَطوار المصطلَح وما استقرَّ عليه عملُ المتأخِّرين من العلماء؛ فمصطلح الحديث الحسَن - مثلاً - استعمله المحدِّثون المتقدمون بمعنًى أشمَل وأوسع مما استقرَّ عليه العلماء الآن بأنَّه (ما اتَّصل إسناده، ورواه عدلٌ خفيف الضبط عن مثله، من غير شذوذٍ ولا علَّة)، حتى قال الحافظ الذَّهبي: " ثمَّ لا تَطمَعْ بأنَّ للحسَن قاعدةً تندرجُ كلُّ الأحاديث الحِسان فيها، فأَنا على إياسٍ من ذلك!"[6].
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
الهوامش:
[1] انظر في تعريف ذلك: الحافظ الذهبي: سير أعلام النبلاء، ط مؤسسة الرسالة، 1405 هـ = 1985 م - جـ 4 - ص 82.
[2] الشريف الجرجاني: التعريفات - دار الكتب العلمية، بيروت - ط 1403هـ = 1983م - ص 28.
[3] المرجع السابق - ص 134.
[4] د. بكر بن عبد الله أبو زيد: فقه النوازل - مؤسسة الرسالة - ط 1416 هـ = 1996 م، جـ 1 - ص 123.
وفي هذا الكتاب دراسة نفيسة للشيخ بعنوان: (المواضعة في الاصطلاح على خلاف الشريعة وأفصح اللغة - دراسة ونقد)، ومنها كان النقل السابق.
[5] انظر في ذلك: د. محمد بن حسين الجيزاني - قاعدة: (لا مشاحة في الاصطلاح) - مجلة الأصول والنوازل - السنة الأولى - العدد الثاني - رجب 1430 هـ = يوليه 2009، ونُشرت هذه الدِّراسة على شبكة الألوكة الإلكترونيَّة، ومنها كان النقل السابق.
[6] الحافظ الذهبي: الموقظة في علم مصطلح الحديث - مكتبة المطبوعات الإسلامية بحلب - 1412هـ - ص 28.
- التصنيف: