السنن والبدع في شهر شوال
الحمدُ لله الذي افتتَحَ أشهرَ الحجِّ بهذا الشهرِ فاكتَسَبَ بذلك بركةً وشرَفاً، وندَبَ لصيام ستةِ أيامٍ وجعلَها بعد صيام رَمضان كصيام العام على الوَفَا، وجعلَ أول يوم منه للمؤمنين عيداً..
الحمدُ لله الذي افتتَحَ أشهرَ الحجِّ بهذا الشهرِ فاكتَسَبَ بذلك بركةً وشرَفاً، وندَبَ لصيام ستةِ أيامٍ وجعلَها بعد صيام رَمضان كصيام العام على الوَفَا، وجعلَ أول يوم منه للمؤمنين عيداً، أحمَدُه سُبحانه حمدَ عبدٍ جَبَرَهُ سيِّدُه وأجراه على عبادته وأنجزَ له وَعْدَهُ ووَفَّى، وأشكُرُه شُكرَ مَن لم يزل غارقاً في بحارِ نِعَمِه مُقرِّاً بشكرها ومُعتَرِفاً، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له الذي شَرَعَ الحجَّ إلى بيتِهِ وضاعفَ ثوابَه وجَعَلَهُ جهادَ الضُّعَفا، وجَذَبَ إليه أقواماً بأزِمَّةِ الغَرَامِ فقَطَعوا المَهَامِهَ وجَدُّوا اشتياقاً إليه وشَغَفَا، وأشهدُ أن سيِّدنا محمداً عبدُه ورسولُه الذي فضَّلَهُ على كافَّةِ البريَّةِ سَلَفَاً وخَلَفَاً، وأنطَقَ له الجَماداتِ فَحَنَّ له الجِذْعُ حينَ تَرَكَ الخُطبةَ عليهِ حُزْناً على فِرَاقِهِ وأَسَفَاً، اللهُمَّ صلِّ وسلِّم على سيِّدنا مُحمدٍ وعلى آله وأصحابه الذين اجتهدُوا في الحجِّ إلى البيتِ الحَرَامِ وأقامُوا الصلاةَ طَرَفي النهارِ وزُلَفاً، صلاةً وسلاماً مَن لازَمَهُمَا كَشَفَ اللهُ غَمَّهُ وطابَ وقتُهُ وَصَفَا.
أمَّا بعـد: فيا أيها الناسُ اتقوا الله تعالى فقد فاز المُتَّقُون، ولازِمُوا طاعةَ الله ورسولِه صلى الله عليه وسلَّمَ لعلَّكم تُفلحون.
عبادَ الله: إن شهركم هذا هو الشهر العاشر من أشهر السنة الهجرية في الإسلام، وهو شهرٌ فاضلٌ من أشهر الحجِّ، قال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}.
قالَ ابنُ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهُمَا: "أشهُرُ الحَجِّ: شوَّالٌ، وذُو القَعْدَةِ، وعَشْرٌ من ذي الحَجَّةِ" (رواه البخاري).
وقال العزُّ بنُ عبد السلام رحمه الله: (وتَفضيلُ الأماكنِ والأزمانِ ضَرْبَانِ:
أحَدُهُما: دُنْيَوِيٌّ، كتفضيلِ الرَّبيعِ على غيرِهِ من الأزمانِ، وكتفضيلِ بعضِ البُلْدانِ على بعضٍ بِما فيها من الأنهارِ والثِّمارِ وطِيبِ الهَوَاءِ ومُوافَقَةِ الأهوَاءِ.
الضَّرْبُ الثاني: تفَضُّلٌ دِينيٌّ راجعٌ إلى أنَّ اللهَ يَجُودُ على عِبادِهِ فيهِما بتفضيلِ أجرِ العاملينَ، كتفضيلِ صَوْمِ رمَضَانَ على صَوْمِ سائرِ الشُّهُورِ، وكذلكَ يومِ عاشُوراءَ، وعشرِ ذي الحِجَّةِ، ويومِ الاثنينِ والخميسِ، وشعبانَ وسِتَّةِ أيامٍ من شوَّالٍ، فَضْلُها راجعٌ إلى جُودِ اللهِ وإحسانهِ إلى عبادِهِ فيها، وكذلكَ فَضْلُ الثُّلُثِ الأخيرِ من كُلِّ ليلَةٍ راجعٌ إلى أنَّ اللهَ يُعطي فيهِ مِن إجابةِ الدَّعَوَاتِ والمغفرةِ وإعطاءِ السُّؤالِ ونَيلِ المأمُولِ ما لا يُعطيهِ في الثُّلُثَينِ الأوَّلَيْنِ..) انتهى.
وقد حَفَلَ شهرُ شوال بأحداثٍ عظامٍ في حياة نبيِّنا صلى الله عليه وسلم:
ففي شهر شوال من السنة الأولى من الهجرة النبوية: كانت سريَّة عبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب إلى بطن رابغ، وفيه وُلدَ أول مولود للمهاجرين في المدينة وهو عبدالله بن الزبير، وفيه: دخول نبيِّنا صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها.
وفي شوال من السنة الثانية من الهجرة: كانت غزوة بني سُليم، وغزوة بني قينقاع، وفيه مؤامرة اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم من عمير بن وهب وصفوان بن أمية.
وفي شوال من السنة الثالثة من الهجرة: كانت غزوة أحد، وغزوة حمراء الأسد.
وفي شوال من السنة الخامسة من الهجرة: كانت غزوة الخندق.
وفي شوال من السنة الثامنة من الهجرة: كانت غزوة حنين.
وفي شوال من السنة العاشرة من الهجرة: تتابعت الوفود على الرسول صلى الله عليه وسلم مُعلنة إسلامها.
عباد الله: إن من الأحكام المتعلِّقة بهذا الشهر:
أولاً: استحباب صيام ستة أيام من شوال، قال صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر» ) (رواه مسلم).
ثانياً: استحباب قضاء صيام التطوع من شعبان في شوال، فعن عِمرانَ بنِ حُصينٍ رضيَ اللهُ عنهما أنَّ النبيَّ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ لرَجُلٍ: «هَل صُمْتَ من سَرَرِ هذا الشهرِ شيئاً» ؟ قال: لا، فقالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «فإذا أفطَرْتَ من رمَضَانَ فَصُمْ يومينِ مكانَهُ» (رواه البخاري ومسلم) واللفظ لمسلم.
والسَّرَر: قيل هو أول الشهر، وقيل وسطه وقيل آخره.
قال ابنُ حجر: (وفي الحديثِ: مشرُوعِيَّةُ قضاءِ التَّطَوُّعِ) انتهى.
ثالثاً: استحباب قضاء الاعتكاف لمن تركه في رمضان لعذر،فعن عائشةَ رضيَ اللهُ عنها قالت: (كانَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يَعتكفُ في كُلِّ رمَضَانٍ، وإذا صلَّى الغَدَاةَ دخَلَ مكانهُ الذي اعتكَفَ فيهِ، قالَ: فاستَأْذنَتْهُ عائشةُ أنْ تَعتكِفَ، فأذِنَ لهَا، فضَرَبَتْ فيهِ قُبَّةً، فسَمِعَت بها حفصَةُ فضَرَبَت قُبَّةً، وسمعَت زينَبُ بها فضَرَبَت قُبَّةً أُخرَى، فلَمَّا انصَرَفَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ من الغَدَاةِ أبصَرَ أربَعَ قِبَابٍ فقالَ: ما هذا؟ فأُخبرَ خبَرَهُنَّ فقالَ: ما حَمَلَهُنَّ على هذا؟ آلْبِرُّ؟ انزِعُوهَا فلا أرَاهَا، فنُزِعَت، فلَم يَعتَكِف في رمضانَ حتَّى اعتكَفَ في آخرِ العشرِ من شوَّالٍ) رواه البخاري.
قال ابنُ بطال: (الاعتكاف في شوال وسائر السنة مُباحٌ لمن أراده) انتهى.
رابعاً: استحبابُ العمرةِ في أشهر الحج: فعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: ( كانوا يَرَونَ أن العمرةَ في أشهرِ الحجِّ من أفجَرِ الفُجورِ في الأرضِ، ويَجعلون المحرَّمَ صفَراً، ويقولون إذا بَرَا الدَّبَر، وعَفَا الأثَرْ، وانسَلَخَ صَفَرْ حلَّت العُمْرَةُ لمن اعتَمَرْ، قدمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه صبيحَةَ رابعةٍ مُهلِّين بالحجِّ، فأمَرَهُم أن يجعلوها عمرةً، فتَعَاظَمَ ذلكَ عندهم، فقالوا يا رسول اللهِ: أيُّ الحِلِّ؟ قال: حِلٌّ كُلُّهُ) متفق عليه.
وسبب تعاظم ذلك: أنهم كانوا يظنون امتناع العمرة في أشهر الحجِّ، فالعمرة يجوز فعلها في أشهر الحج إلى يوم القيامة، والمقصود به بيان إبطال ما كانت الجاهلية تزعمه من امتناع العمرة في أشهر الحجِّ.
وعن قتادةَ قال: (سألتُ أنسَاً: كم اعتمَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلمَ؟ قال: أربَعٌ، عُمرةُ الحديبيةِ في ذي القَعدةِ حيثُ صَدَّه المشركون، وعُمرةٌ من العامِ المُقبلِ في ذي القَعدةِ حيثُ صالَحَهُم، وعُمرةُ الجِعِرَّانةِ إذ قَسَمَ غَنيمَةَ أُراهُ حُنينٍ، قُلتُ: كم حجَّ؟ قال: واحدةً) أخرجه البخاري.
وقال ابن حجر: (لكن رَوَى سعيد بن منصور، عن الدَّرَاوَرْدِيّ، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: «أن النبيَّ صلى الله عليهِ وسلمَ اعتَمَرَ ثلاث عُمَر: عُمرتينِ في ذي القَعدة، وعُمرة في شوَّال» إسناده قويٌّ، وقد رواهُ ابن مالك عن هشام عن أبيهِ مُرسلاً.
لكنَّ قولها: «في شوَّال» مُغايِرٌ لقولِ غيرها «في ذي القَعدة»، ويُجمع بينهما: بأنْ يكون ذلكَ وقَعَ في آخر شوَّال وأوَّل ذي القَعدة، ويُؤيِّدهُ: ما رواهُ ابن ماجه بإسنادٍ صحيح عن مجاهد عن عائشة رضي الله عنها: «لم يَعتمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلا في ذي القَعدة») انتهى.
خامساً: استحباب الزواج في شوال إذا ظهرت بدعة التشاؤم بالزواج في شهر شوال في بلدٍ ما، فيُستحبُّ حينئذ قصد الزواج في شوال مخالفة لأهل البدع.
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (تزوَّجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال، وبنى بي في شوال، فأيُّ نساءِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كان أحظى عندهُ منِّي؟.
قال: وكانت عائشةُ رضي الله عنها تستحبُّ أن تُدخلَ نساءَها في شوالٍ) رواه مسلم.
قال النووي: (وقصدَت عائشةُ بهذا الكلام: رَدَّ ما كانتِ الجاهليةُ عليهِ، وما يَتخيَّلُه بعضُ العَوَامِّ اليومَ من كراهةِ التزوُّجِ والتزويجِ والدُّخولِ في شوالٍ، وهذا باطلٌ لا أصلَ له، وهو من آثارِ الجاهليةِ، كانوا يتطيَّرون بذلك لِما في اسم شوالٍ من الإشالةِ والرفع) انتهى.
سادساً: من الأمور المحدثة المبتدعة في شهر شوال: بدعة عيد الأبرار، وهو اليوم الثامن من شوال، فبعدَ أن يُتمَّ الناسُ صوم شهر رمضان، ويُفطروا اليوم الأول من شهر شوال وهو يوم عيد الفطر يبدؤون في صيام الستة أيام الأول من شهر شوال، وفي اليوم الثامن يجعلونه عيداً يُسمونه عيد الأبرار، ويكون الاحتفال بهذا العيد في أحد المساجد المشهورة فيختلط النساء بالرجال، ويتصافحون ويتلفظون عند المصافحة بالألفاظ الجاهلية، ثم يذهبون بعد ذلك إلى صنع بعض الأطعمة الخاصة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأما ثامنُ شوال: فليس عيداً لا للأبرار ولا للفجار، ولا يجوز لأحد أن يعتقده عيداً، ولا يحدث فيه شيئاً من شعائر الأعياد) انتهى.
اللهمَّ جنِّينا البدع ومُحدثات الأمور، وارزقنا التمسُّك بالسنة والدعوة إليها، آمين.
♦ ♦ ♦ ♦
إِنَّ الحمدَ للهِ، نَحمَدُه ونستعينُه، مَن يَهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأنَّ مُحمَّداً عبدُه ورسولُه.
أمَّا بعدُ: فاتقوا الله عباد الله فقد فاز المتقون، وتخفَّفوا من الذنوب فقد نجا المتخفِّفون، وتنبَّهُوا قبل هجوم الموت، وتزوَّدوا لآخرتكم قبلَ الفوت، قبل العرض على الملك الجبار، قبل كشف الأسرار، قبل يومِ القصاص، قبل تعذُّرِ الخَلاص، قبلَ دُنوِّ الشمس من الرؤوس، قبل هلاك الأرواح والنفوس، وانظروا لدنياكم بعين العِبَر، وانظروا لآخرتكم بلحظِ الفِكَر، وكونوا من الموت على حذر، {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.
وانتبهوا من رَقدةِ العَدَم، وبادروا بإظهار التوبةِ والندم، واعتبروا بمن مضى من الأمم، { كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}.
مال عليهم القضاءُ فخَمَدُوا، وطحنتهم رَحَى المنون فَهَمَدوا، وغشيتهم سِنةُ الموت فرَقَدوا، {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ}.
تساوَت بينهم الذكور والإناث، وتشابهت الشُّيُوخ والكُهول والأحداث، {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ}.
{وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ}، ونُودي أين الفاسقُ والمنافق والظالمُ فليتقدَّم، أين من عصى الله وظلَمَ العبادَ وتجَرْهَم، {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ}.
فيمتدُّ منها لسانٌ من نارٍ يَختطفُ الأشقياء والفجار، فتضِجُّ الأنبياءُ والأولياءُ والكفار، فيسمعون النداء من قِبَلِ الملِك الجبَّار، {فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }.فيُؤتى بأهل الغيبة والنميمة، ولهم رائحةٌ أنتنُ من الجيفةِ الذميمة، فتُقرَضُ ألسنتهم بمقاريضَ من نارٍ عظيمةٍ، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
جعلني الله وإياكم ووالدينا وأهلينا ممن شمَّر لدار الأرغاب، واستعبَر حِذارَ الإرهاب، واستدفعَ بتقوى الله أليمَ العقاب، آمين.
________________________________________
الشيخ: عبدالرحمن بن سعد الشثري
- التصنيف:
- المصدر: