ومضات تربوية وسلوكية: السادس والعشرون
الناظر في مدونة كبار العلماء والمصنفين من السلف يجد حظاً كبيراً من تصانيفهم تنحو إلى نجاء الطالب من أتون الخلاف الجدلي، وشَرَك السفسطة، إلى وادٍ سهل، كثيرة رياضُه ومرابعُه؛ ليطَّلع الطالب على زبدة الفكر دون تشقيق وتفاريع لا تفيد
ومضات تربوية وسلوكية (26)
تذخر بطون الكتب بالعديد من الأفكار الذهبية والعبارات المحورية الجديرة برصدها وتدوينها للوقوف على كنوز مفكرينا وكُتابنا العظام، وللانتفاع بالفائدة المرجوة منها، ولذلك حرصت خلال جولتي بين دفوف الكتب أن أرصد هذه الثروات الفكرية والتربوية والتحليلية، وأنقلها بنصها كما وردت فيها أو باختصار طفيف في بعض الأحيان، هذا كي يستفيد منها القاسي والداني، سائلا المولى عز وجل أن ينفع بها الكبير والصغير، وأن يكتب لكاتبها وجامعها وقارئها الأجر والمثوبة إنه نعم المولى ونعم النصير.
(تصانيفُ العلماء ومراجل الخلاف)
الناظر في مدونة كبار العلماء والمصنفين من السلف يجد حظاً كبيراً من تصانيفهم تنحو إلى نجاء الطالب من أتون الخلاف الجدلي، وشَرَك السفسطة، إلى وادٍ سهل، كثيرة رياضُه ومرابعُه؛ ليطَّلع الطالب على زبدة الفكر دون تشقيق وتفاريع لا تفيد في ملكة الفن ومهاراته، وليسوا كما ترى في بعض المتأخرين ممن يطيل التفريع بغية إقناع المطلع بآلة الكاتب لا رجاحة المكتوب، وبصفاء أفكاره وأطروحاته لا بصفوة العلوم.
فكان ديدنهم هو حماية الطالب من الولوج في أتون الخلاف بإيقاظ الفكر ونقل العلم الصافي بأسهل عبارة وأخصرها، فلا تجد فيها تنطع المتأخر، ولا مسبار مترقب لطوالع نجمه وأفوله.
وشتان بين من جعل مصنِّفه سفينة نجاة، ومن جعله حبالة للعلوق في شَرَك الخلاف!!
(غثاثة الرخص)
حين كان شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي (ت481هـ) يتأمل دروب السالكين إلى الله ويتحدث عن منزلة الرغبة إلى الله، ذكر أن رغبة أهل العلم والإيمان، الذين يسميهم «أهل الخبر»: (تمنع صاحبها من الرجوع إلى غثاثة الرخص)
لأن مضمون تتبع الرخص هو أنه إذا اختلف العلماء في مسألة فيجوز الأخذ بالأهون على النفس وليس الأرجح دليلا، فصار المرجح في المسألة ليس الدليل وإنما الأهون والأشهى والأخف على الذات وما تهوى الأنفس، بمعنى أن المكلف صار مخيرا في المسائل الخلافية بأخذ ما تهواه نفسه ولم يعد مكلفا بالبحث عن الأرجح [سلطة الثقافة الغالبة لإبراهيم السكران بتصرف]
(تتبع الرخص)
يقول الشيخ إبراهيم السكران في كتابه الماتع «سلطة الثقافة الغالبة»:
تخيل معي أننا سلكنا فعلا طريق تتبع رخص المجتهدين وليس أن نجتهد في تحقيق مراد الله، فهل يعي هذا القائل بالضبط كيف ستكون النتيجة؟ هل يعي هذا القائل كيف ستكون الصورة النهائية؟
النتيجة أنه يجوز أن تكون الصلوات ثلاث صلوات بناء على بعض الشذوذات الفقهية، ويجوز شرب الخمور من غير العنب على رأي بعض فقهاء الكوفة، ويجوز أن يقع الإنسان على ما يشاء من النساء بنية التمتع (زواج مؤقت بدون ولي) على رأي بعض فقهاء مكة، ويجوز أخذ ربا الفضل بناء على قول ابن عباس، ويجوز بيع العينة بناء على قول الشافعي، ويجوز بيع الدين بناء على قول الشافعي، ويجوز أخذ الربا في الفلوس المعاصرة لأنها ليست بذهب ولا بفضة على رأي بعض حنفية الهند، ويجوز التهام الإقطاعات العقارية السلطانية بناء على أنه يحق له أن يهب ما يشاء كما صدرت بذلك بعض الفتاوى، ويجوز دفع الرشاوى إذا لم تستطع تحقيق مصلحتك إلا من خلالها بناء على رأي بعض الفقهاء، ويجوز أن نأكل السباع وذوات الأنياب والطيور ذوات المخالب بناء على أحد قولي مالك، ويجوز أن يرضع المرء زميلته في العمل بناء على قول أحد أساتذة الحديث في الأزهر.
(أقوال السلف في ذم تتبع الرخص)
عن زياد بن حديْر قال لي عمر -رضي اللَّه عنه-: هل تعرف ما يهدم الإسلام؟، قلت: لا، قال: يهدِمه زلة العالِم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضِلين.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: ويل للاتباع من عثرات العالم، قيل وكيف ذلك؟ قال: يقول العالم برأيه ثم يجد من هو أعلم منه برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيترك قوله ذلك وتمضي الأتباع بما سمعت.
وقال الأوزاعي: من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام.
وقال الإمام سليمان التيمي وهو من علماء التابعين وجالس الإمام مالك وأخذ عنه الحديث: لو أخذت برخصة كل عالم –أو زلة كل عالم- اجتمع فيك الشر كله.
وقال الإمام أحمد -رضي الله عنه-: لو أن رجلا عمل بكل رخصة؛ يعمل بمذهب أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع، وأهل مكة في المتعة لكان فاسقا.
قال سحنون: ما أقبح بالعالم أن يؤتى إلى مجلسه فلا يوجد فيه. فيسأل عنه، فيقال:هو عند الأمير، هو عند الوزير، هو عند القاضي، فإن هذا وشبهه شرٌّ من علماء بني إسرائيل. وبلغني إنهم يحدثونهم من الرخص ما يحبون، مما ليس عليه العمل، ويتركون ما عليه العمل، وفيه النجاة لهم، كراهة أن يشتغلوهم.
ويقول الغزالي في الإحياء: وقال سمنون: ما أسمج بالعالم أن يؤتى إلى مجلسه فلا يوجد فيسئل عنه فيقال هو عند الأمير. قال: وكنت أسمع أنه يقال إذا رأيتم العالم يحب الدنيا فاتهموه على دينكم حتى جربت ذلك إذ ما دخلت قط على هذا السلطان إلا وحاسبت نفسي بعد الخروج فأرى عليها الدرك وأنتم ترون ما ألقاه به من الغلظة والفظاظة وكثرة المخالفة لهواه ولوددت أن أنجو من الدخول عليه كفافا مع أني لا آخذ منه شيئا ولا أشرب له شربة ماء، ثم قال: وعلماء زماننا شر من علماء بني إسرائيل يخبرون السلطان بالرخص وبما يوافق هواه ولو أخبروه بالذي عليه وفيه نجاته لاستثقلهم وكره دخولهم عليه وكان ذلك نجاة لهم عند ربهم، وقال الحسن كان فيمن كان قبلكم رجل له قدم في الإسلام وصحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال عبد الله بن المبارك عنى به سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال وكان لا يغشى السلاطين وينفر عنهم فقال له بنوه يأتي هؤلاء من ليس هو مثلك في الصحبة والقدم في الإسلام فلو أتيتهم فقال يا بني آتي جيفة قد أحاط بها قوم والله لئن استطعت لا أشاركهم فيها قالوا يا أبانا إذن نهلك هزالا قال يا بني لأن أموت مؤمنا مهزولا أحب إلى من أن أموت منافقا سمينا، قال الحسن: خصمهم والله إذ علم أن التراب يأكل اللحم والسمن دون الإيمان وفي هذا إشارة إلى أن الداخل على السلطان لا يسلم من النفاق ألبتة وهو مضاد للإيمان، وقال أبو ذر لسلمة يا سلمة لا تغش أبواب السلاطين فإنك لا تصيب شيئا من دنياهم إلا أصابوا من دينك أفضل منه وهذه فتنة عظيمة للعلماء وذريعة صعبة للشيطان عليهم لا سيما من له لهجة مقبولة وكلام حلو إذ لا يزال الشيطان يلقى إليه أن في وعظك لهم ودخولك عليهم ما يزجرهم عن الظلم ويقيم شعائر الشرع إلى أن يخيل إليه أن الدخول عليهم من الدين ثم إذا دخل لم يلبث أن يتلطف في الكلام ويداهن ويخوض في الثناء والإطراء وفيه هلاك الدين.
وقال إمام المالكية في القرن الثالث وقاضي بغداد في زمانه إسماعيل القاضي -رحمه الله-: دخلت على المعتضد فدفع إلي كتاباً فنظرت فيه وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء وما احتج به كل منهم، فقلت: مصنف هذا زنديق، فقال: لم تصح هذه الأحاديث؟ قلت: الأحاديث على ما رويت ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح المسكر، وما من عالم إلا وله زلة، ومن جمع زلل العلماء، ثم أخذ بها ذهب دينه، فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب.
ولعل واقعنا المعاصر يشهد جوانب من تساهل بعض الفقهاء في التلفيق بين المذاهب وتتبع الرخص كما هو حاصل عند من يضع القوانين والأنظمة أو يحتج بأسلمة القانون بناءً على هذا النوع من التلفيق، أما حالات الضرورة في الأخذ بهذا المنهج فإنها تقدر بقدرها.
- التصنيف: