الخلفية الإصلاحية لكتاب "الرسالة المحمدية":المقال الثاني
الرسالية العملية، انطلاق نحو الإبداع العلمي، والنجاح الدعوي: ذكرت في مقالة سابقة بعنوان " نظرات في كتاب الرسالة المحمدية "، أن العالم -كما قال صاحب الكتاب- لا تنقصه الكلمات العذبة المؤثرة
الخلفية الإصلاحية لكتاب "الرسالة المحمدية"، للشيخ سليمان الندوي رحمه الله - المقال الثاني.
بنداود رضواني.
الرسالية، والحاجة إلى الكمال والوضوح:
هي جوانب كثيرة تدعونا إلى النظر في سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وتدفعنا إلى التفكير في حياته، فأحواله كتاب مفتوح للعالم أجمع، لمن عايشه واكتحلت عيناه برؤيته، وكذلك لمن جاء من الناس بعد وفاته، فلم تغب عن هذا الكتاب جزئيات الأحوال، ولا عظائم الأحداث التي تقلب فيها مسيرة أكثر من ستين عاما، بدت جلية، ناصعة، كاملة، وشاملة، استحال وجود النظير بين الأنبياء، كما عز العثور على الشبه بين مواكب المصلحين والزعماء الدينيين.
ومما يستفز النظر ويستوقفه، أن ما من إنسان مهما ترقى في المجال العلمي، أو نال الحضوة في السلم الإجتماعي، أو أوجد لقدمه موضعا في الميدان السياسي، إلا و يغيضه أن تتكشف شؤونه البيتية، وأحواله الأسرية أمام الناس، فيزعجه أن تجهر زوجته بما خفي عن الناس من أحواله وتصرفاته، إلا محمدا صلى الله عليه وسلم.
فعلى الرغم أن بيته آوى تسع نسوة في زمن واحد، فقد أذن لهن بالتحدث بكل شىء شاهدنه في خلواته صلى الله عليه وسلم، حتى ما كان في الليل، فأظهرنه في وضح النهار. والأمر نفسه مع صحابته رضوان الله عليهم، ولا غرابة أن يشهد بذلك حتى أعداؤه حين مقامه في مكة بين قريش، حيث طبعت أحواله بالوضوح وصبغت أعماله بالكمال دون تصنع أو تكلف، فاعترف الصناديد قبل الأراذل بكمال أخلاقه، ورفعة مناقبه عليه الصلاة والسلام. بل ومما يحمل على المزيد من التأمل هو ما يفصح عنه صلى الله عليه وسلم - عند مخالفته لما هو أولى -، من الآيات القرآنية المنزلة التى تصوب اجتهاده، وتسدد رأيه، ولو كان غيره لكتمه مخافة تنقيص الأعداء، و لوم الأهل والأصدقاء.
ومن مرامي السيد سليمان الندوي وهو يستدعي علاقة النبي صلى الله عليه وسلم بغيره، ومظاهر التفاعل مع بيئته، إبراز كمال الرسالة المحمدية، وتجلية سمة الوضوح التي رافقت حياة هذه الأسوة الكريمة صلى الله عليه وسلم. وإن أحوج الناس لهاته السمات، وأشدهم افتقارا إليها، هم العلماء والدعاة الرساليون، فهم الموقعون عن رب العالمين، وورثة سيد الأنبياء والمرسلين. لذا فلن تستقيم أمورهم الإجتهادية، ولاجهودهم التربوية أبدا، ماداموا لا ينشدون الكمال في أنفسهم أولا قبل غيرهم، ولن يقابل حديثهم إلا بالكثير من المقت والتبكيت، ما استمروا متناقضين مع رسالتهم، غامضين في علاقاتهم وروابطهم، متكاسلين عن دعوتهم، منهزمين أمام شهواتهم وأهوائم، لماذا ؟؟، لأن رسالة الله نور، ونور الله لا يمنح لعاصي.
الرسالية العملية، انطلاق نحو الإبداع العلمي، والنجاح الدعوي:
ذكرت في مقالة سابقة بعنوان " نظرات في كتاب الرسالة المحمدية "، أن العالم -كما قال صاحب الكتاب- لا تنقصه الكلمات العذبة المؤثرة، و لا النصائح الغالية، ولكن الذي يندر وجوده، هو العمل والتطبيق. لذا ما فتىء صلى الله عليه وسلم يعلن في الناس، ويصدع ب ( لم تقولون ما لا تفعلون) سورة الصف/الآية 2، لأنه لم يأمر بأمر إلا كان أول العاملين به، و لا عمل إلا كان أسبق المنفذين له عليه الصلاة والسلام.
أولا: التفاعل مع القرآن الكريم.
إذا كان القرآن الكريم هو قلب الإسلام ومركزه، وجوهره وروحه، فلا عجب أن تكون سيرة محمد صلى آلله عليه وسلم هي الترجمة العملية لنبضات هذا القلب ودقاته. لقد كان خلقه القرآن، وكان قرآنا يمشي فوق الأرض عليه الصلاة والسلام، ولا غرو -إذن- إن التبس على المسلم شيء من معاني الذكر الحكيم، أو غم عليه حكم من أحكام الكتاب الكريم، أن يهرع مستنيرا بالبيان العملي والشرح التطبيقي، المضمن في أقوال وأفعال وتقارير السنة النبوية العطرة.
و لابد من إيضاح أن الغاية المرجوة من استهلال سليمان الندوي رحمه الله في المحاضرة السادسة "الجانب العملي للسيرة النبوية" بالحديث عن الأخلاق القرآنية التي اصطبغت بها أحوال النبي وأحيانه، هو التأكيد على المنزلة العالية للقرآن الكريم في الحياة الرسالية لمحمد صلى الله عليه وسلم، فما من خلق تخلق به إلا ومنبعه القرآن، وما من عمل نهض به إلا ومصدره وحي السماء، فهذا هو القصد الأول من الإستهلال ب "كان خلقه القرآن"، وأما الغاية الثانية، فهي التأكيد على الضرورة القصوى لأولوية القرآن في حياة حملة الرسالة المحمدية، وأهميتها في اجتهاد العلماء وحركية الدعاة، لكن أية فائدة ترجى من علم أو دعوة، إذا تمكن مرض الهجر من حملتها ؟؟!! ( وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا )، سورة الفرقان/الآية 30، وأي خير ينتظر حين يغدو القرآن وراءهم ظهريا في الخلوات، وحسبهم أن يتغنوا به أمام الناس- فقط - في المسابقات والندوات...؟!!.
والبدهي أن مرض مخالفة الظاهر للباطن، والقول للعمل، والذي حذر منه البيان الإلهي بعبارة ( لم تقولون مالا تفعلون)، هو مرض قديم قدم النفس البشرية، وما تمكنت أعطابه من فرد إلا وفتكت بدينه وأخلاقه، ولا بأمة إلا أردتها جسدا بلا روح، وغلافا بلا جوهر، وانظروا إن شئتم إلى ما آل إليه بنو اسرائيل حين فرطوا فيما نزل على موسى في التوراة والألواح، لبيس ما فعلوا، ولبيس ما يفعلون.
وإذا كان القرآن الكريم كلمات وألفاظ وعبارات، فالآكد أنه سيرة وتطبيق، حركة وعمل، فإذا رغب علماء الأمة ودعاتها في سداد جهودهم العلمية والدعوية، وتصحيح بيئتهم الإجتماعية، وإقبال الناس على مشاريعهم الإصلاحية، إذا رغبوا في كل ذلك، وجب أن يكونوا أول الخلق وأولاهم تنزيلا للقرآن الكريم في حياتهم، وتطبيقا لأحكامه في نفوسهم، وأسرع الناس تأثرا بآياته، وتفاعلا مع سننه ونواميسه، وأشجعهم تمثلا لمواقفه ومبادئه، فهذا هو المقصد المضمن في كلام السيد الندوي الذي صدر له ب" كان خلقه القرآن ".
ثانيا: الرسالية في ظلال ذكر الله.
أخرج الشيخان والترمذي وابن ماجه حديثا لعائشة رضي الله عنها، يلخص الأحوال العملية للنبي صلى الله عليه وسلم مع ذكر الله تعالى، إذ تقول: 》 كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله في كل أحيانه 《. وهذه الخلاصة هي التي أنهى بها صاحب" الرسالة المحمدية" حديثه عن " الجانب العملي في ذكر الله". لكن ما المقصد الذي تغياه السيد سليمان من إدراج الجانب التطبيقي لمحمد صلى الله عليه وسلم في ذكر الله، في كتابه" الرسالة المحمدية " ؟.
معلوم أن من أشرف مقامات التعبد والقرب من الله، مقامان: أولهما: مقام الدعوة إلى الله، وثانيهما: مقام تعليم الناس الخير. ومن أجل منازل العبودية عند الله، منزلة من كان بين الله وبين عباده، ورسول الله صلى الله عليه وسلم خير من حاز هذين المقامين، وأشرف موحى له حظي بجلال منزلة البلاغ عن الله تعالى.
ونهوضا بواجب الخيرية، وأداء لحقوق التشريف، قام هذا النبي الكريم مصطبغا في كل حركة وسكون بصبغة الذاكر لله تعالى، الهاتف بجلاله، المسبح بحمده، المقدس لألوهيته، والمعترف بربوبيته...، فعلى أية حال كان إلا ويبسط ضعفه بين يدي ربه وخالقه، ويعترف بقصوره وتقصيره، رادا في الوقت نفسه كل الأفضال التى عليه لسيده ومولاه سبحانه وتعالى.
والسيد سليمان الندوي رحمه الله أشهد على هذا الجانب العملي للنبي صلى الله عليه وسلم في ذكر الله، جوانب شتى من حياته، فلا يقوم صلى الله عليه وسلم، ولا يجلس، ولا ينام، ولا يستيقظ، ولا يمشي، ولا ويتوقف، ولا يأكل، ولا يشرب،.....صباح مساء، ليل نهار، إلا ولسانه رطب بذكر الله.
فهو يدرك عليه الصلاة والسلام، أن الأمانة الملقاة على كاهله، والرسالة السماوية التي تشغل كل حياته، يحتاج للقيام بها، من البدء إلى المنتهى، إلى عون الله وتوفيقه، ويفتقر للنهوض بها إلى مدد الرب ومعونته، لذا نجده في عظائم المواقف، كما في صغائر الأحداث، - مع الأخذ بالأسباب والتوكل على الله - لا يفتر لسانه الشريف عن اللهج بالإنابة والتوبة والإستغفار والتسبيح والتحميد....، حتى يصير لصدره أزيز كأزيز المرجل.
والناس جميعا دون استثناء مفتقرون إلى الله من مفرق رؤوسهم إلى أخمص أقدامهم، محتاجون إليه في كسب معاشهم وفي سلامة معادهم. إلا أن العلماء والدعاة خاصة، افتقارهم إلى ربهم أشد، واحتياجهم له أكثر، لأن أمر البلاغ أمر جلل وجليل، وهو في حقهم من الفرائض العينية لا الكفائية، ولن يستطيعوا القيام بحقه إذا ما تاهوا في ظلمات الإعتماد على ذواتهم، والإتكاء على نفوسهم، بل لا بد أن يسلكوا مسلك صاحب الرسالة في سيره الدعوي، وسيرته التبليغية.
والخلاصة أن دعوة الغير إلى الإستغفار، من جملة ما تقتضيه أن يكون الداعية من أكثر الناس استغفارا، وأن دعوة الآخرين إلى التسبيح والتحميد والتهليل، والتمجيد...، وطلب المعونة من الله والتوفيق...، يستلزم أن يكون الداعية أول المسبحين بحمد الله، وأكثرهم تمجيدا لذات الله، وأعظمهم اعترافا بضعفه وتقصيره،...فالله جل جلاله يقول ( كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لاتفعلون )، سورة الصف/ الآية 3.
ثالثا: الصلاة، الصيام، والزكاة، تطبيقات رسالية.
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته رضوان الله عليهم بالصلوات الخمس، لكنه كان يصلي ثماني صلوات، فإضافة إلى الخمس، هناك صلاة الإشراق و الضحى وقيام الليل، ناهيك عن صلوات الرواتب وذوات الأسباب، وبقي على هذا الحال حتى لقي ربه سبحانه.
وكان يقوم في الصلاة حتى تتفطر قدماه عليه الصلاة والسلام، ولا يهمل شأنها ولو طافت به سيوف الأعداء من كل اتجاه، بل يكثر من السجود والتذلل لله، يدعوه ويستنصره، كما حصل في بدر الكبرى. بل ها هو بأبي وأمي صلى الله عليه وسلم، يحمل إلى المسجد بين الرجلين في مرضه الذي قبض فيه، أملا في أن يكون آخر عهده بهذه الدنيا سجدة بين يدي الحي الذي لا يموت سبحانه.
أما هديه العملي في الصوم، فقد أمر صحبه رضي الله عنهم بصيام رمضان، أما هو فكان يصوم حتى يقال: لا يفطر، ويفطر حتى يقال: لا يصوم، ونهى الناس عن الوصال، لكنه كان يواصل الصيام يومين، وأحيانا ثلاثة أيام، فلما سئل عن السر، قال: 》 إني يطعمني ربي ويسقيني《، الحديث في البخاري.
وبخصوص سنته التطبيقية في باب الزكاة والصدقات، فقد كان أجود الناس، وأجود من الريح المرسلة في رمضان، فكل ماجاء إليه أنفقه في سبيل الله، ولم يدخر منه شيئا، على الرغم أن حياته صلى الله عليه وسلم تعاني الفقر والفاقة، وفي المقابل لم يأمر الناس بإنفاق كل شيء، ولم يطلب منهم إخراج كل مايملكونه من مال وثروة، وإنما طلب منهم: 》 أن أدوا حق الله في أموالكم، وذلك بالإنفاق في سبيل الله 《.
فهذه الصورة المشرقة لكبرى العبادات في الرسالة المحمدية ماهي إلا إنعكاس لما يخالج قلب صاحبها من مشاعر المحبة والخوف من الله، والرجاء في ما عنده سبحانه وتعالى. وصدى لمعانى التقوى التي تشبعت بها نفسه الشريفة، معاني لا غنى لعالم أو داعية عنها، وهو يقتفي أثره ومآثره عليه صلى الله عليه وسلم. يقول الله جل جلاله ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، واتقون يا أولي الألباب )، سورة البقرة/197.
ومع ذلك فالبعض يتوهم ألا حاجة في أن يكون الرسالي مجتهدا في النهوض بالأعمال الشعائرية، و القربات التعبدية، ومهتما بإصلاح أحواله القلبية، لأن المجتمع في نظره يعوزه- قبل كل شيء- من يبصره بالخير والصلاح وفضائل الأعمال، وأن العبادات التي يتعدى نفعها إلى الآخرين أفضل من تلك التي يعود نفعها على صاحبها فقط. لذا فإن السيد سليمان من جملة ما قصد وهو يتحدث عن الجوانب العملية في عبادات النبي صلى الله عليه وسلم وزهده، أمران، أولهما: أن من مستلزمات الرسالية، أن يثابر الداعية في ارتقاء مدارج السالكين ومقامات الربانيبن ما استطاع إلى ذلك سبيلا، و أن يبذل الوسع لتكون نفسه التي بين جنبيه هي محط عنايته واهتمامه، قبل العناية بغيره والإهتمام بمن سواه، فإذا رئي وهذه حاله، نفذت كلماته إلى قلوب الخلق، وتمكنت عباراته من نفوسهم، فلسان الحال أبلغ في الأثر من لسان المقال. وأما الخلفية الثانية للشيخ سليمان الندوي رحمه الله من سوق المنهج العملي لرسول الله صلى الله عليه وسلم في العبادات، التأكيد على أسبقية الصلاح والإصلاح الذاتي قبل إصلاح غيره، فالمرء مسؤول عن نفسه قبل غيره. وأية سعادة ترجى حين يكون قلب الداعية خرابا، وقلوب من دعاهم ملئت بمشاعر العبودية من محبة وخوف ورهبة وتعظيم وتوكل....، وأية رسالية هاته حين يربح الداعية الدنيا بما فيها ويخسر نفسه، وذلك هو الخسران المبين.
وهنا أسوق كلاما نفيسا للداعية فتحي يكن رحمه الله من كتابه" قوارب النجاة في حياة الدعاة "، يقول رحمه الله: " الداعية في زحمة الهموم والمشاغل اليومية، السياسية والمعيشية والعائلية والحركية، قد ينسى نفسه، إنه يهتم بكل شيء حوله، ويقدم الخير لكل من حوله، ولكنه مع ذلك قد ينسى نفسه، من الهدى و الخير و العناية و الرعاية، وهنا يحدث ما ليس في الحسبان، ويقع ما فيه من الخسران، خواء النفس وقسوتها ثم فتورها وانحرافها....
إن على الداعية أن يعي أمرا هاما قد يغفل عنه الكثيرون، و هذا الامر هو أنه كداعية مهمته الأساسية أن يربح نفسه أولا، وإلا فما قيمة أن يربح الدنيا ويخسر نفسه...
والداعية إن لم يكن عابدا ربانيا فلا خير فيه، كائنا ما كان ثقافته وعلمه، لأنها ثقافة لم تؤسس على تقوى من الله ورضوان..."
انتهى بحمد الله.
- التصنيف: