محمـود شاكـر المقاتل التراثي الشجاع
كما يكون الخير فى حياة العظماء يكون الخير فى موتهم أيضا ؛ ذلك لأن حياتهم عطاء كبير . ولأن موتهم تنبيه إلى من بعدهم ليحملوا الرسالة ويواصلوا المسيرة.
كما يكون الخير فى حياة العظماء يكون الخير فى موتهم أيضا ؛ ذلك لأن حياتهم عطاء كبير. ولأن موتهم تنبيه إلى من بعدهم ليحملوا الرسالة ويواصلوا المسيرة.
وكما أن العظماء فى التاريخ قليل، فإن من يحذو حذوهم قليل أيضاً، وتلك حكمة الله فى البشر، فالله سبحانه وتعالى يصلح أمة بصلاح فرد.. وهكذا كان الأنبياء الذين بلغوا رسالات الله إلى البشر، لأن البشر عجزوا عن القضاء على آفات البشر بأدوية البشر.فكان لا بد أن تتدخل السماء لحسم هذا الداء وحتى لا يتأبى بشر على من خلق البشر.
إن من هؤلاء العظماء القليلين الأستاذ الشيخ محمود شاكر إمام المحققين للتراث الإسلامى فى العصر الحديث.
لقد نبه هذا الرجل بحياته أمته إلي النظر فى تاريخ أعلامه والأخذ من هذا التاريخ سيرة وعلما، ونبه أمته بموته إلى أن عليها مسؤولية المواصلة على الطريق، والسير على الدرب والأمل فى الله سبحانه قائم أن من مأثوراتنا الإسلامية ان الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يحدد لهذه الأمة أمور دينها، ويبعث النهضة التى غفلت عن جذورها فى علم الآباء والأجداد ليظل منهج السماء واضحا من كل لبس وهاديا لكل الحاد.
من هو محمود شاكر
الشيخ العلم الأستاذ محمود محمد شاكر رائد من رواد تحقيق التراث العربى الإسلامى.. أمضى حياته فى رحلة علمية طويلة وعطاء فياض لخدمة الإسلام والدفاع عن أصوله ومبادئه والوقوف أمام تيارات الحداثة والتغريب والرد على أذناب التنوير المزعوم.. رحل عنا ـ بعد عطاء فياض ـ مودعا سجن الدنيا وانتقل الى جوار ربه، تاركاً نموذجاً طيباً، وقدوة حسنة، وفكراً إسلامياً مستنيراً.
ولد الشيخ محمود محمد شاكر فى الإسكندرية، وكان أبوه جندياً من جنود الدعوة والإرشاد فانتقل الى القاهرة وظل يعمل لفتره كبيرة وكيلا للجامع الأزهر.
التحق الشيخ محمود شاكر بالجامعة المصرية وبدأ جهاده الفكرى مبكراً وهو لا يزال فى السنوات الأولى بكلية الآداب حتى أعلن اعتراضه ورفضه لأفكار أستاذه طه حسين، التى تحاول النيل من التراث العربى الإسلامى، فوجه للدكتور طه حسين انتقادات عديدة، وخاصة حين أعلن أن الشعر العربى موضوع ومنحول كله.
وبدأ شيخنا يكتب سلسلة من المقالات النارية فى مجلة الرسالة تحت عنوان: نمط صعب وذلك فى مواجهة صريحة معلنة مع الذين يريدون هدم الكيان الحضارى العربى والإسلامى والتشكيك فى أصول اللغة العربية.
محمود شاكر بقلم محمود شاكر
وبرغم هذا العطاء المبكر يقول الشيخ محمود شاكر عن الفترة الأولى من حياته: قضيت عشر سنوات من حياتى فى حيرة زائغة، وضلالة مضيئة، وشكوك ممزقة، حتى خفت على نفسى الهلاك، وأن أخسر دنياى وآخرتى، محققا إثما يقذف بى فى عذاب الله بما جنيت، فكان كل همى يومئذ أن ألتمس بصيصا أحتذى به إلى مخرج ينجينى من قبر هذه الظلمات المطبقة علي من كل جانب. فمنذ السابعة عشر من عمرى الى أن بلغت السابعة والعشرين كنت منغمسا فى غمار حياة أدبية بدأت أحس إحساسا مبهما متصاعدا بأنها حياة فاسدة من كل جانب.
ويواصل شيخنا الحديث عن نفسه قائلا: لم أجد لنفسى خلاصاً إلا أن أرفض متخوفا حذرا شيئا فشيئا أكثر المناهج الأدبية والسياسية والاجتماعية والدينية التى كانت يومئذ تطغى كالسيل الجارف يهدم السدود، وبقوض كل قائم فى نفسى، وفى طريقى، ويومئذ طويت كل نفسى على عزيمة ماضية أن أبدأ وحيداً متفردا رحلة طويلة جدا، وبعيدة جدا، وشاقة ومثيرة جدا..
بدأت بإعادة قراءة الشعر العربى كله، أو ما وقع تحت يدى منه على الأصح، واكتسبت بعض القدرات بلغة الشعر ويفن الشعر، ثم تدرجت وقرأت ما يقع تحت يدى من كتب أسلافنا من تفسير لكتاب الله، إلى علوم القرآن الكريم مع اختلافها الى دواوين من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وشروحها، إلى ما تفرع عليه من كتب علماء الحديث وكتب الجرح والتعديل إلى كتب أصول الفقه وأصول الدين،وشئت بعد ذلك من أبواب العلم.
وسافر شيخنا الى السعودية فتره من الزمن وأنشأ هناك مدرسة جدة الابتدائية على المبادئ والقيم الإسلامية التى لا تتبدل ولا تتغير.
ومع بداية الستينيات بدأ معركة فكرية أخرى مع الكاتب العلمانى لويس عوض الذى أعلن أن الصفحات الرائعة من التراث العربى يرجع الفضل فيها لليونانيين، واللاتينيين ثم راح يشكك فى الشعر العربى، وجذوره الثقافية كأنه يريد أن يسير على نفس الدرب الذى سار عليه طه حسين والتغريبيون.
معركته مع طـه حسـين
إن الذين حركتهم وفاة هذا الرجل لبيان رسالته إلى العامة قليل من الكتاب ولكن عملهم كان جليل الشأن لأنهم من النخبة، والنخبة دائما عددهم قليل، لكن أثرهم كبير وخطير، فهم مثل الحبة التى ينبت بها سبع سنابل فى كل سنبلة مائه حبة..
ولقد كان هذاالرجل حبة مباركة ملأ صوته الدنيا وهو لا يزال شابا لم يبلغ العشرين وكان إذ ذاك فى سن الاستعداد العلمى حيث كان طالبا فى السنة الثانية من كلية الآداب.. فتى فى أول شبابه الجسمى، ولكن عقله كان قد اكتمل بالمعرفة والنضوج إلى الحد الذى نازل فيه أستاذه الدكتور طه حسين ومهما تكن النيه التى توافرت لدى هذا الأستاذ وهو مصدر كتابه الشعر الجاهلى فإن موضوع الكتاب كان خطيرا للغاية.
لقد كان يدعى أن الشعر الجاهلى لا أساس له وهو غير حقيقى لأنه منتحل فى عصر الإسلام. وهو بهذا ينفى عن الأمة العربية كتاب حياتها، فالشعر ديوان العرب. وبالتالى فهو ينفى النموذج الذى تحداه القرآن الكريم وبهذا يسقط عن القرآن إعجازه، بالإضافة الى التداعيات الأخري لهذا الكلام. والكتاب يموج بمفتريات متعددة على قصص الأنبياء، وتاريخ الأمم السابقة على الإسلام.
ولقد لقى هذا الكتاب تأييداً واسعا باسم الحرية التى يجب أن تتوافر للأدباء والكتاب والفنانين، ولكنه وجد معارضة أوسع؛ لأن الحرية يجب أن تكون للبناء وليس للهدم، وأن تكون حركتها داخل إطار يوجهها إلى الخير وليس إلى الشر.
ولقد وقف الأزهر الشريف عند هذا الكتاب وقفة تريد الإصلاح وترفض الإفساد. وهيئة مثل الأزهر الشريف حين تقف هذه الوقفة إنما تستعين بأعلامها وعلمائها الكبار الذين لهم فى العلم قدم ثابته ورسوخ عتيد.
لكن أن يقف شاب فى السنة الثانية من كلية الآداب ضد أستاذه فى قضية كهذه فإن هذا يشد الانتباه جدا، لقد فند مزاعم أستاذه الذى حاد عن الطريق تفنيدا قويا واضحا، ورد عليه ما قال، وكان الدكتور طه حسين وقتها ملء السمع والبصر.
عاد من باريس بعد أن حاز أرقى الشهادات وجاء ليردد ما سمعه وتلقاه فى الخارج عن تراثنا العربى والإسلامى ودخل إليه بحيلة ماكرة، جازت على الكثيرين وضاعت حقائق كثيرة فى رخامة صوته وحسن إلقاء ما يقول فى أسماع الناس.
وأهل الحقيقة الذين لا تنطلى عليهم هذه الحيل قليلون، ولكن كان منهم هذا الشاب الفتى فى كلية الأداب، ولأنه كان من أهل الحقيقة فقد وجد أن وجوده فى الجامعة لن يؤدى إلى الغرض الذى يهدف إليه..
فإذا كان هذا هو حال أستاذه الذى جاء إلى الجامعة ليتلقى عنه فالبقاء فيها عبث وأى عبث، وهجر الجامعة ليتعلم من كتب التراث التى تملأ جدران بيوت قومه وهى كثيرة وكانت حصيلته وفيرة.
ومع لويس عوض أيضاً
إذا كانت هذه هى معركتة الأولى نازل فيها رجلا قوى الشكيمة واسع الحيلة، فإنه مع جهود الآخرين اضطره إلى التراجع عما قال، وغير فى كتابه الشعر الجاهلى ما كان موضع المؤاخذة لكنه أبقى فيه سموماً أخرى أزرت بالكتاب من أن يقتنيه الناس وجعلت المطابع تعزف عن طبعه ونشره.
لكن آثار التغريب لا تزال قائمة بين من يسمون أنفسهم بالمثقفين وما هم بالمثقفين فترى بين الحين والحين كلاما يكتب عن حرية الكاتب ونرى الحديث عن كتاب الشعر مدسوسا في هذا الكلام وسياسة التغريب لا تكف عن المحاولات الجاهلى حتى إننا رأينا منذ عامين تقريبا مجلة تصدرها الدولة وتنفق عليها من أموالها، ولكن يرأس تحريرها أحد هؤلاء الذى يسمون أنفسم بالمثقفين الداعين إلى حرية الكلمة الخارجة على النظام..رأينا هذه المجلة تنشر النص الأول لكتاب الشعر الجاهلى الذى رجع عنه مؤلفها وأدخل فيه تعديلات.
سياسة التغريب هذه هى التى دعت المحقق العظيم محمود شاكر إلى الدخول فى معركة أخرى ضد الدكتور لويس عوض حينما زعم أن فكر أبى العلا المعرى وفلسفته ليست أصيلة عنده، وإنما هى مأخوذة عن فكر أجنبى. ومعنى هذا أن العبقرية العربية ليست عبقرية خلاقة وإنما هى عبقرية تابعة وناقلة، وكثيرة هى الادعاءات ضد العربية والإسلام التى جاءت فى كتابات الدكتور لويس عوض.
وكنا نحب له أن يكون صادقا مع الواقع ومع التاريخ لكنها مدرسة تغريب أمتنا وإبعادها عن ثروتها الحقيقية، وهذا عداء للإسلام أولا وقبل كل شيء يحتاج إلى الذين يدفعونه.
ولقد كان محمود شاكر جديرا بهذا الدفع فتصدى لمقولات لويس عوض وأجهضها تماما، وهو ما اعترف به الدكتور لويس عوض نفسه عندما جمع مقالاته التى كتبها عن المعرى فى كتاب، وقال إنه لولا شدة الأستاذ محمود شاكر فى مناقشته لأفاد من علمه وتحقيقة كثيراً.
ومن هنا فإن الدكتور لويس عوض يعيب وسيلة محمود شاكر ولا يعيب علمه ولا تحقيقه. وهذا اعتراف حمدناه فى حينه للدكتور لويس عوض ونحمده له بعد سنوات من وفاته لكننا نحمد أكثر وأكثر صنيع الأستاذ المحقق العظيم محمود شاكر فى مقالاته التى كتبها في مناقشة الدكتور لويس عوض وجمعها فى كتابه أباطيل وأسمار الذي كشف فيه قضيه التغريب والأخذ عن المستشرقين وهو كتاب تعليمى للمثقفين بالمعنى العام الذين يريدون أن يعرفوا موقف الفكر العربى الإسلامى من قضية التغريب وخطورة الأخذ من المستشرقين.
جرأة فى الحـق
وفى السابعة والخمسين من عمره اعتقل شيخنا ظلماً وعدواناً، واحتمل ظلمة وغياهب المعتقلات ورفض أن يعتذر عن تمسكه بدينه وعن ذنب هو منه براء.
وبعد خروجه من السجن انتخب مراسلاً لمجمع اللغة العربية فى دمشق، وكرمته الدولة بجائزتها التقديرية، ثم انتخب عضوا بمجمع اللغة العربية.
وفى العام نفسه استحق بجدارة جائزة الملك فيصل العالمية.
وفى منتصف الثمانينيات واصل جولاته الفكرية الناجحة، وانتقد بشدة أفكار نجيب محفوظ وزكى نجيب محمود ووصفهما بأنهما ـ مثل طه حسين وتوفيق الحكيم ـ مقلدان للغرب وليسا مبتكرين، بل يقدمان نفس الرؤى التى كان أولئكم ينادون بها؛ ولهذا فهم يسيرون فى طريق الخطأ.
وقال عنهم: "إنهم ام يقدموا شيئاً مفيداً لمجتمعهم ولا لقضايا مجتمعهم، ولو كانوا يسيرون فى طريق صحيح لكان لهم شأن آخر.. صحيح أنهم مجتهدون ولهم جهود دائمة دائبة، ولكنها ضئيلة، وباهتة فعندما أنظر الى الوجود الحقيقى لطه حسين أو توفيق الحكيم أو إحسان عبد القدوس، ونجيب محفوظ أراه وجودا ليس مفيدا لقضايا مجتمعهم أو مشاكله".
ولعل جرأة شيخنا فى الحق وفى الصدع به كانت سببا فى تجاهل الأجهزة الإعلامية له ولمنهجة الفكرى إلى أن رحل عن دنيا الزيف إلى رحمة الله التى وسعت كل شيء؟.
تحقيق التـراث
وقضية محمود شاكر لم تكن فقط التصدى للدكتور طه حسين ولا للدكتور لويس عوض ولا من على شاكلتهما، إنما كانت العودة بتحقيق التراث إلى أصوله ومنابعه الأولى التى قام عليها العلماء المسلمون، منذ الصدر الأول للإسلام، هذا التحقيق الذى ظل ممتدا حتى عصرنا الحاضر قام عليه شيوخ أعلام من أبرزهم الشيخ محمود شاكر، ولقد كانت فطنته أنه اتبع الأولين وأحيا طرائقهم.
وإن قضية جمع القرآن فى عهد أبى بكر الصديق رضى الله عنه هى أولى الدرجات فى علم تحقيق التراث الإسلامى. ومع أنها أولى الدرجات فإنها كانت وافية تماما للتأكد من صحة النص وصحة نسبه إلى الذي نزل عليه القرآن.
وجمع الحديث وتحقيقه جاء من كونه المصدر الثانى للتشريع وأنه شارح للقرأن ومفصل لمجمله إلى غير ذلك مما يعرفه الناس عن مكانة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن
إن المدرسة الإسلامية جاءت فى تحقيق الحديث بعلم غير مسبوق فى تحقيق تراث الأمم. ولم يلحق به لاحق حتى الآن ولا المستشرقون الذين يزعمون أنهم أصحاب فضل فى تحقيق التراث الإسلامى.
إن علماء الحديث بذلوا جهودا جبارة فى مراجعة ما جمعوا من حديث للتأكد من صحة نسبها الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقسموا الأحاديث الصحيحة إلى درجات كثيرة فى صحتها، فمنها المتواتر، ومنها الآحاد، ومنها الصحيح لنفسه، ومنها الصحيح لغيره، ومنها الحسن، وغير ذلك مما يمكن الرجوع إليه فى هذا العلم العظيم الذى يجب أن يسود حياتنا الثقافية وأن نجد لقواعده أثرا فى تحقيقاتنا للتراث الإسلامى، وهو الأمر الذى احتذاه محمود شاكر فى تحقيقه للتراث وفى مناقشات للمتغربين والمارقين من المعرفة الاستشراقية.
ومن هنا تأتى أهمية الرجل ولفت الأنظار إليه فى حياته وما كان من أثر وفاته فى تنبيه العقول إلى تراث الأمة وتحقيق علمائها له بأنفسهم بعد أن يتعلموا هذا الفن الجليل ويستكملوا أسبابه من علم بلغة القرآن وفى القرآن والحديث والتاريخ الإسلامى وما تركه لنا الأجداد من مخطوطات بعضها بين أيدينا وبعضها سرقه الاستعمار الاستشراقى من خزانات كتبنا. وإن محمود شاكر له آثار جليلة فى تحقيق التراث من تفسير وحديث وشعر ونثر.
ونظرا لمجهودات الشيخ شاكر الكبيرة انتخب عضوا مراسلا لمجمع اللغة العربية فى دمشق، وعضوا عاملا بمجمع اللغة العربية وعـضــوا بـمـجمع الخالــديـن.
كماحصل عى جائزة الدولة المصريةالتقديرية فى الآداب.
حصل على جائزة الملك فيصل العالمية عام عن كتابه المتنبى الذى يقع فى مجلدين من القطع الكبير، وقد أنجز هذا الكتاب، ثم أعاد تحقيقه وتنقيحه وتزويده بوثائق جديدة.. وبذلك يعد المصرى الرابع الذى يحصل على هـــذه الـجــائــــزة
إن آثار محمود شاكر تجعل من شخصيته علما قائما بذاته.. فيا حبذا لو حفظنا هذا العلم وعملنا به وجعلنا من ذلك الرجل أسوة حتى لا يتخاذل حق أمام ضوضاء باطل
- التصنيف:
- المصدر: