مخالفات البصر (1-5)
فهذا الحديث فيه عبر كثيرة تدل على عظم نعمة البصر، وأننا لا نقوى على أداء شكر هذه النعمة على الوجه الأكمل، مما يحتم علينا ألا نصرف هذه النعمة في معصية الله
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإن من شكر الله تعالى على نعمه أن تُصرف هذه النعم في مرضاته، أما من صرفها في معصية الله فقد كفر تلك النعمة وجحدها.
وإن من أكبر نعم الله على العبد أن جعله بصيرا، يبصر الأشياء من حوله؛ ولهذا من حرمه الله من نعمة البصر وصبر على ذلك كان جزاؤه الجنة، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى: « «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ أَذْهَبْتُ حَبِيبَتَيْهِ فَصَبَرَ وَاحْتَسَبَ لَمْ أَرْضَ لَهُ ثَوَابًا دُونَ الْجَنَّةِ» »([1]).
ولقد روي في الأثر وهو حديث ضعيف أن عابدا من بني اسرائيل عبد الله خمس مائة عام ومات وهو ساجد فحاسبه ربه عز وجل ثم قال عز وجل: أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، فَيَقُولُ: رَبِّ بَلْ بِعَمَلِي، فَيَقُولُ الرَّبُّ: أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، بَلْ بِعَمَلِي، فَيَقُولُ الرَّبُّ: أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، فَيَقُولُ: رَبِّ بَلْ بِعَمَلِي، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمَلَائِكَةِ: قَايِسُوا عَبْدِي بِنِعْمَتِي عَلَيْهِ وَبِعَمَلِهِ فَتُوجَدُ نِعْمَةُ الْبَصَرِ قَدْ أَحَاطَتْ بِعِبَادَةِ خَمْسِ مِائَةِ سَنَةٍ وَبَقِيَتْ نِعْمَةُ الْجَسَدِ فَضْلًا عَلَيْهِ فَيَقُولُ: أَدْخِلُوا عَبْدِي النَّارَ قَالَ: فَيُجَرُّ إِلَى النَّارِ فَيُنَادِي: رَبِّ بِرَحْمَتِكَ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ...)([2]).
فهذا الحديث فيه عبر كثيرة تدل على عظم نعمة البصر، وأننا لا نقوى على أداء شكر هذه النعمة على الوجه الأكمل، مما يحتم علينا ألا نصرف هذه النعمة في معصية الله، إلا أن كثيرا من الناس خالفوا أمر الله عز وجل وسَخَّروا أبصارهم فيما يغضب الله عز وجل؛ وذلك بالنظر إلى ما نهوا عن النظر فيه.
وإليك أخي الكريم بعض مخالفات البصر التي وقع فيها كثير من الناس؛ لعلنا نتوب منها:
فمن أخطر آثام البصر والتي حصل فيها التهاون الأمور التالية:
(أولا): إطلاق البصر إلى ما حرم الله عز وجل بالنظر إلى النساء الأجنبيات أو إلى المردان من الغلمان، وقد قال تعالى ( {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ* وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} )، ولقد حصل تساهل كبير في هذا الأمر؛ وبخاصة في هذه الأزمنة التي تبرجت فيها المرأة بشكل لم يسبق له نظير، وأصبحت المرأة ومفاتنها تعرض بصور متعددة، وتولى الإعلام بشتى مجالاته المقروء والمشاهد كِبَر هذه المفاسد والفتن، ولم يسلم في هذا الزمان من فتن النظر إلى الأجنبيات وإلى صورهن إلا من رحم الله عز وجل، وبخاصة بعد ظهور القنوات الفضائية وشبكات الإنترنت التي أقبل عليها كثير من الناس ومنهم بعض أهل الصلاح الذين يريدون تقديم الخير من خلالها، فلا يلبث المتعامل مع هذه الأجهزة ومع مرور الوقت إلا أن يألف مناظر النساء، بل إن الانفراد بهذه الأجهزة على هذه الحال أشبه كمن يخلو بالمرأة الأجنبية، حيث يكون الشيطان ثالثهما، فكما تغري الخلوة بالمرأة بالفجور بها؛ فإن الخلوة بهذه الأجهزة تغري باقتحام المواقع التي فيها النساء الفاجرات من باب الفضول تارة، وتارة يبرر له الشيطان ذلك باستبانة سبيل المجرمين ورصد المواقع المفسدة، فلا يلبث هذا المسكين أن يقع في شباك الشيطان ولا يستطيع الصبر عن هذه المناظر، ولا يعلم إلا الله عز وجل مدى ما يترتب على ذلك من الفساد وضعف الإيمان والاستقامة، والدليل على ذلك ما نسمعه من كثير من الناس في مجالسهم وهو يتغزلون في جمال مقدمات الأخبار أو بعض البرامج في كثير من القنوات الفضائية.
فعن جرير بن عبدالله رضي الله عنه قال: « «سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ نَظَرِ الْفُجَاءَةِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِي» »([3])، وقال صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: « «يَا عَلِيُّ لَا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّ لَكَ الأُولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الآخِرَةُ» »([4]) .
قال ابن الجوزي: وهذا لأن الأولى لم يحضرها القلب ولا يتأمل بها المحاسن ولا يقع التلذذ بها، فمن استدامها مقدار حضور الذهن كانت الثانية في الإثم.
([1]) رواه الترمذي (2401).
([2]) رواه الحاكم (7718)، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب (2099).
([3]) رواه الإمام مسلم (2159).
([4]) رواه الإمام أحمد (22974)، وأبو داود (2149)، والترمذي (2777).
- التصنيف: