الكون وأسرار القرآن - الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون

منذ 2019-07-24

خلق السماوات والأرض من أعظم الأدلة على طلاقة القدرة الإلهية المبدعة‏، فقد أدرك العلماء حقيقة توسع الكون في مطلع القرن العشرين

الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام :1].

هذا النص القرآني المعجز جاء في مطلع سورة الأنعام‏،‏ وهي سورة مكية‏،‏ ومن طوال سور القرآن الكريم‏،‏ إذ يبلغ عدد آياتها ‏(165‏) بعد البسملة‏،‏ وهي السورة الخامسة بعد فاتحة الكتاب في ترتيب سور المصحف الشريف‏،‏ وقد سميت بهذا الاسم لورود ذكر الأنعام فيها‏.

ومن خصائص هذه السورة المباركة أنها نزلت دفعة واحدة وحولها سبعون ألفا من الملائكة فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال‏ :‏ نزلت سورة الأنعام بمكة ليلا جملة واحدة‏،‏ وحولها سبعون ألف ملك يجأرون بالتسبيح‏. وعن أنس بن مالك‏ (رضي الله عنه‏)‏ أنه قال‏ :‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏ "‏ «نزلت سورة الأنعام معها موكب من الملائكة تسد ما بين الخافقين‏،‏ ولهم زجل بالتسبيح‏،‏ والأرض بهم ترتج ورسول الله‏ (صلى الله عليه وسلم‏)‏ يقول‏ :‏ سبحان الله العظيم‏،‏ سبحان الله العظيم » ‏.

ويدور المحور الرئيسي للسورة حول القواعد الأساسية للعقيدة الإسلامية من مثل قضايا الألوهية‏،‏ والربوبية‏،‏ والوحدانية‏،‏ وعبودية المخلوقين لخالقهم‏،‏ إنزاله الوحي رحمة بهم على سلسلة من الأنبياء والمرسلين‏،‏ كان ختامهم أجمعين النبي الخاتم والرسول الخاتم‏،‏ سيد الأولين والآخرين‏،‏ سيدنا محمد بن عبد الله‏ (صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى أنبياء الله ورسله أجمعين‏)‏ وكانت مهمتهم جميعا إبلاغ الناس بحقيقة الدين الإسلامي الحنيف‏،‏ وإرشادهم إلى عبادة الله وحده ـ بغير شريك‏،‏ ولا شبيه ولا منازع‏،‏ ولا زوجة‏،‏ ولا ولد‏. وعبادته تعالى بما أمر ـ بغير ابتداع ولا اختراع ولا إحداث بشري ـ‏،‏ وإقامة عدل الله في الأرض‏،‏ والسعي إلى اكتساب مكارم الأخلاق‏،‏ والاستعداد للبعث والنشور والعرض الأكبر أمام الله‏ (سبحانه وتعالى‏)‏ للحساب والجزاء‏،‏ ثم الخلود في الجنة أبدا لمن أطاعوا داعي الله أو في النار أبدا‏،‏ لمن كفروا بالله أو أشركوا به وكذبوا برسالاته‏،‏ وهذه القضايا تمثل صلب رسالة الإنسان في وجوده‏،‏ ومن هنا وجب أخذها مأخذ الجد‏،‏ والنظر فيها بعين العقل‏،‏ لا بالميراث والتقليد‏،‏ وكلاهما لا ينفع صاحبه‏،‏ ولا يصلح عذرا أمام الله‏ (تعالى‏)‏ " في مساحة الحساب {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ. إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}  (الشعراء:89-88).

وتستهل سورة الأنعام بحمد الله‏ (تعالى‏)‏ الذي يشهد له بالألوهية‏،‏ والربوبية‏،‏ والوحدانية خلق السماوات والأرض‏،‏ وإبداع الظلمات والنور‏،‏ وخلق الإنسان من طين‏،‏ وتحديد آجال الناس‏،‏ وتحديد يوم البعث والحساب‏،‏ وعلمه بالسر والجهر‏،‏ وبما تكسب كل نفس لأنه إله السماوات والأرض ومن فيهن‏،‏ وقيومهما‏،‏ ومليكهما‏،‏ وعلى الرغم من ذلك يكفر به وبنعمه الكافرون‏،‏ ويشرك به المشركون‏،‏ ويزيغ عن هديه الضالون‏...!!‏

وانطلاقا من ذلك كله تبدأ السورة الكريمة بمواجهة الكافرين والمشركين والضالين في كل عصر‏،‏ وفي كل حين بشكر الله والثناء عليه فتقول‏ : (الحمد لله‏)،‏ وهو شكر استهلت به خمس من سور القرآن الكريم‏ (هي‏ :‏ الفاتحة‏،‏ الأنعام‏،‏ الكهف‏،‏ سبأ‏،‏ وفاطر‏)‏ وتتبع الحمد بعدد من الآيات الكونية الدالة على الخالق‏ (سبحانه وتعالى‏)،‏ وعلى شمول علمه وكمال حكمته‏،‏ وطلاقة قدرته‏،‏ ثم تثني بعرض صور من مواقف المكذبين‏،‏ ومصارع الغابرين‏،‏ وتنصح بالسير في الأرض لإدراك كيف كان عاقبة المكذبين‏.

وتنتقل سورة الأنعام إلى استعراض عدد من الشواهد الحسية الدالة على ألوهية الخالق‏ (سبحانه وتعالى‏)‏ وربوبيته ووحدانيته‏،‏ ومنها خلق السماوات والأرض وخلق ما فيهن ومن فيهن‏،‏ ورعاية كل ذلك وصونه من الهلاك‏،‏ فالله‏ (تعالى‏)‏ هو رب السماوات والأرض ومن فيهن‏،‏ وهو رب ما سكن في الليل والنهار‏،‏ وهو‏ (سبحانه‏)‏ الرزاق الذي يطعم ولا يطعم‏،‏ وهو‏ (تعالى‏)‏ الذي يملك أن يعذب من يشاء في الدنيا والآخرة‏،‏ ويملك الضر والخير‏،‏ وهو على كل شيء قدير‏،‏ وهو القاهر فوق عباده‏،‏ وهو الحكيم الخبير‏.

ثم تستعرض السورة الكريمة تأكيد الله الخالق‏ (سبحانه وتعالى‏)‏ على صدق نبوة ورسالة خاتم الأنبياء والمرسلين‏ (صلى الله عليه وسلم‏)‏ الذي تطالبه السورة بإعلان المفاصلة التامة بينه وبين المشركين‏،‏ وذلك بقول الحق‏ (تبارك وتعالى‏) :‏{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إلى هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}  [الأنعام :19].

وتؤكد سورة الأنعام معرفة أهل الكتاب بأن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق تماما كما يعرفون أبناءهم‏،‏ وعلى الرغم من ذلك فهم لا يؤمنون به‏،‏ انطلاقا من ظلمهم لأنفسهم وخسرانهم لها‏،‏ وتصف السورة الكريمة‏،‏ افتراءهم الكذب على الله‏،‏ وتكذيبهم بآياته بأنه من أبشع صور الظلم للنفس‏،‏ وتشير إلى مواقف الحسرة والذلة والمهانة التي يقفها هؤلاء المشركون يوم القيامة‏،‏ وهم يسألون‏ :‏ {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ. ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23-22].

وتذكر السورة الكريمة أن من الكفار والمشركين من يستمع إلى القرآن الكريم بآذان صم‏،‏ وقلوب عمي فلا يكادون يفقهون شيئا منه‏،‏ ولا يدركون شيئا من إعجاز آياته‏،‏ ويصفونه زورا بأنه من أساطير الأولين‏،‏ وهم إذ ينهون غيرهم عنه‏،‏ وينأون بأنفسهم هروبا منه يهلكون أنفسهم في الدنيا والآخرة وهم لا يشعرون‏.

وتصور الآيات حال هؤلاء الكافرين والمشركين وهم موقوفون على النار نادمين على ما سبق منهم من تكذيب بآيات الله‏،‏ طالبين من الله‏ (تعالى‏)‏ أن يردهم إلى الدنيا لكي لا يكذبوا بآيات الله ويكونوا من المؤمنين‏،‏ وترد عليهم السورة بقول الحق‏ (تبارك وتعالى‏)‏ وهو أعلم بهم‏ :‏ {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام :28] وهؤلاء الذين كذبوا بالبعث سوف يفاجأون بموقفهم أمام ربهم وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم‏،‏ وقد خسروا كل شيء لتفاهة الحياة الدنيا الفانية بالنسبة إلى الآخرة الباقية‏.

ثم تنتقل سورة الأنعام إلى مخاطبة رسول الله‏ (صلى الله عليه وسلم‏)‏ بالا يحزن لتكذيب الكافرين والمشركين لبعثته الشريفة‏،‏ فقد كذب الرسل من قبله‏،‏ وفي ذلك يقول له ربنا‏ (تبارك وتعالى‏) :‏ {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ. وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ} (الأنعام:34-33).

وتستمر الآيات في استعراض شيء من طبائع النفس البشرية في حالات الرخاء والشدة‏،‏ فحيث يتجلى سلطان الله محيطا بالعباد فإنهم يتجهون إلى الله‏ (تعالى‏)‏ وحده يرجون رحمته‏،‏ فإذا كشف الضر عنهم رأيتهم يعودون إلى معصية الله‏،‏ وإنكار الحق‏،‏ والجور على الخلق‏،‏ وقد قست قلوبهم وتحجرت مشاعرهم‏...!!‏

وتصف الآيات حال الكافرين والمشركين اليوم‏،‏ وقد فتح الله عليهم أبواب كل شيء ليأخذهم بغتة وهم مبلسون‏،‏ ويقطع دابر الظالمين‏.

وعلى الرغم من ذلك كله فإن آيات سورة الأنعام تبشر التائبين بصدق بأن الله غفور رحيم وتؤكد الآيات إحاطة علم الله بالغيوب والأسرار‏،‏ وبالأنفاس والأعمار‏،‏ مع الهيمنة الكاملة على كل شيء في هذا الوجود‏،‏ والسيطرة التامة في البر والبحر‏،‏ وبالنهار والليل‏،‏ وفي كل لحظة من لحظات الحياة والممات‏،‏ وفي كل ذرة من لبنات بناء كل من الدنيا والآخرة‏.

وتروي السورة المباركة جانبا من سيرة نبي الله إبراهيم‏ (على نبينا وعليه من الله السلام‏)‏ مع قومه من الكفار والمشركين‏،‏ وتعرض لاهتدائه إلى معرفة خالقه‏ (سبحانه وتعالى‏)‏ بالتأمل في بديع صنع الله‏ (تعالى‏)‏ في الكون‏،‏ ثم باصطفاء الله‏ (تعالى‏)‏ له‏،‏ ووهبه النبوة والرسالة‏،‏ ووهبه ـ كذلك ـ ذرية صالحة على الكبر‏.

كذلك ألمحت السورة إلى عدد من أنبياء الله ورسله‏ (صلى الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين‏)‏ من أمثال ساداتنا‏ :‏ نوح‏،‏ وداود‏،‏ وسليمان‏،‏ وأيوب‏،‏ ويوسف‏،‏ وموسى‏،‏ وهارون‏،‏ وزكريا ويحيى‏،‏ وعيسى‏،‏ وإلياس‏،‏ وإسماعيل‏،‏ واليسع‏،‏ ويونس‏،‏ ولوط‏ (صلوات الله وسلامه على نبينا وعليهم أجمعين‏).

وتؤكد الآيات في سورة الأنعام كذلك وحدة رسالات السماء‏،‏ على تكاملها في القرآن الكريم‏،‏ وفي سنة خاتم الأنبياء والمرسلين‏ (صلى الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين‏)‏ وبصفتهما الرسالة الخاتمة فقد تعهد الله‏ (سبحانه وتعالى‏)‏ بحفظهما حفظا كاملا إلى يوم الدين بنفس لغة الوحي‏ (اللغة العربية‏).

وتصف الآيات في هذه السورة المباركة حال كل من الكافرين والمشركين في لحظات الاحتضار‏،‏ وما يتعرضون له من مهانة وإذلال وفي ذلك يقول الحق‏ (تبارك وتعالى‏) :‏ {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إلى وَلَمْ يُوحَ إليهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} (الأنعام :93).

 

ثم تعرض السورة لعدد من الآيات الكونية ـ مرة أخرى ـ في مقام الاستدلال على ألوهية الخالق‏ (سبحانه وتعالى‏)،‏ وربوبيته‏،‏ ووحدانيته‏ (بغير شريك‏،‏ ولا شبيه‏،‏ ولا منازع‏،‏ ولا صاحبة‏،‏ ولا ولد‏)‏ وفي ذلك يقول ربنا‏ (تبارك وتعالى‏):‏ {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام:101] 

ولذلك تأمر الآيات بعبادة الله‏ (تعالى‏)‏ وحده فتقول:‏ {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ. لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103-102].

وتذكر الآيات أن المشركين طالبوا رسول الله‏ (صلى الله عليه وسلم‏)‏ ببعض المعجزات الحسية للتدليل على صدق نبوته‏،‏ وترد عليهم بأن من عميت بصائرهم لا تفيدهم المعجزات الحسية ولو أنزلت عليهم وذلك لتأصيل الضلال فيهم‏.

وتؤكد الآيات في سورة الأنعام مرة أخرى أن أهل الكتاب يعلمون أن القرآن الكريم هو كلام الله‏،‏ ولكنهم على الرغم من ذلك  يصرون على الضلال‏،‏ وتأتي الآيات للرد عليهم على لسان خاتم الأنبياء والمرسلين‏ (صلى الله عليه وسلم‏)‏ لتقول‏:‏ {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِليْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ. وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعليمُ} [الأنعام:115-114].

 وتفصل سورة الأنعام ما حرم الله‏ (تعالى‏)‏ على عباده المؤمنين من الطعام‏،‏ وتأمر بترك ظاهر الإثم وباطنه وتمايز بين أهل الهداية وأهل الضلال والغواية وتقول‏:‏ {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ}  [الأنعام:125].

وتذكر الآيات في سورة الأنعام أن من البشر من شرح الله‏ (تعالى‏)‏ صدورهم‏،‏ وأنار قلوبهم فآمنوا واهتدوا‏،‏ وأن منهم من أتبع نفسه هواها‏،‏ وأطاع شياطين الجن والإنس فضل وغوى‏،‏ وأن الله‏ (تعالى‏)‏ سوف يحشر الخلائق جميعا إليه يوم القيامة للحساب والجزاء على ما قدم كل واحد منهم في حياته الدنيا‏.

 

كذلك تذكر الآيات عن المشركين من أهل الكتاب أنهم حرموا على أنفسهم أشياء لم يحرمها الله‏ (تعالى‏)‏ عليهم تطاولا وتجاوزا وإجراما‏،‏ فكانوا يحرمون ذكور الأنعام تارة‏،‏ وإناثها تارة‏،‏ وصغارها تارة أخرى‏،‏ افتراء منهم على الله‏ (تعالى‏)‏ واختلاقا‏،‏ وتقرر الآيات ظلم من كذب على الله‏ (تعالى‏)‏ فنسب إليه ما لم يشرع‏،‏ وتأمر رسول الله‏ (صلى الله عليه وسلم‏)‏ أن يبين للناس ما حرم الله‏ (تعالى‏)‏ عليهم‏.

وتؤكد الآيات أن الله‏ (تعالى‏)‏ {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام:141].

وتأمر الآيات بالأكل من تلك الثمار‏،‏ وبإعطاء حقها يوم حصادها دون إسراف‏،‏ لأن الله‏ (تعالى‏)‏ لا يحب المسرفين‏،‏ وتؤكد أن الله‏ (تعالى‏)‏ أنزل ثمانية أزواج من الأنعام‏ (ذكرا وأنثى من كل من الضأن‏،‏ والمعز‏،‏ والإبل‏،‏ والبقر‏).

وتختم سورة الأنعام بعدد من الوصايا السلوكية الرفيعة‏،‏ تحرم ما حرم الله‏،‏ وتحل ما أحله‏ (بغير تقصير أو تجاوز أو مخالفه‏)‏ وتدعو إلى الالتزام بمكارم الأخلاق‏،‏ وبسنة سيدنا محمد‏ (صلى الله عليه وسلم‏)،‏ وتؤكد أن من أبلغ صور الظلم التكذيب بآيات الله‏،‏ والإعراض عنها‏،‏ وأن الله‏ (تعالى‏)‏ سيجزي الذين يصدفون عن آياته سوء العذاب بما كانوا يصدفون‏.

وتندد الآيات في ختام السورة بالذين حرفوا دينهم من أهل الكتاب وصاروا شيعا‏،‏ ويكذبون بعثة سيدنا محمد‏ (صلى الله عليه وسلم‏)‏ فتقول‏:‏ {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام:159]

وتنتهي السورة الكريمة بحديث على لسان الرسول الخاتم‏ (صلى الله عليه وسلم‏)‏ فتقول‏: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عليها وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ. وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:161-165].

وفي مقال سابق قمنا بتلخيص كل من ركائز العقيدة الإسلامية والتشريع الإسلامي والآيات الكونية التي وردت في سورة الأنعام ولذلك لا أرى داعيا لتكرارها هنا حيث سنركز الحديث على الآية الأولى من هذه السورة المباركة‏،‏ وقبل الوصول إلى ذلك لابد من استعراض سريع لأقوال عدد من المفسرين في شرحها‏.

 

من أقوال المفسرين : 

في تفسير قوله‏ (تعالى‏) :‏ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} " [الأنعام:1].ذكر الطبري‏ (رحمه الله‏)‏ في مختصر تفسيره ما نصه‏ : (الحمد لله‏) :‏ الشكر لله وحده دون غيره‏ (وجعل الظلمات‏) :‏ ظلمات الليل‏،‏ وجعل بمعنى‏ :‏ وأظلم ليلها‏،‏ وأنار نهارها‏، (والنور‏)‏ نور النهار‏ (يعدلون‏)‏ يشركون‏،‏ يقال‏ :‏ عدلت هذا بهذا إذا ساويته به‏.

ذكر ابن كثير‏ (يرحمه الله‏)‏ ما نصه‏ :‏ يقول الله تعالى مادحا نفسه الكريمة‏،‏ وحامدا لها على خلقه السماوات والأرض قرارا لعباده‏،‏ وجعل الظلمات والنور منفعة لعباده في ليلهم ونهارهم‏،‏ فجمع لفظ الظلمات‏،‏ ووحد لفظ النور لكونه أشرف‏... ثم قال تعالى‏ : {‏ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} ‏ [الأنعام:1]. أي ومع هذا كله كفر به بعض عباده‏،‏ وجعلوا له شريكا وعدلا‏،‏ واتخذوا له صاحبة وولدا‏،‏ تعالى الله عز وجل عن ذلك علوا كبيرا‏.

وجاء في تفسير الجلالين‏ (رحم الله كاتبيه‏)‏ ما نصه‏ :"الحمد‏"وهو الوصف بالجميل ثابت‏"لله‏"وهل المراد الإعلام بذلك للإيمان به‏،‏ أو‏ :‏ الثناء به‏،‏ أو‏ :‏ هما؟ احتمالات أفيدها الثالث‏ [‏ أي للإيمان والثناء معا‏]‏ قاله الشيخ الجلال المحلي في تفسير أول سورة الكهف‏ (الذي خلق السماوات والأرض‏)‏ خصهما بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات للناظرين‏ "وجعل‏"‏ خلق‏ "الظلمات والنور‏" أي‏ :‏ كل ظلمة ونور‏،‏ وجمعها دونه لكثرة أسبابها‏،‏ وهذا من دلائل وحدانيته‏"ثم الذين كفروا‏"مع قيام هذا الدليل‏ "بربهم يعدلون‏" يسوون به غيره في العبادة‏.

وذكر صاحب الظلال‏ (رحمه الله رحمة واسعة‏)‏ ما نصه‏:‏ إنها اللمسات الأولي‏.. تبدأ بالحمد لله‏،‏ ثناء عليه‏،‏ وتسبيحا له‏،‏ واعترافا بأحقيته للحمد والثناء‏،‏ على ألوهيته المتجلية في الخلق والإنشاء‏...‏ بذلك تصل بين الألوهية المحمودة وخصيصتها الأولى‏...‏ الخلق‏،‏ وتبدأ بالخلق في أضخم مجالَيّ الوجود‏...‏ السماوات والأرض‏...‏ ثم في أضخم الظواهر الناشئة عن خلق السماوات والأرض وفق تدبير مقصود‏...‏ الظلمات والنور‏...‏ فهي اللمسة العريضة التي تشمل الأجرام الضخمة في الكون المنظور‏،‏ والمسافات الهائلة بين تلك الأجرام‏،‏ والظواهر الشاملة الناشئة عن دورتها في الأفلاك‏...‏ لتعجب من قوم يرون صفحة الوجود الضخمة الهائلة الشاملة تنطق بقدرة الخالق العظيم كما تنطق بتدبيره الحكيم‏،‏ وهم بعد ذلك كله لا يؤمنون ولا يوحدون ولا يحمدون‏،‏ بل يجعلون لله شركاء يعدلونهم به ويساوونه‏ : {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1].

 

وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن‏ (رحم الله كاتبه‏)‏ ما نصه‏ : "الحمد لله‏"‏ إعلام بأنه تعالى حقيق بالحمد والثناء‏،‏ مستوجب لهما‏،‏ لخلقه السماوات والأرض‏،‏ على ما هما عليه من بديع الصنع والإحكام‏،‏ وخلقه الظلمات والنور‏،‏ أو ظلمات الليل ونور النهار‏،‏ منفعة للعباد‏،‏ وآيات للمتفكرين‏،‏ ودلائل على وحدانيته وقدرته وتدبيره‏، "وجعل‏" أي أحدث وخلق‏ "ثم الذين كفروا‏" أي ثم الذين كفروا مع قيام هذه الدلائل الظاهرة يسوون بربهم غيره مما لا يقدر على شيء من ذلك‏،‏ فيكفرون به‏،‏ أو يجحدون نعمته‏،‏ فأي شيء أعجب من ذلك وأبعد عن الحق‏!،‏ من العدل بمعني التسوية‏،‏ وقوله‏ "بربهم‏"‏ متعلق بقوله‏ "يعدلون‏"،‏ أو ثم الذين كفروا بربهم يميلون عنه‏،‏ وينصرفون إلى غيره من خلقه‏،‏ فيعبدون ما لا يستحق العبادة‏،‏ من العدول‏...

وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم‏ (جزاهم الله خيرا‏)‏ ما نصه‏ :‏ الثناء والذكر الجميل لله‏،‏ الذي خلق السماوات والأرض‏،‏ وأوجد الظلمات والنور لمنفعة العباد بقدرته وعلى وفق حكمته‏،‏ ثم مع هذه النعم الجليلة يشرك به الكافرون‏،‏ ويجعلون له شريكا في العبادة‏!.

 

وجاء في صفوة التفاسير‏ (جزي الله كاتبها خيرا‏)‏ ما نصه‏ :‏ بدأ سبحانه وتعالى هذه السورة بالحمد لنفسه تعليما لعباده أن يحمدوه بهذه الصيغة الجامعة لصنوف التعظيم والتبجيل والكمال وإعلاما بأنه المستحق لجميع المحامد فلا ند له ولا شريك‏،‏ ولا نظير ولا مثيل ومعني الآية‏ :‏ احمدوا الله ربكم المتفضل عليكم بصنوف الإنعام والإكرام الذي أوجد وأنشأ وابتدع خلق السماوات والأرض بما فيهما من أنواع البدائع وأصناف الروائع‏،‏ وبما اشتملا عليه من عجائب الصنعة وبدائع الحكمة بما يدهش العقول والأفكار تبصرة وذكرى لأولي الأبصار‏ "وجعل الظلمات والنور‏"‏ أي وأنشأ الظلمات والأنوار وخلق الليل والنهار يتعاقبان في الوجود لفائدة العوالم بما لا يدخل تحت حصر أو فكر‏،‏ وجمع الظلمات لأن شعب الضلال متعددة‏،‏ ومسالكه متنوعة‏،‏ وأفرد النور لأن مصدره واحد هو الرحمن منور الأكوان‏..‏‏{‏ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} أي ثم بعد تلك الدلائل الباهرة والبراهين القاطعة على وجود الله ووحدانيته يشرك الكافرون بربهم‏....‏

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام :1].

 

من الدلالات العلمية للآية الكريمة :

أولا‏ :‏ خلق السماوات والأرض من أعظم الأدلة على طلاقة القدرة الإلهية المبدعة‏:‏

فقد أدرك العلماء حقيقة توسع الكون في مطلع القرن العشرين‏،‏ وأدى إدراك تلك الحقيقة إلى الاستنتاج الصحيح بأن كوننا بدأ خلقه من نقطة متناهية الضالة في الحجم‏،‏ ومتناهية الضخامة في كم المادة والطاقة‏،‏ وأن هذه النقطة انفجرت فتحولت إلى سحابة من الدخان الذي خلقت منه الأرض والسماوات‏.

ومع توسع الكون تم تبرده من مئات البلايين من الدرجات المطلقة إلى حوالي الثلاث درجات المطلقة تقاس اليوم على جميع أطراف الجزء المدرك لنا من السماء الدنيا‏،‏ تخلقت المادة ونقائضها‏،‏ ومختلف صور الطاقة وأضدادها على مراحل متتالية يحددها العلماء في النقاط التالية‏ :‏

‏(1)‏ عصر الكواركات والجليونات:‏

وقد استمر لجزء من مائة ألف مليون جزء من الثانية بعد عملية الانفجار العظيم وفيه خلقت اللبنات الأولية للمادة كما خلقت أضدادها من الدخان الكوني وذلك من مثل الكواركات وأضدادها النيوترينوات ونقائضها‏.

وكان الدخان الكوني كثيفا مظلما معتما‏،‏ وكانت الجاذبية قوة منفصلة رابطة أجزاء هذا الدخان الكوني‏،‏ بينما انفصلت القوة الشديدة عن القوة الكهربية الضعيفة‏،‏ ويعتقد أن أعداد هذه الجسيمات الأولية كان يفوق أعداد نقائضها وإلا ما وجد الكون‏،‏ أو أن إرادة عليا فصلت بين تلك الجسيمات ونقائضها حتى تقوم السماوات والأرض بأمر الله‏. وكانت هذه الفترة فترة تمدد ملحوظ وتوسع مذهل للكون‏.

 

‏(2)‏ عصر اللبتونات:‏

وقد استمر إلى جزء من مليون جزء من الثانية بعد عملية الانفجار العظيم‏،‏ وفيه تمايزت اللبتونات‏ (وهي أخف اللبنات الأولية للمادة مثل الإليكترونات والنيوترينوات وأضدادها عن الكواركات‏،‏ كما تمايزت البوزونات‏،‏ وانفصلت القوة الضعيفة‏)‏ عن اتحاد القوي المعروف باسم القوة الكهربية الضعيفة‏.

‏(3)‏ عصر النيوكليونات وأضدادها‏:‏

وقد استمر إلى‏225‏ ثانية بعد عملية الانفجار العظيم‏،‏ وفيه اتحدت الكواركات مع بعضها البعض لتكون النيوكليونات وأضدادها من مثل البروتونات ونقائضها‏،‏ والنيوترونات ونقائضها‏،‏ وكانت الطاقة على قدر من الضعف لا يسمح بتكون النيوكليونات وأضدادها على نطاق واسع وإلا ما وجد الكون‏.

‏(4)‏ عصر تخلق نـوى ذرات العناصر‏:‏

وقد استمر في الفترة من‏225‏ ثانية إلى ألف ثانية بعد عملية الانفجار العظيم‏،‏ وفيه تكونت الديوترونات الثابتة وهي تنتج عن ترابط بروتون مع نيوترون‏،‏ ومع تكوينها بدأت عملية الاندماج النووي في تكوين نوى ذرات الإيدروجين‏. وباتحادها تكونت نوى ذرات الهيليوم وبعض نوى الذرات الأثقل حتى وصلت نسبة الإيدروجين إلى ‏%74،‏ والهيليوم إلى‏%25،‏ ونوى بعض العناصر الأثقل وزنا إلى‏%1.

‏(5)‏ عصر تخلق الأيونات‏:‏

وقد استمر في الفترة من ألف ثانية إلى عشرة تريليونات ثانية بعد الانفجار العظيم‏،‏ وفيه تكونت أيونات كل من غازي الإيدروجين والهيليوم‏،‏ واستمر الكون في الاتساع والتبرد‏.

‏(6)‏ عصر تخلق الذرات‏:‏

ويمتد في الفترة من عشرة تريليونات ثانية إلى ألف تريليون ثانية بعد عملية الانفجار العظيم‏،‏ وفيه تكونت ذرات العناصر‏،‏ وترابطت بقوي الجاذبية وأصبح الكون شفافا‏.

‏(7)‏ عصر تخلق النجوم والمجرات‏:‏

وقد امتد في الفترة من ألف تريليون ثانية‏ (أي نحو‏32‏ مليون سنة من سنينا الراهنة‏)‏ بعد عملية الانفجار العظيم إلى اليوم‏ (أي نحو عشرة بلايين من السنين‏)،‏ وفيه تخلقت أغلب العناصر المعروفة لنا‏ (وهي أكثر من مائة وخمسة عناصر‏)‏ بعملية الاندماج النووي في داخل النجوم حتى تكون عنصر الحديد في داخل المستعرات والمستعرات العظمى‏،‏ وتكون العناصر الأعلى وزنا ذريا من نوى ذرات الحديد باصطيادها للبنات الأولية للمادة المنتشرة في صفحة السماء‏.

 

ولقد سبق القرآن الكريم هذه المعارف العلمية بأربعة عشر قرنا وذلك بقول الحق‏ (تبارك وتعالى‏) :‏ {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء:30].

وقوله‏ (عز من قائل‏):‏ {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11].

وقوله‏ (سبحانه وتعالى‏):‏ ‏{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:47].

وهذه المراحل تؤكد الحكمة والتدبير الفائقين في خلق السماوات والأرض لأن أدني مفارقة في الحساب كان من الممكن أن تبطل بناء الكون‏،‏ وذلك يشمل حسابات الكم والكيف‏،‏ ودرجات الحرارة‏،‏ ومعدلات التوسع‏،‏ وانضباط التفاعلات‏،‏ خاصة أن العملية كلها ناتجة عن انفجار الجرم الأولي‏،‏ وأن من طبيعة الانفجار أن يؤدي إلى الدمار وإلى بعثرة كل شيء وتناثره‏،‏ أما انفجار يؤدي إلى بناء كون بهذه السعة‏،‏ وضخامة أعداد الأجرام‏،‏ وانضباط حركاتها‏،‏ وسرعات دورانها‏،‏ وعلاقاتها ببعضها البعض‏،‏ لابد وأن يكون قد سبقه وزامنه وتبعه من دقة التقدير‏،‏ وإبداع التكوين‏،‏ وحسن الرعاية ما أوصله إلى ما نراه في الأنفس والآفاق من حولنا‏،‏ وهو ما يشهد للخالق العظيم بطلاقة القدرة‏،‏ وكمال الصنعة‏،‏ ودقة التقدير‏...!!.

 

ثانيا‏:‏ خلق الظلمات والنور من الأدلة على طلاقة القدرة الإلهية المبدعة والمستوجبة الحمد لله‏ (تعالى‏):‏

من الراجح علميا أن كوننا بدأ بحالة من الدخان الداكن الكثيف التي استمرت على مدي ثلاثين مليون سنة من سنينا الحالية على أقل تقدير‏،‏ ثم بدأ الكون من بعدها في التحول من الشفافية القادرة على استقبال الضوء الناتج عن عملية الاندماج النووي في داخل النجوم‏،‏ والتي استمرت على مدي فترة تقدر بعشرة مليارات من السنين على أقل تقدير إلى زماننا الحالي‏،‏ وإلى أن يشاء الله‏ (تعالى‏). ولما كان ضوء النجوم ـ في غالبيته ـ غير مرئي تعددت الظلمات في كوننا على النحو التالي‏ :‏

‏(1)‏ الظلمة الأولية للكون:‏

وقد استغرقت الفترة من بعد عملية الانفجار العظيم وحتى بدايات عملية الاندماج النووي‏،‏ وتقدر بنحو الثلاثين مليون سنة من سنينا الحالية‏. وقد تميزت هذه الفترة بالكثافة العالية لمادة الكون في صورها الأولية‏،‏ وبالعتمة الكاملة‏،‏ والإظلام التام‏.

 

‏(2)‏ الظلمة الحالية للكون:‏

بعد عملية الانفجار العظيم بنحو الثلاثين مليون سنة تخلقت النجوم وبدأت عملية الاندماج النووي الحراري بداخلها‏،‏ ولا تزال مستمرة إلى يومنا الحالي بعد أكثر من عشرة مليارات من السنين وإلى أن يشاء الله‏ (سبحانه وتعالى‏)،‏ وبذلك بدأت النجوم في إرسال أضوائها إلى فسحة السماء وإن كانت أغلب تلك الأضواء غير مرئية لتكونها من سلسلة متصلة من الأمواج الكهرو ـ مغناطيسية التي تشمل موجات الراديو بمختلف أطوالها‏،‏ والأشعة تحت الحمراء‏،‏ وأطياف الضوء المرئي‏،‏ والأشعة فوق البنفسجية والأشعة السينية‏،‏ وأشعة جاما‏،‏ وهذه الموجات الكهرومغناطيسية لا تختلف فيما بينها إلا في تردداتها وأطوال موجاتها‏،‏ ويمتد الطول الموجي للطيف الكهرومغناطيسي بين عدة كيلومترات لموجات الراديو‏ (الموجات اللاسلكية‏)‏ وبين جزء من بليون جزء من المليمتر لأشعة جاما‏،‏ أما الأشعة البصرية فتتراوح أطوال موجاتها بين‏0،01‏ ميكرون ومائة ميكرون‏ (والميكرون‏=0،001‏ ملليمتر‏)،‏ وتضم موجات الضوء المرئي والأشعة تحت الحمراء‏،‏ والأشعة فوق البنفسجية‏. وتميز عين الإنسان من أطياف الضوء المرئي‏ :‏ الأحمر‏ (وهو أطولها وأقلها ترددا‏)‏ ثم البرتقالي‏،‏ فالأصفر‏،‏ والأخضر‏،‏ والأزرق‏،‏ والنيلي والبنفسجي‏ (وهو أقصر موجات الطيف المرئي وأعلاها ترددا‏)،‏ وهذه الموجات لا ترى بوضوح إلا في طبقة النهار وهي جزء يسير من الغلاف الغازي للأرض المحيط بنصفها المواجه للشمس لا يتعدى سمكه مائتي كيلومتر‏،‏ وفيه يتم انعكاس هذه الأطياف بواسطة هباءات الغبار وقطيرات الماء‏،‏ واختلاطها مع بعضها البعض لتعطينا نور النهار الأبيض الذي يتمتع به أهل الأرض وأهل كل كوكب له غلاف غازي مماثل‏. وعلى ذلك فإننا إذ تجاوزنا طبقة النهار فإننا نري الشمس قرصا أزرق في صفحة سوداء شديدة الإظلام وهذه هي ظلمة الكون الحالي التي وصفها الحق‏ (تبارك وتعالى‏)‏ بقوله‏ (عز من قائل‏) :‏ {وَلَوْ فَتَحْنَا عليهمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر:15,14].

وقوله‏ (سبحانه‏)‏ في وصف السماء‏ :‏ {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} [النازعـات:29]. 

هذه ظلمة ليل السماء‏،‏ وهي ظلمة تزداد حلوكة عندما تلتقي مع ظلمة ليل الأرض‏،‏ ويحدثها دوران الأرض حول محورها أمام الشمس فيتقاسم سطح الأرض الليل والنهار‏،‏ الليل في نصف الكرة الأرضية غير المواجه للشمس‏،‏ والنهار في نصفها المواجه للشمس‏.

 

‏(3)‏ ظلمة أعماق البحار والمحيطات‏:‏

من الثابت علميا أن قيعان البحار العميقة والمحيطات تغرق في ظلام دامس‏،‏ وذلك لأن أعماقها تتراوح بين مئات الأمتار‏،11034‏ مترا‏،‏ بمتوسط يقدر بنحو‏3795‏ مترا‏،‏ وأشعة الشمس لا يمكنها الوصول إلى تلك الأعماق أبدا‏،‏ فمن الثابت أن نطاق الأوزون في الغلاف الغازي للأرض يرد أغلب الموجات فوق البنفسجية إلى خارج نطاق الأرض‏،‏ بينما تعكس السحب نحو‏30‏% وتمتص نحو‏19‏% من باقي أشعة الشمس‏،‏ وبذلك لا يصل إلى سطح الماء في البحار والمحيطات أكثر من ‏51‏% من أشعة الشمس الساقطة عليها وبمجرد سقوط هذه النسبة تعكس الأمواج السطحية‏%5‏ منها‏،‏ وتستهلك ‏35‏% من الأشعة تحت الحمراء في تبخير الماء وفي عمليات التمثيل الضوئي التي تقوم بها بعض النباتات البحرية‏.

وعند نفاذ الجزء المتبقي من أشعة الشمس إلى داخل كتلة الماء فإنه يتعرض للعديد من عمليات الانكسار‏،‏ والتحلل إلى أطيافه المختلفة التي تمتص بالتدريج حسب أطوال موجاتها بدءا بالأحمر وانتهاء بالبنفسجي.

وبذلك فإن معظم موجات الضوء المرئي من أشعة الشمس يمتص على عمق يصل إلى ‏100‏م تقريبا من مستوى سطح الماء في البحار والمحيطات،‏ ويعرف هذا النطاق باسم النطاق المضيء ويستمر ‏1%‏ فقط من أشعة الشمس إلى عمق‏ 150‏م ‏، %0،01‏ إلى عمق ‏200‏ م في الماء الصافي الخالي من العوالق‏،‏ ويظل هذا القدر الضئيل من الضوء المرئي يتعرض للانكسار والتشتت والامتصاص حتى يتلاشى تماما على عمق لا يكاد يصل إلى الألف متر تحت مستوى سطح البحر حيث لا يبقى من ضوء الشمس شيء يذكر ‏(جزء واحد من عشرة تريليونات جزء‏ )،‏ هذا إذا لم تحل الأمواج العميقة حيلولة كاملة دون وصول الضوء إلى تلك الأعماق‏،‏ ويبدأ تكون تلك الأمواج على عمق ‏40‏ م تقريبا من مستوى سطح البحر‏،‏ وقد تتكرر على أعماق دون ذلك..‏ ويصف القرآن الكريم ظلمة قيعان البحار العميقة بقول الحق‏ (تبارك وتعالى‏) :‏ " {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } [النور:40].

‏(4)‏ ظلمات الأرحام:‏

ويصفها الحق‏  (تبارك وتعالى‏ )‏ بقوله‏: {‏ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [الزمر:6].

وقد فسرت هذه الظلمات الثلاث بظلمة البطن‏،‏ يليها إلى الداخل ظلمة الرحم،‏ يليها إلى الداخل ظلمة المشيمة بأغشيتها السلوية وما بها من سائل مخاطي.

‏(5)‏ ظلمة القبر كنموذج لظلمة كل مكان مغلق في باطن الأرض أو على سطحها‏:‏

من السنة النبوية الشريفة أن يعمق القبر قدر قامة وبسطة‏،‏ وأن يشق اللحد في جانب القبر جهة القبلة ويوضع فيه جسد الميت على جنبه الأيمن ووجهه تجاه القبلة‏،‏ ثم على اللحد ينصب الطوب اللبن ‏ (الطوب النيئ)‏ ثم يملأ القبر بالرمال أو التراب‏،‏ ويرفع قدر شبر عن الأرض‏. وقد يكتفي بشق حفرة في وسط القبر تبني جوانبها باللبن‏،‏ ثم يوضع فيها الميت ويسقف عليه بشيء مما لم يدخل النار من مثل الخشب ثم تهال عليه الرمال أو التراب إلى ارتفاع شبر فوق الأرض‏،‏ إلا أن اللحد أولى‏.

وبعد إغلاق القبر تكون الظلمة فيه كاملة‏ ،‏ ومنها استعاذ رسول الله ‏(صلى الله عليه وسلم‏ ).

وتشبه ظلمة القبر ظلمة الكهوف‏،‏ والمغائر‏ (المغارات‏)‏ والمناجم‏،‏ والحفر الأرضية العميقة‏،‏ وكذلك ظلمة المخابئ‏،‏ والأماكن المغلقة إغلاقا محكما‏.

أما نور النهار الأبيض الجميل فلا يرى إلا في الجزء السفلي من الغلاف الغازي المحيط بنصف الأرض المواجه للشمس إلى سمك مائتي كيلومتر فقط حيث يتوافر القدر الكافي من هباءات الغبار وقطيرات الماء وجزيئات الغازات الهوائية التي تعكس وتشتت وتخلط موجات الطيف المرئي حتى تعطي لنا ذلك النور الأبيض المبهر الذي يميز النهار،‏ والذي يصفه الحق‏ (تبارك وتعالى)‏ بقوله‏:‏ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا. وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا. وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا} [الشمس:1-3].

وأشار إلى رقة طبقة النهار بقوله‏ (عز من قائل‏):‏ {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يــس :37].

وقوله: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [غافر:61].

فسبحان الذي أنزل في محكم كتابه قوله الحق‏ :‏ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1].

فجمع الظلمات لتعددها وسيادتها في الكون،‏ وأفرد النور لخصوصيته ومحدوديته في الوجود ‏،‏ وعدم تعدده،‏ وهي حقائق لم تدرك إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين‏،‏ وورودها في كتاب الله الذي أنزل من قبل ألف وأربعمائة سنة على نبي أمي‏ (صلى الله عليه وسلم‏)‏ وفي أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين لما يجزم بأن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق‏،‏ وبأن الرسول الخاتم الذي تلقاه كان موصولا بالوحي،‏ ومعلما من قبل خالق السماوات والأرض‏،‏ فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه،‏ ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين.

زغلول النجار

أستاذ علم الجيولوجيا بالعديد من جامعات العالم

  • 3
  • 0
  • 81,314
 
المقال التالي
إن عده الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعه حرم‏

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً