السكن في القرآن الكريم
أما أهم ما يجلب هذا السكن بين الزوجين إنما هو الدين والخلق مع تقوى الله والعدالة والأمانة مع الرعاية والاحترام والتقدير والثقة المتبادلة بين الطرفين.
قال تعالى { {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} } [ الأنعام: 13]
فهنا ترى أن الله اختار لفظ { وَمَا سَكَنَ } ولم يقل {وما تحرك } لأن الأصل للأشياء هو السكون , إذ كل حي لابد أن يتحرك كما لا شك أنه كان قبل ذلك في حالة سكون.
كما أن بعض الجمادات كالنباتات مثلاً تنموا وتتحرك لما جعل الله فيها الحياة وإنما كانت قبل ذلك في حالة سكون وهو واضح ومعروف.
وكذلك الهواء منها ما هي قوية تتحرك بقوة, ومنها ما هي ساكنة تلائم حالة تنفس الإنسان وإلا لاحتجنا كلنا مغافر نلبسها على رؤوسنا لنأخذ في داخلها الهواء المعتدلة كما يفعله سائقي الدراجات النارية, وقد تتحرك الهواء الساكنة لتصير هواء معتدلة لتريح الإنسان ولتبرده لا لتقلع بيوته وتفسد عليه حياته.
ولذلك كل متحرك أو ساكن في هذه الحياء مسخَّر بإرادة الله وتدبيره في الحياة وهي تحت ضبطه وإلا لاضطرب الخلق كلهم كما قال تعالى { {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46)} } [ الفرقان: 45- 46 ]
وقال تعالى { {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} } [ التوبة:103 ]
وأنت ترى أن الله سبحانه جعل دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم ودعاء الأئمة من بعده سكن لمؤدِّي الزكاة المفروضة وإلا فإنه يفهم أنهم سيضطربون.
وقد حدث فعلاً مثل هذا الاضطراب المشار إليه لما امتنع مانعوا الزكاة في عهد الخليفة الراشد أبي بكر الصديق وحكم عليهم بالردة لتمالئهم وقتالهم دون أداء فرض من فرائض الله أو لتعطيل شرع من شرائع الله.
ثم ختم الله الآية بقوله: { { وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } } ولم يقل: { {وَاللَّهُ سَمِيعٌ بَصِيْرٌ} } وإن كانا متلازمين إشارة إلى أن بعض الناس قد يُغيِّب بعض الأموال فمثل هؤلاء لا تكون لهم زكاتهم تطهيرا ولا تزكية للنفوس ولا سكن فيعاقبهم الله في الدنيا بمحق البركة وداء البخل وسوء الأخلاق والاضطراب في الدنيا وفي الآخرة لهم عذاب أليم بعرصات يوم القيامة بأن تطعن بهم بقرونها وأظلافها وهو منبطح على الأرض, كما لهم عذاب في نار جهنم يكوى بأموالهم جباههم وجتوبهم وظهورهم , والعياذ بالله.
وهكذا قال الله تعالى { {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } } الآية [ الأعراف: 189 ] وقال تعالى { { وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} } [ الروم: 21 ]
إذا الحكمة هنا ظاهرة في الآيتين كما ترى وهو ليسكن إليها الزوج ولتسكن إليه الزوجة بالطبع
وإلا سيقع اضطراب وشقاق وتنافر وطلاق وفراق في نهاية المطاف لا محالة.
أما أهم ما يجلب هذا السكن بين الزوجين إنما هو الدين والخلق مع تقوى الله والعدالة والأمانة مع الرعاية والاحترام والتقدير والثقة المتبادلة بين الطرفين.
فلو أن البيوت كلها راعت هذه الأمور لوجدنا في بيوتنا السكن والهناء والرحمة وغمرت السعادة بين الأفراد والمجتمعات واستراحت القضاة وسكنت المحاكم من الصياح والعويل عندها.
وإذا تدبَّرت في خلق الأرض على سبيل المثال تجد أن الله سبحانه جعلها صالحة للسكن وإلا لاضربت حياتنا فبإمكاننا البناء عليها وحفرها كما نريد كما نستخرج منها مما نريد منها من الخيرات المخزونة فيها مع أنها أيضا صالحة للزراعة ودفن الأموات وغير ذلك من الأمور التي هي ضرورية جدا لحياتنا لنسكن بها ولا نضطرب.
وإذا نظرت إلى الشمس ستجد أننا في حاجة ماسة إليها وإلا لضاقت علينا الحياة ولتعسَّرت طلب المعيشة والانتشار عليها كما نريد ولذلك قال تعالى { {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } } [ القصص: 73 ]
وبذلك تعلم أن ما أضافت المدنية في المدن الكبار في هذا الزمان لكثرة الإضاءات والكهرباء في الليل مع ضجيج السيارات ومع ضوضاء الناس وسهرهم أزال السكن من الناس حتى لا يكاد الناس أن يناموا إلا في ساعات متأخرة وفي مدة وجيزة وقليلة جدا فاضطرب الناس لذلك صحياً وأصيب بسبب ذلك كثير منهم أمراض الأعصاب وقرحة المعدة وربما بعد ذلك أصابهم السكر والضغط , والله المستعان.
ومن ذلك تسكين الأمراء للناس وهي من السياسات الشرعية الحكيمة حتى إنه يروى أن معاوية قال لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت إن مدوها أرخيت لهم وإن أرخوها مددتها, حتى سُمي ذلك واشتهرت بشعرة معاوية!
أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُهَاجِرِ حَدَّثَنَا محمد بْنُ مُحَمَّدِ الصَّيْدَاوِيُّ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بن اسحق عن المدائن قَالَ قَالَ مُعَاوِيَةُ لَوْ أَنَّ بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ شَعْرَةٌ مَا انْقَطَعَتْ قِيلَ وَكَيْفَ قَالَ لأَنَّهُمْ إن مدوها خليتها وإن خلو مَدَدْتُهَا . أنظر روضة العقلاء ونزهة الفضلاء (ص: 72)
وقد أثني على حسن سياسته وحكمته وحلمه وكرمه حتى
قَالَ قَبِيصَةُ بْنُ جَابِرٍ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَعْظَمَ حِلْمًا وَلَا أَكْثَرَ سُؤْدُدًا وَلَا أَبَعْدَ أَنَاةً وَلَا أَلْيَنَ مَخْرَجًا، وَلَا أَرْحَبَ بَاعًا بِالْمَعْرُوفِ مِنْ مُعَاوِيَةَ.
وَقَالَ بعضهم: أسمع رجل معاوية كلاما شيئا شَدِيدًا، فَقِيلَ لَهُ لَوْ سَطَوْتَ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: إني لأستحيي مِنَ اللَّهِ إِنْ يضيق حلمي عن ذنب أَحَدٍ مِنْ رَعِيَّتِي.
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا أَحْلَمَكَ؟ فَقَالَ: إني لأستحيي أن يكون جرم أحد أَعْظَمَ مِنْ حِلْمِي.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ عَنِ الثَّوْرِيِّ: قال قال معاوية: إني لأستحيي أَنْ يَكُونَ ذَنْبٌ أَعْظَمَ مِنْ عَفْوِي، أَوْ جَهْلٌ أَكْبَرَ مِنْ حِلْمِي، أَوْ تَكُونَ عَوْرَةٌ لَا أُوَارِيهَا بِسَتْرِي.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَالْأَصْمَعِيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَا: جَرَى بَيْنَ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ أَبُو الْجَهْمِ وَبَيْنَ مُعَاوِيَةَ كَلَامٌ فَتَكَلَّمَ أَبُو الجهم بكلام فيه غَمْرٌ لمعاوية، فأطرق معاوية.
ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: يَا أَبَا الْجَهْمِ إِيَّاكَ وَالسُّلْطَانَ فَإِنَّهُ يَغْضَبُ غَضَبَ الصِّبْيَانِ، وَيَأْخُذُ أَخْذَ الْأَسَدِ، وَإِنَّ قَلِيلَهُ يَغْلِبُ كَثِيرَ النَّاسِ.
ثم أمر معاوية لأبي الجهم بمالٍ فَقَالَ: أَبُو الْجَهْمِ فِي ذَلِكَ يَمْدَحُ معاوية:
نميل على جوانبه كأنا * نميل إذا نَمِيلُ عَلَى أَبِينَا
نُقَلِّبُهُ لِنُخْبِرَ حَالَتَيْهِ * فَنُخْبَرُ مِنْهُمَا كَرَمًا وَلِينًا
وَقَالَ عبد الرحمن بن أبي الْحَكَمِ لِمُعَاوِيَةَ: إِنَّ فُلَانًا يَشْتُمُنِي، فَقَالَ لَهُ: طأطئ لها فتمر فَتُجَاوِزَكَ.
وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: قَالَ رَجُلٌ لِمُعَاوِيَةَ: مَا رَأَيْتُ أَنْذَلَ مِنْكَ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: بَلَى
مَنْ وَاجَهَ الرِّجَالَ بِمِثْلِ هَذَا.
وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ قَالَ مُعَاوِيَةُ: "مَا يَسُرُّنِي بذل الكرم حمر النعم " انتهى أنظر البداية والنهاية ط إحياء التراث (8/ 144)
لذلك كان معاوية لا يتدخل في أمور الناس إلا بالإصلاح والمصالحة ولو ببذل الأموال لهم بينما نرى سياسات بعض المعاصرين هو أن يثيروا القلاقل والفتن بين القبائل والمجتمعات كسياسة فرق تسد وقد يشغلون الناس بالمباريات ومسابقات الخيل والإبل لا للاستعداد للجهاد ولكن إنما هي بمجرد اللعب أو التشاغل بالمسلسلات والمسرحيات وأخيرا بمواقع التواصل الاجتماعي وغير ذلك حتى لا يتفرغوا بالتكلم عن سياسة الحكم, وهذا في الحقيقة ليس بتسكين إنما هو إفساد للناس عن مصالحهم الدينية والدنيوية.
واللله أعلم .
الفقير إلى رحمة ربه وعفوه
عبد الفتاح آدم المقدشي
- التصنيف: