بين فرض و فضل

منذ 2019-08-26

لا داعي أن نصدر أحكاماً سريعة في مسائل فقهية و لا نعود لنسمع رأي علماؤنا و فقهاؤنا، فإن أجرأكم علي الفتيا أجرأكم علي النار.

عندما تغيب عنا حقائق الدين تدخل الأعراف و العادات الإجتماعية لتحل محلها، فإن لم تكن ما ألفناه من الإلف الإجتماعي يتدخل الهوى فتميع الحقائق و تضيع الحقوق و مما ألفناه في مجتمعاتنا العربية أننا نأخذ بجانب واحد من رأي الفقهاء و قد يكونوا قلة و ننحي جوانب فقهية لجمهور الفقهاء لأن رأي القلة هذا يوافق هوانا، أضرب مثالاً واضحاً لهذا الأمر بالإجابة عن هذا السؤال:

ما هو حكم خدمة المرأة في بيت زوجها ؟

سوف تكون الإجابة من الجميع أنه لا محل للإعراب في هذا السؤال لأنه يجب عليها أن تخدمه، لكن هذا رأي الذكور العرب، لكن هذا ملخص آراء الرجال من الفقهاء اللذين يستنبطون الأحكام الشرعية وفق الكتاب و السنة:

أولاً : ذهب الجمهور إلي أنه لا يجب علي المرأة أن تخدم زوجها في بيته.!

قال ابن القيم : (منعت طائفة وجوب خدمتها عليه في شئ) . و ممن ذهب إلي ذلك مالك و الشافعي و أبو حنيفة و أهل الظاهر.

فبالنسبة للحنفية فإنهم أوجبوا علي الرجل أن يوفر لزوجته من يخدمها. قال أبو جعفر الطحاوي : (علي الزوج النفقة على زوجته فيما لا غنى بها عنه من طعام و من شراب و من خدمة بالمعروف على الموسع قدره و على المقتر قدره. و على الزوج أن ينفق لزوجته على خادمها و ليس عليه أن ينفق لها على أكثر منها من الخدم بعد أن تكون تلك الخادمة متفرغة لخدمتها لا شغل لها غيره).

لكن هذا مقَيَّد عندهم بما إذا كانت الزوجة من أهل الإخدام و إلا فقد جاء في حاشية ابن عابدين أن المرأة  إذا كانت ممن يخدم نفسها و تقدر على ذلك لا يجب عليه إخدامها و لا يجوز أخذ الأجرة على ذلك لوجوبه عليها ديانة و لو شريفة، لأنه عليه الصلاة و السلام قسم الأعمال بين علي و فاطمة فجعل أعمال الخارج على علي (كرم الله وجهه) و الداخل علي فاطمة (رضي الله عنها) مع أنها سيدة نساء العالمين.

و بالنسبة للمالكية فإنهم نظروا إلي المسألة من جانبين:

أحدهما حال المرأة بحيث فرقوا بين التي هي من أهل الإخدام فهذه معفاة عندهم من خدمة البيت و يتكلف الزوج بتوفير من يخدمها و بين التي هي ليست من أهل الإخدام فتلزمها خدمة البيت.

و الجانب الثاني : حال الزوج من حيث اليسرو العسر،  فيلزم الموسر وحده عندهم توفير خادم لزوجته. و في هذا قال الباجي : (عليه إخدامها إن كانت ممن لا تخدم نفسها لمالها و غني زوجها و ليس من الخدمة الباطنة في بيتها شئ و إن كانت من أهل الضعة و ليس في صداقها ما تشتري به خادماً، فليس علي الزوج أن يخدمها و عليها الخدمة الباطنة، و إن كان الزوج معسراً فليس عليه إخدامها و إن كانت ذات قدر و شرف) .

و لم يقبل ابن القيم الجوزية و هو من القائلين بوجوب خدمة الزوجة في بيتها التمييز بين النساء في هذه المسألة ، فذكر أنه (لا يصح التفريق بين شريفة و دنيئة و فقيرة و غنية).

و بالنسبة للشافعية فإن الإمام الشافعي ذهب إلي قول المالكية في المسألة، غير أنه لم يراع حال الزوج المادية كما راعاها المالكية فألزمه بتوفير من يخدم زوجته إن كانت من أهل الإخدام في حالة يسره و عسره معاً فقال : ( وإن كان مثلها لا يخدم نفسها، وجبت عليه نفقة خادم لها)، و قال عند حديثه عن قول الله تعالي : {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: ٣] يحتمل أن يكون عليه لخادمها نفقة إذا كانت ممن يُعرَف أنها لا تخدم نفسها، و هو مذهب غير واحد من أهل العلم.

و احتج لهذا الرأي أبو الحسن الماوردي بقوله تعالي : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّـهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}  [النساء: ١٩]  فجعل الخدمة من المعتاد المعروف، و بقوله (صلى الله عليه وسلم) لهند بنت عتبة زوجة أبي سفيان : «خذي ما يكفيك و ولدك بالمعروف». فعد الخادم من المعروف و هو خاص بالمرأة التي يكون لمثلها خدم.

و بالنسبة للحنابلة فرأيهم في المسألة:

أن الزوجة لا تلزم بخدمة زوجها في بيته، اللهم إلا أن يكون العرف جري علي أن تقوم المرأة بخدمة البيت فيكون الأولي أن تقوم بها، و هذا ظاهر قول ابن قدامة : (و ليس علي المرأة خدمة زوجها من العجن و الخبز و الطحن و أشباهه، نص عليه أحمد،   لنا أن المعقود عليه من جهتها الإستمتاع فلا يلزمها غيره كسقي دوابه و حصاد زرعه و لكن الأولي لها فعل ما جرت عليه العادة بقيامها به، لأنه العادة ولا تصلح الحال إلا به و لا تنتظم المعيشة بدونه).

و أيضاً هو ظاهر ما جاء في كشاف القناع : (فإن احتاجت الزوجة إلي من يخدمها لكون مثلها لا يخدم نفسها أو لموضعها و لا خادم لها، لزمه لها خادم لقوله تعالي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّـهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: ١٩] و لأنه لا يحتاج إليه علي الدوام.

ظاهر هذه النصوص أن مذهب الحنابلة يوافق مذهب المالكية في هذه المسألة بنظرهم فيها إلي حال الزوجة هل هي من أهل الإخدام أم لا، و يوافق قول الحنفية في القول الآخر ليس علي الزوجة خدمة البيت، و هو معلل عندهم بأن المعقود عليه من جهتها الإستمتاع مع أنه حق مشترك بينهما .

و بالنسبة لابن حزم فإنه نفي أن يكون من الواجب علي الزوجة شريفة كانت أو وضيعة أن تخدم زوجها في شئ من أعمال البيت، و يري استحباب قيامها بالخدمة الباطنة متطوعة فأعلن أنه (لا يلزم المرأة أن تخدم زوجها في شئ أصلاً لا في العجن و لا في الطبخ و لا فرش و لا كنس و لا غزل و لا غير ذلك أصلاً و لو أنها فعلت لكان أفضل لها و علي الزوج أن يأتيها بكسوتها مخيطة تامة و بالطعام مطبوخاً تاماً) و حصر ما يجب علي المرأة نحو زوجها في (أن تحسن معاشرته و لا تصوم تطوعاً و هو حاضر إلا بإذنه، و لا تدخل بيته من يكره و أن لا تمنعه نفسها متي أراد و أن تحفظ ما جعل عندها من ماله) و رأيه هذا مبني علي عدم وجود نص في الشرع يلزم المرأة بالخدمة الباطنة، و إن ما ورد من أحاديث مثل حديث فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذي اشتكت فيه إلي أبيها ما تلقاه من تعب مصالح البيت و عدم استجابته لطلبها بتوفير خادم لها، و كذا حديث أسماء بنت أبي بكر الذي وصفت فيه ما كانت تقوم به في خدمة زوجها الزبير، فلم ير فيهما حجة للقول بوجوب ذلك عليهما، لأنه (ليس في شئ منها و لا من غيرها أنه (صلى الله عليه وسلم) أمرهما بذلك إنما كانتا متبرعتين و هما أهل الفضل و المبرة رضي الله عنهما. و نخن لا نمنع من ذلك إن تطوعت المرأة به إنما نتكلم علي سر الحق الذي تجب فيه الفتيا و القضاء بإلزامه). و قد جعلهما متبرعتين بها أيضاً الإمام النووي .

و للأمانة العلمية و الفقهية هناك رأي آخر يري وجوب خدمة المرأة في بيت زوجها يراه ابن تيمية و ابن القيم ، فيري ابن تيمية أن خدمتها في بيت زوجها تدخل ضمن المعاشرة بالمعروف بين الطرفين، و يري كذلك ابن القيم رأي شيخه ابن تيمية .

و من الفقهاء المعاصرين اللذين يرون وجوب الخدمة من المرأة في بيت زوجها : الشيخ محمد عبده و الشيخ محمود شلتوت و الشيخ أبو زهرة و الشيخ يوسف القرضاوي، مع إرشادهم أن يوفر الزوج لزوجته من يعينها علي أعمال البيت إذا توفرت قدرته .

و كان الشيخ محمد عبده يقول : إن المماثلة في توزيع الأعمال بين الزوجين علي المرأة تدبير المنزل و القيام بالأعمال فيه و علي الرجل السعي و الكسب خارجه و هو لا ينافي استعانة كا منهما بالخدم عند الحاجة أي ذلك مع القدرة عليه، و هذا هو التقسيم الفطري الذي تقوم به مصلحة الناس . (الأعمال الكاملة للشيخ محمد عبده ج4)

 و يري الشيخ أبو زهرة أنه : (ليس من الشرع الإسلامي في شئ قول من يقول إن المرأة ليس عليها خدمة بيتها أو القيام علي شؤونه و هو بعيد عن الإسلام بعده عن المألوف الموروث و هو حق جري به العرف في كل العصور) . و يري البعض الآخر اعتماد الفقه علي ما جري من العرف في إلزام المرأة بأشغال البيت .

هل رأيتم أنه لا داعي أن نصدر أحكاماً سريعة في مسائل فقهية و لا نعود لنسمع رأي علماؤنا و فقهاؤنا،  فإن أجرأكم علي الفتيا أجرأكم علي النار.

نسأل الله أن يهدينا سواء السبيل.

عمر عبد الكافي

حاصل على ماجستير في الفقه المقارن من كلية الدراسات الإسلامية والعربية

  • 8
  • 0
  • 4,526

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً