الارتهان إلى عقل الشافعي..والفراغات الثلاثة: المقال الثالث.
«قصور الاجتهاد والعلم» و«الشعاراتية»: عيبان شائعان في الحديث عن التجديد في حالتنا المعاصرة.
بعث إليََ أحد الأصدقاء مقطعاً لأحد الأساتذة يتحدث فيه عن خطأ العقل المسلم المعاصر في الارتهان لعقل الشافعي، الذي كان خاضعاً لشروط عصره، ثم دعا إلى ضرورة استفزاز العقل لينهض من جديد فيحدث قولاً على قول، ويكون عقلاً حياً لا يبحث عن الإجابة من الأموات.
سألني صاحبي: ما الإشكال في مثل هذا النقد، وما الخلل في إثارة هذا التساؤل؟
هذا سؤال مشروع يا صاحبي، وهو معنى يتردد في أذهان بعض الشباب والفتيات، ولهم أن يعبروا عنه بوضوح، ومن حقهم أن يجدوا الجواب الشافي عنه.
دعني فقط أعيد لك صياغة الإشكال بطريقة واضحة تحدد لك محل السؤال بدقة، حتى ندرك جوهر الإشكال بعيداً عن التنميق اللفظي والإثارة العاطفية.
السؤال يقول:
كيف نرتهن لعقلٍ عاش في زمان مختلف عن زماننا، لم يدرك ما تغير بعد عصره، فلماذا لا نجتهد نحن كما اجتهد، ونبحث عن الحلول من دون الارتهان لهذا العقل؟
النقطة الأولى التي يجب أن أضغط عليها في بدء مناقشة هذا الإشكال، أنه من أقدم الإشكالات المثارة على الفكر الإسلامي، فهو اعتراض قديم ومشهور، وتكرر عرضه في حالتنا المعاصرة كثيراً، ونوقش كثيراً أيضاً، فشعور الشخص بحداثة مثل هذا الإشكال ناشئ من قصور اطلاع، ولا أقول هذا لأنتقص ممن يثير هذا الإشكال، وإنما هذا محفز لنا جميعاً أن لا تستفزنا الإشكالات القديمة المستهلكة حين تقدم في خطاب إنشائي براق.
هذا الإشكال أثير قديماً من الخطاب العلماني المعاصر، وكان يهدف أساساً إلى التشكيك في فهم النص الشرعي، فهم يقولون: هذا النص يفهم بناءً على أي طريقة؟ أنتم تريدون أن تخضعوننا لفهم أشخاص عاشوا وفق ظروف مختلفة عن زماننا، ولا يصح أن نحتكم إليهم في الفهم، وبناءً على ذلك يجب أن نبتكر قواعد جديدة للفهم موافقة لعصرنا، وبطبيعة الحال إن هذه القواعد ستكون قواعد موجهة تريد الوصول إلى نتائج محددة سلفاً، ولا تقوم على منهج علمي مستقيم، وإنما فتح النص لقبول كافة التفسيرات بلا منهج عقلاني ولا طريقة موضوعية.
من هنا نشأ هذا السؤال، وهذا من قبيل التوصيف العلمي للمقولات، وليس من قبيل الشتم أو التشويه لأي أحد، فهذا توصيف لحال هذه المقولة وكيف نشأت، ولا يعني أن كل من قالها يكون متبنياً للخطاب العلماني، ولا أن يوافقهم في الدافع والنتيجة، فهذه المقولة أخذت بعد ذلك تستعمل بمقاصد مختلفة.
حسناً، دعونا نحلل هذه المقولة ونفكك مقدماتها ونغوص في عمقها قليلاً، وسنجد أنها قد قامت على ثلاثة فراغات كبيرة تسببت في تبني هذه المقولة أو التأثر بها، إبراز هذه الفراغات كافٍ في تهاوي هذا الإشكال على رأسه:
الفراغ الأول: ما هو عقل الشافعي الذي نحن نرتهن إليه؟
قبل أن نتلقى هذا الإشكال يجب أن نسأل أصحابه هذا السؤال: عقل الشافعي الذي ترون أننا قد ارتهنا إليه، ما هو بالضبط؟
في الحقيقة إن هذا الإشكال يتحدث عن عقل الشافعي ولا يكاد ينطق بعد هذا بشيء حول المقصود بعقل الشافعي.
والخطاب العلماني عندما ينص هنا على الشافعي فهم في هذا على مسلكين:
المسلك الأول:
من يتحدثون عن عقل الشافعي، وهم لا يعرفون عن الشافعي أي شيء يستحق الذكر، فالشافعي في الحقيقة عندهم هو مجرد «اسم رمزي» لعدم الاعتداد بأي تفسير للنص، فلو استبدلت الشافعي بأي إمام آخر من الأئمة الأربعة، أو بأحد أعلام التابعين، أو بالمحققين بعد عصر الأئمة، أو بأحد فقهاء الصحابة، أو جمعتهم كلهم، فالنتيجة لن تتغير؛ فالقضية عند أصحاب هذا المسلك هي في ترك الرجوع لكل السابقين، وبناء عليه فهو يأتي بالشافعي اسماً لا يعبر عن أي إضافة حقيقية.
المسلك الثاني:
من يرى أن الشافعي قد أطّر العقل الفقهي وضيق حركة التفكير بوضعه لقواعد أصول الفقه، فيرى هنا أن الشافعي هو السبب لكونه هو الذي أنشأ هذه القواعد ثم تلقاها الناس من بعده.
وهؤلاء يظنون أن الشافعي - لأنه أول من دوّن كتاباً في أصول الفقه - هو من وضع قواعد التفكير لفهم النص، ثم سار الناس عليها بعد ذلك، وأما العصر الذي قبل الشافعي فقد كانوا يفكرون بشكل مختلف!
فأنت هنا بين مسلَكَي تفكير، مسلك لا يفقه عن الشافعي أي شيء يذكر وإنما يأتي به كنموذج يمكن أن تستبدله بأي اسم آخر، ومسلك يظن أن الشافعي هو من ابتكر قواعد الفهم فيجب بناءً على رأيهم أن لا نخضع لقواعد الشافعي.
وكما ترى، فهذه نقطة فراغ فاضحة، تكشف عن جهل كبير بالشافعي، وجهل كبير بقواعد الأصول من قبله ومن بعده.
والأعجب أن هذا جهل بقضايا بدهية يعرفها أدنى دارسِِ للتراث الفقهي، فالشافعي لم يبتكر قواعد فهم النص، وإنما كانت هذه القواعد مقررة عند الصحابة- رضي الله عنهم- وعند من بعدهم، جاء الشافعي فكتب فيها، وبعض ما كُتب هو من القضايا القطعية التي لا يختلف معه فيها أحد، وبعضها هي محل اجتهاد ونظر، فحصها العلماء من بعده، وناقشوها، وما يزال البحث فيها مستمرًا.
إذن، فعقل الشافعي يتعلق بالنظر في كيفية فهم الدليل الشرعي، وهو سائر في هذا على منهج من قبله، وسار من بعده على المنهج ذاته: الاجتهاد في البحث عن دلالة الكتاب والسنة، والنظر في كيفية الترجيح بين الدلائل، وكيفية دفع التعارض بينها، وثَمَّ مساحة اجتهادية واسعة بينهم في هذا المنهج؛ لأن المقصود هو الكشف عن مراد الشارع، وهو محتمل للخلاف في مساحة كبيرة منه.
الذي حصل: أن الخطاب العلماني ضاق ذرعًا بهذا المنهج لأنه يدور حول الدليل الشرعي، ويتضمن أصولاً وقطعيات محكمة، ولا ينسجم مع جملة من المفاهيم والتصورات الخاضعة لمرجعية الحداثة العلمانية المعاصرة، فجاء هذا الهجوم لإسقاط هذه الطريقة العلمية الموضوعية في النظر، لأجل استبدالها بمرجعية عبثية غير علمية.
قد يقول شخص:
لقد أبعدت كثيراً، نحن لا نتحدث عن أصول الاستدلال وقواعد الفهم للنص، فهذه محل اتفاق، وليس هذا مما يعاب عليه الشافعي ولا غيره، إنما الحديث عن المتغيرات التي تنشأ في عصرنا مما لم يعرفه الشافعي.
حسناً، هذا يكشف عن مساحة جديدة من الفراغ في معرفة عقل الشافعي.
ما الذي وجدته يا صاحبي في عقل الشافعي جعلك تشعر بالقلق من هذا العقل حين يفكر في متغيرات عصرنا؟
لعلك تتوهم أن فقه الشافعي وعقله سيقودك إلى تحريم الصناعات والمكتشفات مثلاً! أو أنه سيزهدك في العلوم الحديثة ويمنعك من الاستفادة منها، أو سيفرض عليك إهمال ما في عصرك من ضرورات وحاجات مختلفة، أو أن الشافعي لن يراعي واقع المسلمين وطبيعة علاقاتهم مع الدول الأخرى؟!
هذا الإشكال لا يمكن أن ينشأ إلا في عقل شخص بعيد جدًا عن فقه الشافعي وعقله، فهو يتوهم أن الشافعي لا يفقه المتغيرات، ولا يراعي الواقع، ولا يقدر أي شيء آخر، وإنما يضع أحكاماً كليةً، ومُتناً كاملاً ليحكم كل زمان ومكان بعقل منغلق لا يفكر في شيء آخر!
الواقع أن في فقه الشافعي ونظره واستدلاله ما يعين أي باحث معاصر على كيفية التعامل مع المتغيرات المعاصرة، فالحق أننا بحاجة ماسة إلى عقل كعقل هذا الإمام الكبير، حتى نقدم اجتهادًا قويًا يحافظ على أصول الشرع ويحقق مصالح الناس ويدفع الضرر عنهم، وتوهُم أن عقل الشافعي يعني عدم الالتفات إلى متغيرات الواقع ومستجداته ومعطياته هو فراغ كبير نشأ بسبب ظلمة الجهل بمن هو الشافعي.
مجالان في عقل الشافعي:
عندنا إذن مجالان في عقل الشافعي:
المجال الأول: ما يتعلق بفهم الدليل وأصول الاستدلال التي لا يختلف فيها الشافعي عن غيره، فهذا لا يتأثر بتغير الزمان والمكان، ولا بشروط تاريخية في عصره ولا بتغير في عصرنا، ما الذي سيتغير مثلاً في قاعدة قبول خبر حديث النبي صلى الله عليه وسلم ؟ أو أن الأصل في النهي التحريم؟ أو أن الخصوص مقدم على العموم؟ أو أن المحرم يستباح عند الضرورة، أو في شروط النسخ؟
هذه قضايا كلية متعلقة بفهم النص، ليست مرتبطة بظرف زماني ولا بمتغيرات عارضة، بل هي بحث عن كيفية فهم مراد الشارع فهماً صحيحاً، وقد يقع خلاف بين العلماء في البحث عن الأصْوَبِ في ذلك، والمجال يتسع للنظر والترجيح وفق الشروط الموضوعية، ولا علاقة لتغير الزمان والمكان بهذا كله.
المجال الثاني: ما يتعلق بالاجتهاد المبني على واقع معين، روعي فيه مصالح أو مفاسد معينة، أو ما كان من قبيل الاجتهاد في اختيار الحكم الشرعي الأرجح، فهنا لا أحد يقول بلزوم اتباع رأي الشافعي ولا رأي غيره فيها، بل ولا الشافعي نفسه يقول إن قولي فيها ملزمٌ لكل أحد في كل زمان ومكان، فلا معنى لإضاعة الجهد في التفكير بمثل هذا.
أعرف أنك ستقول يا صاحبي:
نحن لا نريد هذا كله، إنما نريد نقد الخطاب الفقهي المعاصر بوجود أوجه قصور فيه، وأنه يحتاج إلى تجديد الحياة فيه.
وما دام هذا مقصودك فما حاجتك إذن لأن تكرر تلك المقولات الحداثية ذات المضامين الباطلة، وأن تستند إليها في تبرير مثل هذه الحاجة إلى التجديد!
الفراغ الثاني: ما الموقف الفقهي من المتغيرات؟
هذا السؤال يعيش قلق التغيرات: نحن في زمان متغير، الحاجات مختلفة، الأيام متسارعة، ما يصلح للسنة الماضية ربما لا يصلح لهذه السنة، كيف تريدنا أن نحتكم لقرون ماضية.
هنا فراغ كبير جداً، يتصور صاحب هذا الإشكال أن الفقهاء السابقين ما كانوا يعرفون المتغيرات ولا يتعاملون معها ولم يقدموا فيها أي شيء، كأنهم مجرد أدوات وقوالب جاهزة تنقل الأحكام المحفوظة من الكتاب إلى الواقع من دون أي اعتبارات أخرى، فجاء صاحبنا يسائلهم بدهشة: لقد ظفرت لكم بأمر مهم جديد ومعنى مبتكرٍ ضروري: الدنيا متغيرة أيها الناس وأنتم لم تنتبهوا لذلك!
المتغيرات هي جزء أساسي في بنية التفكير الفقهي، لا وجود لفقيه تام الأهلية لا يحسن التعامل مع المتغيرات، والقضية ليست مجرد أدوات نظرية وأصول معرفية في التعامل مع المتغيرات، بل تعامل النظر الفقهي مع المتغيرات عملياً، ومر على كافة الظروف والمتغيرات، وحصلت تغيرات ضخمة من عصر الصحابة-رضي الله عنهم- ثم من بعدهم، وشملت التغيرات كافة الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها، وخاض الفقهاء في تفصيلات كثيرة، واختلفوا بسببها، وظهرت مدارس واتجاهات، فالنظر الفقهي تجاوز سؤال الوعي بوجود متغيرات، إلى البحث التفصيلي والغوص العميق في ذات المتغيرات نفسها، ومفصل أحكامها، وحدود ما يقبل منها وما لا يقبل.
دعونا نتحدث قليلاً عن مساحة من التفكير الفقهي في المتغيرات:
• النظر في الضرورات التي قد تصيب الأفراد والمجتمعات، وضبط مفهوم الضرورة، وتحديد شروطها، وما الحدود التي تشملها الضرورة، وما الآثار المترتبة عليها.
• يقارب الضرورة مفهوم الحاجة وهي متغير شديد لكنه أخف من الضرورة، وله عناية كبيرة في البحث الفقهي.
• من المتغيرات: تغير المصلحة التي بني عليها الحكم الشرعي، ولها مجال واسع من العناية.
• النظر في مآلات التطبيق: فلا يكفي مجرد أي تطبيق للحكم، بل لا بد من مراعاة المآلات، ولها حضور في أبواب سد الذرائع، والاستحسان، ومراعاة الخلاف، والحيل.
• ثم النظر في المصالح والمفاسد المتعارضة، وكيفية الموازنة بينهما، وغاص البحث الفقهي هنا في شعاب كثيرة في الأسس التي يبنى عليها دفع هذا التعارض، ووقع اختلاف وتباين بسببها.
• النظر في الأعراف، وآثارها، وما يعتد منها وما لا يعتد في الحكم الفقهي.
• النظر في حال الضعف والعجز الذي يصيب الأفراد والمجتمعات.
• مراعاة فقه الواقع، وضرورة التمكن من معرفة الحال قبل تنزيل الحكم الشرعي، فلا يكفي مجرد الحكم الشرعي إلا بعد مراعاة تحقق الأوصاف الشرعية في الواقع، وأن لا يكون ثم متغيرات جديدة مؤثرة في الواقع.
• النظر في النوازل الفقهية الجديدة وبحث حكمها.
وهكذا.. ستجد أنك أمام بحر متلاطم من البحث والتفكير والفحص في أصول المتغيرات، وآثارها، ومسائلها، تعاقبت عليه مدارس واتجاهات وأعلام خلال قرون طويلة، وتشكلت بسببه طرائق تفكير مختلفة، كلها تتقصد البحث عن كيفية تحقيق مراد الله ومراد رسوله -صلى الله عليه وسلم- في ظل هذا الواقع المتغير.
وفي أثناء ذلك يفحص النظر الفقهي المتغيرات نفسها، فليس كل متغير يكون معتبراً، فبعض المتغيرات هي انحرافات عن الشريعة، وبعضها لا يكون مؤثراً لأنه من قبيل الأوصاف التي لا تضر، وهكذا، فليس كل دعوى تغير تعني وجود تغير حقيقي، ولا وجود أي تغير حقيقي يعني أنه مؤثر، وكلها تفصيلات عميقة مشبعة في البحث الفقهي.
إذا عرفت هذا أدركت سخف السؤال عن وجود متغيرات، فهو شخص يتباهى أنه قد أدرك للتو وجود التغير وأهميته!
تخيل شخصاً يأتي للطب الحديث فيقول لهم: يجب أن نطور أدواتنا في علاج المرضى فلا نكتفي بالتشخيص المعتاد، بل يجب أن نتجاوز النظر الظاهري للأمراض إلى البحث بعمق في الداخل!
سيمد الطبيب حاجبيه، وربما لن يفهم مقصود الاعتراض جيداً، لأن الطب الحديث تجاوز الوعي بهذه المشكلة إلى مجالات بعيدة جداً عن تفكير هذا الناقد الظريف!
إذن، هذا السؤال يحمل فراغاً كبيراً في تصوره عن النظر الفقهي التراثي القديم، فهو يتوهمه مجرد معلومات محفوظة وقوالب جاهزة لا تراعي متغيرات، وبناءً عليه لا تصلح مع المتغير الموجود في زماننا!
ولهذا فالتغير الذي يتحدث عنه كثير من هؤلاء هو في الحقيقة في أمر ليس بمتغير من الأساس، فحين تدعه يسترسل قليلاً في خطابه الإنشائي ستجده يذكر من المتغيرات مسائل من قبيل تكفير اليهود والنصارى، وحرية التعبير عن الرأي ولو في الطعن في أصول الإسلام وقطعيات الشريعة، وفي تحريف جملة من الأحكام الشرعية المتفق عليها، وهكذا، فواقع الحال ليس تعاملاً مع متغيرات ولا تأثراً بعقل الشافعي، بل في الخضوع لمرجعية جديدة تريد أن تفرض تصوراتها المصادمة لقطعيات الشريعة على العقل المسلم بدعوى أن لا نحتكم إلى الشافعي في الأمور المتغيرة!
الفراغ الثالث: ما الموقف الفقهي المعاصر من المتغيرات المعاصرة؟
هذا السؤال يدعو إلى ضرورة تجديد الخطاب المعاصر، واستنهاض العقل المسلم المعاصر عن الارتهان لعقل الشافعي.
وهنا منطقة فراغ جديدة متعلقة بطبيعة الخطاب المعاصر الذي ندعو لتجديده، وضرورة فكه عن الارتهان للشافعي، بسبب أنه لم يفهم المتغيرات المعاصرة.
في الواقع: إن الخطاب المعاصر تجاوز الوعي بالمتغيرات في عصرنا، فلا حاجة لأن تعدد لهم المتغيرات ولا أن تتباهى بذكر ما تعرف من مستجدات، لأن الخطاب شرع من قديم في تقديم رؤى تفصيلية في هذا الواقع، ووقع ثَم تباينٌ كبيرٌ في تعاطيه مع هذا الواقع، وتشكلت مدارس، لا بأس أن تنتقد كل هذا، وأن تحدد أوجه القصور التي وقعت ، أما الحديث عن ضرورة التجديد بسبب وجود متغيرات فهو وقوف عند المربع الأول الذي لم يعد يقف عنده أحد.
ففي المجال الاقتصادي مثلاً: تجد أنك أمام حركة فقهية ضخمة في كيفية تقديم حلول فقهية تسد حاجة الناس إلى التمويل من دون الوقوع في الربا، ونشأ في أثر ذلك مصارف شهيرة، ولجان علمية متخصصة، وأقيمت مؤتمرات وندوات دولية، وأحدثت أقسام أكاديمية علمية، وما لا يحصى من الأبحاث والدراسات، ووقع بسبب ذلك خلاف وتشكلت مدارس، وحصل بسببه مسارات تفكير مختلفة، فالموضوع تجاوز بسنوات ضوئية مجرد الحديث عن أهمية تقديم خطاب يراعي متغيرات!
وقل مثل ذلك في الجانب السياسي، والإعلامي، والعلمي، وفي قضايا الأقليات المسلمة، وفي دراسة النوازل المعاصرة، وغيرها من مجالات البحث والتفكير الفقهي المعاصر.
هل يعني هذا عدم نقد هذه الجهود، وخلوها من أي أخطاء؟
أرجو أن القارئ سيتفق معي أن سياق كلامنا يرفض هذا، وأننا نقرر بوضوح مشروعية نقدها، وضرورة تقويمها، وأهمية تصحيح أي أغلاط ترتكب فيها، وهي بحاجة ماسة للمراجعة المستمرة.
إنما إذا أردتَ أن تقدم نقداً لأي خطاب فيجب أن تكون ملماً بواقعه، وأن تحدد بدقة محل النقد، وأما الاكتفاء بالحديث السائل العائم فهي طريقة كسولة، وتفكير ضعيف يحسنه كل أحد، وهو مبني على فراغ كبير في الذهن.
أستطيع بكل سهولة أن أقول: إن المتخصصين في علم النفس في العالم العربي والإسلامي لم يقدموا شيئاً يذكر، وأن كل المشاريع والكتب الموجودة هي مجرد ترجمات لما عند الغرب من دون أي إضافة حقيقية، وأننا بحاجة إلى تجديد في هذا الخطاب، ويمكن أن أكرر هذه الأسطوانة ذاتها مع علم الاجتماع، والاقتصاد، والسياسة، ويمكن أن أتمدد أيضاً إلى بقية العلوم بالطريقة نفسها، فهي طريقة كسولة رخيصة لا تكلف الشخص أي مجهود يذكر سوى اختيار الكلمات المناسبة وحسن رص العبارات، لكن كل من يحترم العلم ويقدر الموضوعية سيخجل من مثل هذه الإطلاقات، لا أن هذه العلوم سليمة من النقد، بل لأن شروط النقد تتطلب العلم بالواقع، وليس التمدد وفق فراغات كبيرة من ضعف الإدراك.
فالحديث المتكرر عن حاجتنا إلى التجديد، كلام سهل، لا يحمل أي قيمة علمية، ولا يتضمن أي شيء يستحق الاهتمام، الواجب هو تحديد محل الإشكال في الخطاب المعاصر بدقة، والسعي نحو تقديم الأفكار والأبحاث التجديدية، ثم دع القراء والمتخصصين بعد ذلك يحكمون على مستوى هذا التجديد، لا أن نسمع كلاماً عن تجديدٍ لا نرى منه شيئاً.
خلاصة الجواب:
أن هذه المقولة قامت على ثلاثة فراغات كبيرة:
• فراغ الجهل بطبيعة عقل الشافعي الذي لا يريدونه.
• فراغ الجهل بطبيعة النظر الفقهي في المتغيرات.
• فراغ الجهل بواقع الخطاب الشرعي المعاصر.
ومع استحكام هذه الفراغات لا يمكن للشخص أن يقدم أي خطاب تجديدي معتبر وله قيمة.
التجديد حاجة ملحة وضرورة مهمة لأي خطاب، والخطاب الفقهي المعاصر بحاجة مستمرة إلى التجديد والمراجعة والتقويم، غير أن وعي المسلم المعاصر بضرورة التجديد يجب أن لا يكون سبباً للغفلة عن مشكلتين معاصرتين تصاحب دعوات التجديد كثيراً:
مشكلة قصور الاجتهاد والعلم: حيث تقوم مشاريع التجديد بلا ضوابط علمية، ولا أصول منهجية صحيحة.
مشكلة الشعاراتية: يتحول فيها التجديد إلى حالة شعاراتية قائمة على كثرة الحديث عن التجديد، والدوران حول الحاجة إلى التجديد، وإدمان ذم الآخرين وانتقاص جهودهم، من دون أن نلمس أي مشاريع حقيقية تعبر عن هذا التجديد المنشود، ويزيد حالة الشعاراتية سوءاً في تكرار الدعوة عند بعضهم إلى التجديد من دون إبراز لضوابط التجديد، ولا بيان لحالات الانحراف المعاصرة فيه، أو ربما وافق بعض المنحرفين في دعواتهم إلى التجديد، والواقع أنه ليس كل دعوى تجديد هي تجديد في الحقيقة، بل كثير من دعوات التجديد المعاصرة هي انحرافات عن الشريعة، وعبث بأصولها باسم التجديد، فالسكوت عن البيان الجلي فيها خلل كبير.
فــ: «قصور الاجتهاد والعلم» و«الشعاراتية»: عيبان شائعان في الحديث عن التجديد في حالتنا المعاصرة، ووعي المسلم المعاصر يجب أن يكون عميقاً في إدراك هذه القضية، فالحاجة إلى التجديد لا تعني التساهل في قبول أي مشاريع تجديدية بلا أصول ولا منهجية علمية صحيحة، ولا أن يكتفى معها بالحديث عنه والدوران حول الحاجة إليه، لأن الحاجة إلى التجديد الفقهي المعاصر تتطلب من قوة العلم ورصانة البحث وعمق التفكير وسعة الاطلاع ما يتجاوز مجرد الوعي بالحاجة أو الحديث السهل عنها.
- التصنيف:
- المصدر: