هل نفهم ما يحدث؟ المقال الثاني

منذ 2019-10-18

كنا أمة فصرنا جماعة. على أمل أن تتضخم الجماعة فتصبح أمة. فكان أن أصبحت الجماعة جماعات (أنساقًا مغلقة/ أحزابًا) وانشغل كل بأخيه.

بسم الله الرحمن الرحيم
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

في المقال السابق تحدثنا عن أننا نفهم ما قد حدث وانتهى، ونفهمه بعد مدة من الزمن؛ ومشينا على ظهر الأيام نضرب الأمثال بما  قد كان. وانتهينا إلى محاولات العلمانيين للنهوض. ما يقال عنه (التنمية). وكيف أنها تكررت أكثر من مرة، وفي كل مرة تفشل: محاولات محمد علي وأبنائه، وثورة عبد الناصر ورفاقه، وانفتاح السادات، وخصخصة مبارك، نقوم من الفقر لنقع فيه؛ وما يحدث الآن هو حلقة من سلسلة الفشل التي تُصدر للأمة تحت مسمى الإصلاح، فالآن تسلط القائمون على النظام العالمي على الدول الصغيرة وينفذون رؤاهم الاستهلاكية. يحولون العمران لسلع استهلاكية ترهق الطبقة المتوسطة وتشغلها عن المشاركة في السلطة-أو في صياغة أنماط الحياة- برأي أو فعل. فكل يوم مدن عمرانية جديدة.. موضة جديدة في السكن. ويحاولون إحكام القبضة على العمران بعسكرة الحياة المدنية وتحويل الناس إلى كتل تتحرك رغمًا عنها في مسارات محددة، ويحاولون صنع عادات الإنسان، فلا يكاد يلتفت أحد وإن أراد الإلتفات. ويحاولون الخروج من العمران الكائن بعد أن اكتظ إلى أرضٍ جديدة فسيحة يخططونها كما يريدون ويسكنونها هم ومن يحتاجونه لخدمتهم من الكادحين. بل ويحاولون صنع عادات الإنسان ليكون كالآلة يتحرك حيث يشاءون. وجادون في تنفيذ رؤاهم. والسؤال: هل نفهم ما يحدث؟!
نفهمه بعد أن يحدث، ومن يفهم منا حال الفعل قلة قليلة لا تستطيع تغيير مسار الفعل...

وأنتقل إلى نوعٍ جديد من الأمثلة على أننا إن فهمنا فإننا نفهم متأخرًا.. على أن الذين يفهمون ما يحدث منا قلة قليلة لا تستطيع تغيير ما يحدث.

المدارس النقدية والإلحاد النسبي!!

في التسعينات ظهر الدكتور عبد الوهاب المسيري، وحين تضع مخرجات الدكتور المسيري بين يديك- وشخصُهُ حبيب أدعو له كلما تذكرته- تجد أنه فعل ما كان رائجًا في الثقافة العربية والإسلامية في القرنين الماضيين، وهو النقل عن الغرب. نقل معركةً  كانت محتدمة في السياق الغربي إلى ساحتنا. وهي نقد المادية  (الإلحاد الصلب. الوضعية Positivism)، أو التحول من الحداثة إلى ما بعد الحداثة. وشارك في استحضار عزت بيجوفيتش إلى ساحتنا؛ وإلى الآن لا أدري ما الذي روَّج بضاعة المسيري وعزت بيجوفيتش في ساحتنا العربية؟! وخاصة أن الإلحاد الصلب (الذي لا يؤمن بأي غيب) لا يشكل ظاهرة مجتمعية؟! وإن كان  عزت بيجوفيتش خاض معركة حقيقية في سياقه الزماني والمكاني فعلينا أن نودَّعها مع رحيل أسبابها، لا أن نستدعي من اشتهر ونصنع صراعًا فكريًا لا حاجة لنا به!
من وجهة نظري يمكن تفسير ذلك بأن عبقرية المسيري نبتت في الغرب حال تراجع الاشتراكية (دينه الأول)، وحال فشل السلوكية المادية كمنهج للبحث والتحليل وفشلها كمدرسة فكرية حاولت أن تتحول إلى نموذج معرفي Paradigm ومن ثم منظورٍ ولم تستطع؛ وحال ظهور المدارس النقدية في الغرب (المدرسة النقدية بصيغتها الحديثة [الفرانكفونية]، والمدرسة الإنجليزية، والبنائية، ثم الاتجاهات النقدية الأخرى) فجاء إلينا وأخذ جانبًا عما يحدث في بيئته (مصر، وكانت يومها مشغولة بميلاد جديد للصحوة الإسلامية بعد انتهاء موجة حسن البنا وسيد قطب)، وصنع سياقًا خاصًا به، تحدث فيه عن نقد شيء غير موجود بيننا (الإلحاد الصلب)، وانضم إليه الذين يبحثون عن دور- أو عن ذاتهم من خلال دور- بعيدًا عن الصحوة الإسلامية، فأكملوا هذا الطرف المعرفي بحديث عن (النظريات النقدية الغربية، وضعف الدولة القومية الحديثة) ظنوا أنهم إن اندسوا بين المدارس النقدية الغربية سيجدون مساحة لغرس بذور الإسلام في السياق العالمي المعاصر، وظنوا أن تراجع هيمنة الدولة يعطي للإسلاميين مساحة!!
غاب عنهم أن المدارس النقدية الغربية تطوير للغرب نفسه في اتجاه نوع جديد من الإلحاد والكفر بالله وما أنزل على رسله.. هو الإلحاد النسبي (ما بعد الحداثة)، وفي الجانب السياسي فإن ما يحدث هو إضعاف للدولة القومية لصالح الكيانات غير الرسمية (المنظمات الأهلية، والشركات العابرة للقوميات، وجماعات العنف غير الرسمي وشبه الرسمي...)، بمعنى أن الغرب يطور أدواته المعرفية والسياسية لمزيدٍ من السيطرة وإعادة الصياغة لمجتمعاتنا نحن المسلمين وغير المسلمين من أهل الجنوب والشرق.هو الرجل الأبيض الشمالي الغربي يكمل مسيرة امتلاك أسباب القوة والسيطرة على غيره، أو قل: هي الخلافة الأمريكية تكمل الغزوات الإمبراطورية بأدواتها الثقافية بجانب الأدوات العسكرية والسياسية، والمطرفون فكريًا في سياقه.. ينقلون عنه.. لم يخرجوا عن منظومته: تعلموا في مدارسه وقرؤوا لكتّابه فطبعي جدًا أن ينقلوا عنهم.. أو يتفاعلوا معه. حين يدخل أحدهم السبل فإنه يرى السبيل مستقيمًا.. لا ينتبه إلى أن السبيل ضلال في الغاية ويستدل على مخالفة الصراط المستقيم بحال رفقاء السير.. من يوافقك؟، من يسير بجوارك؟، وحال النفس مع الله وإلا فكل يرى ما يأتيه حسنًا ( {زين لهم سوء أعمالهم} ) ( {ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون} ).

غاب عن المطرفين فكريًا أن الإسلام منظومة متكاملة.. لها رؤية مستقلة في كل شيء. وتعمل مجتمعة. بمعنى أنه لا يمكن تجزئتها (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ)، وإن جزئيت دخلت في غيرها وفقدت ذاتيتها. وكل المنظومات هكذا.. لا ترضى بغيرها إلا تابعًا.

وتبنى المسيرى أحد أغرب الأطر النظرية لتحليل الظاهرة الصهيونية، وهي أنها جماعة وظيفية، وحاول تهميش دور التدين الصهيوني اليهودي المسيحي العلماني في صناعة الحدث، ولا أدري هل علم أن اليهود مكون أساسي من مكونات الفاعل الدولي الذي يوظف ما يسمى بـ "دولة إسرائيل"؟، وقد قال الله عن اليهود ( {ويسعون في الأرض فسادًا} ) والتعبير بصيغة المضارع التي تفيد الاستمرارية.  ونَظَرَ للعلمانية من زاوية لم ينظر إليها غيره (العلمانية الكلية والعلمانية الجزئية). ولذا مضى المسيري وقد ترك جسرًا عريضًا بين الكفر والإيمان يسمى (العلمانية الجزئية) و (الجماعات الوظيفية)، بمعنى أن كثيرًا من جهده- ويقيني أنه بدون قصد- وظف في إطار الزحف الغربي الشامل على أمتنا.. مثَّل حالة من الوعي الزائف والمعارك التي لا حاجة لنا بها.  ولذا تجد المسيري محل ثناء من الملحدين وأنصاف الملحدين.(انظر عرض أحمد سعد زايد لكتاب "الجهل المقدس"، حيث أثنى على المسيري وكان يقلد صوته وآداءه أحيانًا. واطلعت على عددٍ من الأوراق البحثية المحكمة تطالب بالإفادة من أطروحات المسيري في تطوير الصحوة الإسلامية في اتجاه العلمانية).

واجب الوقت في أن يجتمع عامتنا.. سادتنا.. نخبتنا على الشريعة: يحررون أصولها، ويشيدون على قواعدها، ويدفعون عنها؟!. وأأكد: أني أحترم شخص المسيري، وأن التحدث عن التجربة بعد انتهائها ليس كالتحدث عنها وقت حدوثها، وليس من اجتهد فاخطأ كمن أراد الخطأ ابتداء. وقد أتيت المسيري- وهو من عقلائنا ومفكرينا الكبار- لأقول: أن الأزمة عريضة وعميقة وأننا في تيه أشد من تيه بني إسرائيل!

الأنساق المغلقة(الجماعات)!!

والمقصود بها الجماعات الإسلامية المنظمة كالإخوان المسلمين وحزب التحرير والحركات السلفية المسلحة، والتكتلات السلفية العلمية المنظمة وشبه المنظمة. تمثل هذه المرحلة كلها حالة من الوعي المتأخر، أو أحد مظاهر التيه الذي دخلته الأمة الإسلامية، أو أحد شهود العيان على توظيف الحركة الإسلامية من قبل خصومها...

كنا أمة فصرنا جماعة. على أمل أن تتضخم الجماعة فتصبح أمة. فكان أن أصبحت الجماعة جماعات (أنساقًا مغلقة/ أحزابًا) وانشغل كل بأخيه. والمشهد الأكثر ووضحًا على أن كل جماعة لن تبرح مكانها حتى تحسم مع أختها هو مشهد الجماعات المسلحة التي تقتتل وليس بينهم خلاف عقدي/ أيدولوجي أو منهجي .. فقط اختلاف (الأمير). ( {كل حزبٍ بما لديهم فرحون} ). ولابد من الخروج من صيغة الجماعات/ الأنساق المغلقة. والحل-كما قدمت مرارًا- في التحول إلى النخب المتخصصة.

النمو العضوي!!

أضاف الأستاذ سيد قطب-رحمه الله- للذهن المعاصر أربعة مصطلحات: أولها: التصوير الفني في القرآن الكريم،  يقول: يعرض القرآن الكريم مشاهد حية.  كأنك-حين تقرأ، أو تسمع- تشاهد مشهدًا مصورًا بأجمل أدوات التصوير. وتدبر: ( {مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَاب. وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} ) ( {يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ}، وقرأ القرآن بهذا الاختراع الأدبي (التصوير الفني)، وهو سر الجمال في كتابات الأستاذ سيد. والثلاثة الأخر: جاهلية المجتمعات المعاصرة، والعزلة الشعورية، والنواة الصلبة/ الفئة المؤمنة). وتجمعت هذه الثلاثة فيما يمكن أن نسميه بـ (البناء العضوي)!!

تحدث سيد قطب عن المجتمع الإسلامي المعاصر، ووضع تصورًا خاصًا، يقول: يُبنى كما يبنى الجسد، من فرد، فاثنان، فأربعة، فثمانية كما المتتابعة الحسابية حتى يصير اثنا عشر ألفًا وبهذا يكون قادرًا على مواجهة الجاهلية، وطالب المؤمنين بالعزلة الجسدية أو الشعورية، والاستعلاء بالإيمان. وقد شرحت هذا في مقالين سابقين. وأريد هنا أن أسأل: هل مثل سيد قطب حالة من الوعي الزائد أم ساهم في التردي؟

أكمل في مقالٍ قادم إن شاء الله.

 

  • 21
  • 1
  • 3,636

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً