كنوز صحيح مسلم وجمالياته...!
إنه الإمام الحافظ المدقّق أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري رحمه الله (٢٦١) وكان سماعه للعلم مبكرا، وعمره اثنتا عشرة سنة، ويعد والده الحجاج من مشيخة العلماء.
كتاب يأسِرك بجمال ألفاظه، ودقة صناعته، صح لفظا ومعنى، وطاب سندا وترتيبا ، فلئن فاق شيخه البخاري بالصحة، فقد فاق هو بحُسن الصناعة والترتيب كما قال القائل:
تشاجر قومٌ في البخاري ومسلمٍ/لديّ وقالوا: أيَّ ذينِ تقدمُ ؟
فقلت: لقد فاق البخاريُّ صحةً / كما فاق في حُسن الصناعة مسلمُ
إنه الإمام الحافظ المدقّق أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري رحمه الله (٢٦١)
وكان سماعه للعلم مبكرا، وعمره اثنتا عشرة سنة، ويعد والده الحجاج من مشيخة العلماء.
ولذلك يُوصَى حفاظ الصحيحين بالبدء بمسلم، لأن نصوصة سهلة محررة، ومتونه متقنة منقحة، خلافا لصحيح البخاري فقد مات رحمه الله قبل مراجعة كتابه...
وهنا معالم وتنبيهات تكشف كنوز هذا الكتاب ومحاسنه :
١/ اسمه: ( المسند الصحيح المختصر من السنن ) ويختصره الناس بالجامع أو صحيح مسلم، أو ذكره مسلم، ولا تكاد تخلو الكتب والدروس من ذكره هو وإخوانه من أصحاب الكتب الستة، لا سيما الصحيحان المقدمان، قال الحافظ ابن الصلاح رحمه الله: ( فرفعه الله تبارك وتعالى إلى مناط النجوم، وصار إماماً حجّة، يبدأ ذكره ويعاد في علم الحديث وغيره من العلوم ).
٢/ اشتراط الصحة : اشتهر قوله رحمه الله:( ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ههنا، إنما وضعت ههنا ما أجمعوا عليه ) فهو يرى أن أحاديثه المنتقاة مما أجمع عليه الأئمة ..!
٣/ صحيحٌ منتقَى: قال أيضا :( صنَّفتُ هذا المسند الصحيح من ثلاث مئة ألف حديث مسموعة ). وهذه مزية اتصف بها الحفاظ المصنفون من الجماعة ونظرائهم، وهذا الانتقاء يدل على وعي وتمييز وحذاقة
وافتخر بنعمة الله عليه فقال :( لو أن أهل الحديث يكتبون الحديث، مئتي سنة، فمدارهم على هذا المسند ) يقصد صحيحه .
ولعل إخراجه لمقولة الإمام يحي رحمه الله في أوقات الصلاة، (٦١٢) ما يشير الى ذلك، فقد قال:
حدثنا يحيى بن يحيى التميمي قال: أخبرنا عبد الله بن يحيى بن أبي كثير قال: سمعت أبي يقول: « لا يُستطاع العلم براحة الجسم » .قال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ في شرحه على الصحيح: (٥/١١٣ ) :
قوله عن يحيى بن أبي كثير قال: « لا يستطاع العلم براحة الجسم » جرت عادة الفضلاء بالسؤال عن إدخال مسلم هذه الحكاية عن يحيى مع أنه لا يذكر في كتابه إلا أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم محضة ، مع أن هذه الحكاية لا تتعلق بأحاديث مواقيت الصلاة ، فكيف أدخلها بينها ؟
وحكى القاضي عياض ـ رحمه الله تعالى ـ عن بعض الأئمة أنه قال: سببه أن مسلما ـ رحمه الله تعالى ـ أعجبه حسن سياق هذه الطرق التي ذكرها لحديث عبد الله بن عمرو ، وكثرة فوائدها، وتلخيص مقاصدها، وما اشتملت عليه من الفوائد في الأحكام، وغيرها، ولا نعلم أحدا شاركه فيها ، فلما رأى ذلك أراد أن ينبه من رغب في تحصيل الرتبة التي ينال بها معرفة مثل هذا، فقال: طريقه أن يكثر اشتغاله، وإتعابه جسمه في الاعتناء بتحصيل العلم . هذا شرح ما حكاه القاضي والله أعلم، وانظر: (إكمال إكمال المعلم ٢/٣٠٢) .
٤/ مكان تأليفه : قال الحافظ في مقدمة الفتح ١٢/١: ( إن مسلما صنف كتابه في بلده ، بحضور أصوله في حياة كثير من مشايخه ، فكان يتحرز في الألفاظ ، ويتحرى في السياق ).
ولذلك ظهرت صنعته في ذلك وتحريه وتنقيحه ، وفاق بها جامع البخاري..!
٥/ سبب التأليف: قال في المقدمة :( فإنك يرحمك الله بتوفيق خالقك، ذكرت أنك هممت بالفحص عن تعرف جملة الأخبار المأثورة عن رسول الله في سنن الدين وأحكامه، وما كان منها في الثواب، والعقاب، والترغيب، والترهيب وغير ذلك من صنوف الأشياء بالأسانيد التي بها نُقلت وتداولها أهل العلم فيما بينهم، فأردت -أرشدك الله- أن توقف على جملتها مؤلفة محصاة، وسألتني أن ألخصها لك في التأليف بلا تكرار يكثر...).
٦/ حافظ مقدّم : قال أحمد بن سلمة رحمه الله : ( رأيت أبا زرعة وأبا حاتم يقدمان مسلم بن الحجاج في معرفة الصحيح على مشايخ عصرهما ).
وقال النووي رحمه الله:( هو أحد أعلام أئمة هذا الشأن، وكبار المبرّزين فيه، وأهل الحفظ والإتقان، والرحالين في طلبه إلى أئمة الأقطار والبلدان، والاعتراف له بالتقدم فيه بلا خلاف عند أهل الحِذق والعرفان ).
٧/ شرطه في الكتاب : قال الحافظ ابن الصلاح في صيانة مسلم ما خلاصته : أن يكون الحديث متصل الإسناد بنقل الثقة عن الثقة من أوله إلى منتهاه سالما من الشذوذ ، ومن العلة ، وهذا هو حد الحديث الصحيح غالبا ، فكل حديث اجتمعت فيه هذه الأوصاف ، فيجزم المحدثون بصحته..!
٨/ مقدمة اصطلاحية رائعة : هو الوحيد الذي استهل كتابه بمقدمة اصطلاحية علمية محققة، يعرف بكتابه ومنهاجه، ويناقش بعض المسائل الحديثية ، وظهر فيها غضبه وشدته على الخصم الحديثي،،،!
وهل ما خرجه فيها يستفاد صحته..؟! الجواب: لا..!
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في (كتاب الفروسية ص١٣٥): ( وأما قولكم: إن مسلما روى لسفيان بن حسين في صحيحه ، فليس كما ذكرتم ، وإنما روى له في مقدمة كتابه ، ومسلم لم يشترط فيها ما شرطه في الكتاب من الصحة ، فلها شأن ، ولسائر كتابه شأن آخر ، ولا يشك أهل الحديث في ذلك ) .
وفرّق بعضُ من صنف في الرجال بين المقدمة والصحيح، كالحافظ المزي رحمه الله في تهذيب الكمال : فرمز لمن خرج له مسلم في المقدمة برمز :" مق " ، ومن خرج له في الصحيح بـ :" م " وتبعه بعض الحفاظ على ذلك...!
ومن تلك الأبواب :
• باب وجوب الرواية عَنِ الثقات، وَتَرْكِ الْكَذَّابِينَ
• باب فِي التحذير مِنَ الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
- باب صحة الاِحْتِجَاجِ بِالْحَدِيثِ الْمُعَنْعَنِ .
٩/ علوّه على جامع البخاري : أي ترتيبا ، قال ابن حجر في (تهذيب التهذيب ١٠/١١٤): ( حصل لمسلم في كتابه حظٌ عظيم مفرط، لم يحصل لأحد مثله ، بحيث أن بعض الناس كان يفضّله على صحيح محمد بن إسماعيل ، وذلك لما اختص به من جمع الطرق، وجودة السياق ، والمحافظة على أداء الألفاظ كما هي من غير تقطيع ، ولا رواية بمعنى ، وقد نسَج على منواله خلقٌ عن النيسابوريين، فلم يبلغوا شأوه، وحفظتُ منهم أكثر من عشرين إماما، ممن صنّف المستخرج على مسلم، فسبحان المعطي الوهاب ).
وأما الصحة فقد فاق البخاريُّ وتجاوز، وغلب على المغاربة تفضيل مسلم مطلقا، كأبي علي النيسابوري وابن حزم رحمهم الله، فقد كان يقدم كتاب مُسلم على كتاب البُخَارِيّ، لأنه لَيْسَ فِيهِ بعد خطبَته الا الحَدِيث السرد ..! ويحمل عند حذاق المحدثين على السياق والترتيب .
ولكل كتاب مزاياه وخصائصه، ولكن يبقى البخاري هو الأستاذ والمقدم والشيخ والإمام ، باعتراف مسلم نفسه، فقد روي عنه قوله: ( دعني أُقبِّلْ رجليك يا أستاذَ الأُسْتَاذِينَ، وسيِّد المحدثين، وطبيبَ الحديث في علله ) وقد قال أبو الحسن الدارَقُطني رحمه الله :( لولا البخاري مَا رَاح مسلم ولا جاء ).
وللعبد الفقير في منظومة( الكوكب الساري ):
كذاك ما أخرجه البخاري...يفوق مسلماً بلا خيارِ
لأنه أستاذه المقدمُ... وشرطه أشد وهو أحكمُ
وصرّح الأئمة النقادُ... لولاه ما كان له رشادُ
١٠/ مدة تأليفه : وقد مكث في تأليفه قرابة خمس عشرة سنة أو تزيد ، وفِي طولها ما يدل على صبره المديد، وتنقيحه الوسيع، ومراجعته الدقيقة، خلافا لكتّاب الرسائل العلمية والمشاريع البحثية في حياتنا المعاصرة، استعجال وتلفيق،..!
١١/ تعداده : بلغ عدة أحاديثه (٣٠٣٣) حديثا وقيل أربعة آلاف بدون المكرر
وضمنه (٥٤) كتابـًا، أولها كتاب الإيمان، وافتتحه بحديث ابن عمر ( في القدر وأن الأمر أُنف )(باب الإيمان والإسلام والإحسان ) وآخرها كتاب التفسير، وخاتمته (باب هذانِ خصمان اختصموا في ربهم)
وحديث (أن أبا ذر كان يُقْسِمُ قَسَمًا : إِنَّ { { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } } ، نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ بَرَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ...)الحديث .
وعدده بالمكرر والشواهد والمتابعات اختلف فيه، وعلى رأي الشيخ مشهور سلمان (٧٣٨٥) حديثا، والله تعالى أعلم .
١٢/ تبويبه ومذهبه: مسلم رحمه الله وضع الكتب، ومات ولَم يبوبه، فما يطالع من أبواب هي من وضع الشراح كالنووي والقرطبي صاحب المفهم، وعليه لا يعرف تفقهه كالبخاري، وجل كتبه حديثية، ولكن في الجملة هو ماشٍ على طريقة المحدثين في اقتفاء الدليل، وعدم التمذهب لا للشافعي ولا لغيره، وإن تأثر ببعضهم.
وهنا سؤال طُرح على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ـ (مجموع الفتاوي ٣٩/٢٠ ): هل البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأبو داود الطيالسي والدرامي والبزار والدارقطني والبيهقي وابن خزيمة وأبو يعلى الموصلي، هل كان هؤلاء مجتهدين لم يقلدوا أحدا من الأئمة أم كانوا مقلدين ؟ وهل كان من هؤلاء أحد ينتسب إلى مذهب أبي حنيفة ؟ ...
فأجاب : الحمد لله رب العالمين، أما البخاري ، وأبو داود ؛ فإمامان في الفقه من أهل الاجتهاد ، وأما مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وأبو يعلى والبزار ونحوهم فهم على مذهب أهل الحديث ليسوا مقلدين لواحد بعينه من العلماء ، ولا هم من الأئمة المجتهدين على الإطلاق بل هم يميلون إلى قول أئمة الحديث كالشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأمثاله...!
١٣/ مطولاته الرائعة: حديث الإفك، وتوبة كعب بن مالك، وحديث هرقل مع أبي سفيان ، ونزول الوحي ، وحديث الإيلاء، وحديث الشفاعة ، وحديث الجساسة والدجال، وحديث أصحاب الصخرة، وحديث الثلاثة المبتلين، وحديث جبريل عليه السلام، وحديث أم زرع، وحديث منسك جابر المشهور .
14/ شروحه : أحسنها وأطيبها شرحان : شرح النووي الذي يسمى ( المنهاج ) وشرح القرطبي المسمى ( المُفهِم ) حيث اختصره وعلق عليه، وهما من أفضل الشروح ويوجد أخرى للمستكثر، ولكن هذان العمدة والمتعة والجودة، والله الموفق
- التصنيف: