حبهم إيمان وبغضهم نفاق
وسماهم أنصاراً؛ أخذاً من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ (72)} [سورة الأنفال] . فصار علماً بالغلبة, وهم وإن كانوا ألوفاً لكن استعمل فيهم جمع القلة؛ لأن اللام للعموم والتفرقة إنما هي في النكرات.
"الحمد لله الذي بعث نبيه محمداً -صلى الله عليه وسلم- في خير القرون, واختار له من الأصحاب أكمل الناس عقولاً، وأقومهم ديناً، وأغزرهم علماً، وأشجعهم قلوباً, قوماً جاهدوا في الله حق جهاده, فأقام بهم الدين وأظهرهم على جميع العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خاتم النبيين وإمام المتقين, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين, وسلم تسليماً, أما بعد"1:
"يقول الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [ (100) سورة التوبة] .
وقال -جل شأنه-: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)} [ سورة الفتح] .
فأصحاب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هم حملة رسالة الإسلام الأولون، وهم أنصار رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المنافحون عنه، المجاهدون في سبيل إعلاء كلمة الله، ونشر دعوته, هؤلاء الذين كانوا في يوم من الأيام لو أصابهم الهلاك لما عبد الله بعد ذلك, هؤلاء الذين كان رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- ينظر إليهم يوم بدر وهم يقاتلون المشركين، ويرفع رأسه إلى السماء قائلًا: ( «اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ» )2.
هؤلاء الذين ورد في فضائلهم من الآيات والسنن ما يضيق عن الحصر، ويتجاوز العد, هؤلاء الصحابة الذين آمنوا بالله ورسوله وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه, هؤلاء هم أفضل خلق الله بعد أنبياء الله، وهم أكرم خلق الله على الله بعد أنبيائه ورسله, هؤلاء الذين أكّد كتاب الله، وأكدت سنة رسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- صدقهم وعدالتهم وتقواهم والتزامهم التام بكتاب الله وسنة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولذلك فقد نوه بفضائلهم رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وحذر من أن تُجحد أو تنسى، وأوصى بهم كما أوصى بأهل بيته، وأمر -عليه الصلاة والسلام- بحبهم وتوقيرهم، والنظر إليهم نظرة إجلال وتقدير"3.
ومن هذا المنطلق نقف في درسنا هذا مع طائفة من هؤلاء القوم الصالحين الذين صرح النبي –عليه الصلاة والسلام- بأن حبهم إيمان وبغضهم نفاق, إنهم أنصاره الذين آووه ونصروه يوم هجرته إليهم, ومما ثبت في فضلهم حديث اتفق على صحته الشيخان –البخاري ومسلم رحمهما الله- فلنتأمل ونستفيد من هذا الحديث ولنجعله نصب أعيننا؛ لأن العمل به دين وإيمان.
ذلكم الحديث هو حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «(آيَةُ الْإِيمَانِ حُبُّ الْأَنْصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الْأَنْصَارِ» ).4
روايات الحديث:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: ( «آيَةُ الْإِيمَانِ حُبُّ الْأَنْصَارِ وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الْأَنْصَارِ), وفي رواية مسلم: (آيَةُ الْمُنَافِقِ بُغْضُ الْأَنْصَارِ وَآيَةُ الْمُؤْمِنِ حُبُّ الْأَنْصَارِ» )5, وفي الرواية الأخرى: ( «حُبُّ الْأَنْصَارِ آيَةُ الْإِيمَانِ وَبُغْضُهُمْ آيَةُ النِّفَاقِ» )6. وفي أخرى: ( «لَا يُحِبُّهُمْ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا يُبْغِضُهُمْ إِلَّا مُنَافِقٌ, فَمَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللَّهُ وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ اللَّهُ» )7. وفي الأخرى: ( «لَا يُبْغِضُ الْأَنْصَارَ رَجُلٌ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» )8.
شرح الحديث:
قوله: ( «آيَةُ الْإِيمَانِ حُبُّ الْأَنْصَارِ» ): الآية هي العلامة، ومعناه: أن من عرف مرتبة الأنصار وما كان منهم في نصرة دين الإسلام، والسعي في إظهاره وإيواء المسلمين وقيامهم في مهمات دين الإسلام حق القيام، وحبهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وحبه إياهم، وبذلهم أموالهم وأنفسهم بين يديه، وقتالهم ومعاداتهم سائر الناس إيثاراً للإسلام, ثم أحب الأنصار لهذا، كان ذلك من دلائل صحة إيمانه وصدقه في إسلامه؛ لسروره بظهور الإسلام والقيام بما يرضي الله سبحانه وتعالى، ورسوله -صلى الله عليه وسلم- ومن أبغضهم كان بضد ذلك، واستدل به على نفاقه وفساد سريرته, والله أعلم"9.
"إن من علامات كمال إيمان الإنسان -أو نفس إيمانه- حب مؤمني الأوس والخزرج؛ لحسن وفائهم بما عاهدوا الله عليه من إيواء نبيه ونصره على أعدائه زمن الضعف والعسرة, وحسن جواره ورسوخ صداقتهم وخلوص مودتهم, ولا يلزم منه ترجيحهم على المهاجرين الذين فارقوا أوطانهم وأهليهم وحرموا أموالهم حباً له وروماً لرضاه.
وسماهم أنصاراً؛ أخذاً من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ (72)} [سورة الأنفال] . فصار علماً بالغلبة, وهم وإن كانوا ألوفاً لكن استعمل فيهم جمع القلة؛ لأن اللام للعموم والتفرقة إنما هي في النكرات.
قوله: (وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الْأَنْصَارِ):
صرح به مع فهمه مما قبله؛ لاقتضاء المقام التأكيد, ولم يقابل الإيمان بالكفر الذي هو ضده؛ لأن الكلام فيمن ظاهره الإيمان وباطنه الكفر فميزه عن ذوي الإيمان الحقيقي, فلم يقل آية الكفر؛ لكونه غير كافرٍ ظاهراً.
وخص الأنصار بهذه المنقبة العظمى لما امتازوا به من الفضائل السالفة الذكر, فكان اختصاصهم بها مظنة الحسد الموجب للبغض, فوجب التحذير من بغضهم والترغيب في حبهم"10.
"ولهذا جاء التحذير من بغضهم والترغيب في حبهم حتى جعل ذلك آية الإيمان والنفاق؛ تنويهاً بعظيم فضلهم وتنبيهاً على كريم فعلهم، وإن كان من شاركهم في معنى ذلك مشاركاً لهم في الفضل المذكور كل بقسطه، وقد ثبت في صحيح مسلم عن علي –رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: ( «لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق» )11. والمراد حب جميعهم وبغض جميعهم؛ لأن ذلك إنما يكون للدين ومن أبغض بعضهم لمعنى يسوغ البغض له فليس داخلاً في ذلك.
وأما الحروب الواقعة بينهم فإن وقع من بعضهم بغض لبعض فذاك من غير هذه الجهة, بل للأمر الطارئ الذي اقتضى المخالفة, ولذلك لم يحكم بعضهم على بعض بالنفاق, وإنما كان حالهم في ذلك حال المجتهدين في الأحكام؛ للمصيب أجران وللمخطئ أجر واحد"12.
"إن محبة أولياء الله وأحبابه عموماً من الإيمان، وهي من أعلى مراتبه، وبغضهم محرم وهو من خصال النفاق؛ لأنه مما لا يتظاهر به غالباً، ومن تظاهر به فقد تظاهر بنفاقه فهو شر ممن كتمه وأخفاه.
ومن كان له مزية في الدين لصحبته النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أو لقرابته أو نصرته فله مزيد خصوصية في محبته وبغضه, ومن كان من أهل السوابق في الإسلام كالمهاجرين الأولين فهو أعظم حقاً مثل علي رضي الله عنه.
وقد روي أن المنافقين إنما كانوا يعرفون ببغض علي -رضي الله عنه- ومن هو أفضل من علي كأبي بكر وعمر –رضي الله عنهما- فهو أولى بذلك، ولذلك قيل: إن حبهما من فرائض الدين، وقيل: إنه يرجى على حبهما ما يرجى على التوحيد من الأجر"13.
خاتمـة:
إن من أعظم فضائل الأنصار ومناقبهم التي نوه بها -صلى الله عليه وسلم- أن جعل محبتهم محبة لله وبغضهم بغضاً لله, وناهيك بذلك جلالة لهم وشرفاً، فحبهم عنوان محبته وبغضهم عنوان بغضه، ومن ثم كان حب الأنصار من الإيمان وبغضهم من النفاق؛ لسابقتهم وبذلهم الأنفس والأموال في محبة الله ومحبة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ونصرته.
"وإنما يعرف فضائل الصحابة من تدبر سيرهم معه -صلى الله عليه وسلم- وآثارهم الحميدة في الإسلام في حياته وبعد مماته، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء وأكمله وأفضله، فقد جاهدوا في الله حق جهاده حتى نشروا الدين وأظهروا شرائع الإسلام، ولولا ذلك منهم ما وصل إلينا قرآن ولا سنة ولا أصل ولا فرع, ومن طعن في المهاجرين والأنصار فقد كاد أن يمرق من الملة؛ لأن الطعن فيهم يؤدي إلى انطماس نورها, والطعن في الوسائط طعن في الأصل، والإزراء بالناقل إزراء بالمنقول عنه، وهذا ظاهر لمن تدبره وقد سلمت عقيدته من النفاق والغلول والزندقة"14.
فالواجب على من أحب الله ورسوله حب من قام بما أمر الله ورسوله به وأوضحه وبلغه لمن بعده وأدى جميع حقوقه, والصحابة هم القائمون بأعباء ذلك كله.
ونسأل الله أن يرزقنا جميعاً العلم النافع والعمل الصالح, وأن ييسر لهذه الأمة ما يحفظ به دينها وينصر به أهل طاعته, ويذل به أهل معصيته إنه جواد كريم رؤوف رحيم, وصلى الله وسلم على نبينا محمد, وعلى آلـه وصحبه أجمعين, والحمد لله رب العالمين.
1 الضياء اللامع من الخطب الجوامع للشيخ (ابن عثيمين).
2 رواه مسلم برقم (3309) (ج9/ص214).
3 من كتاب خطب مختارة من اختيار وكالة شئون المطبوعات، بالسعودية.
4 رواه البخاري برقم (3500) ومسلم برقم (109)، وهذا لفظ البخاري.
5 صحيح مسلم برقم (108).
6 صحيح مسلم برقم (109).
7 صحيح البخاري برقم (3499) ومسلم برقم (110).
8 صحيح مسلم برقم (111).
9 شرح النووي على مسلم (ج1 / ص 169).
10فيض القدير لـ(المناوي (ج 1 / ص 82-83) بتصرف يسير.
11سبق تخريجه آنفاً من حديث علي رضي الله عنه.
12 فتح الباري لابن حجر (ج 1 / ص 27) تحفة الأحوذي (ج 9 / ص 345) بتصرف.
13 فتح الباري لابن رجب - (ج 1 / ص 31).
14 من كتاب الزواجر عن اقتراف الكبائر (ج 3 / ص332-333).
- التصنيف:
- المصدر: