لا تكوني ممن باعتِ الدِّينَ بالدنيا
يا من يعانق دنيا لا بقاء لها  يمسي ويصبح في دنياه سفَّارا  هلا تركتَ لذي الدنيا معانقةً  حتي تعانق في الفردوس أبكارا 
ما أكثر ما تعاني منه ذاتُ العفاف من الذين يسعَون إلى كسر حواجز الإيمان حولها! ونجد من النساء مَن تقع فتخسر، ومنهن من تنجو فتفوز، فيهن من باعت الدين بالدنيا، ومنهن من اشترت الثبات والتوبة.
اعلمي يا ذات العفاف أن الله يراكِ وأنتِ في رحلة تعثُّرِكِ وحيرتكِ، ويراهم وهم يتهامسون ويخططون لعودتكِ لسابق عهدكِ قبل توبتكِ.
كلٌّ منهم يتفنَّن في كيفية إغرائكِ وإغوائكِ مستغلين تلك العَثَرات، فإن كانت توبتكِ قوية، فلن يقدروا على زعزعة ذلك الثبات، أما إن كنتِ ممن لا يعرف وجهة لسفينة توبته، فستكون العودة سهلة وسريعة إلى ما مضى.
سينسجون خيوطًا وأفكارًا حولكِ، سيوقعون بكِ كلما تعثَّرتِ، فإما الثبات والموت على توبة، وإما الرحيل محمَّلًا بالحسرة.
هل أباح لكِ ربُّكِ أيتها الحورية الغالية أن تكشفي عما أمركِ بستره ولو في آية واحدة؟
لقد كثُر موتُ الفَجأةِ، وأصبح يطرق باب الصغير والكبير، لا يفرق بين تائبٍ وعاصٍ، ولو قلنا: إن الروح ستُقبَض على ما تفعله الأنفس، فهيَّا لنتخيل كيف تريدين غاليتي أن يكون حالكِ وقت رحيلكِ؟
أتريدين أن تُقبض روحكِ وأنتِ على طاعة أم على معصية؟
أتريدين أن تكوني عابدة ساجدة ذات لسانٍ وقلب ينبِض بالتسبيح والذكر أم ستكونين لاهية غافلة؟
أتريدين أن ترحلي بقلبٍ مشتاق للآخرة وللقاء ربِّكِ أم سترحلين متشبِّثة بزينة الدنيا؟
ومن منَّا يريد التشبث والتمسك بحياة زائلة؟ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ﴾ [الذاريات: 56]؛ أي: إننا خُلقنا لنعبد الله وليس لنعصيَه ونُفسدَ في الأرض، بل الإنسان هو مَن يُفسد في نفسه بكل سهولة، وكأنه سيُعمَّر ويخلد في الدنيا، وكأنه ليس هناك موت أو بعث أو حساب أو عقاب.
أَسْعدُ كثيرًا عندما أسمع عن إحدى التائبات العائدات إلى الله التي بادرت بالهرولة إلى التواب السَّتِير، وقد تركت كل شيء ابتغاءَ القرب والشعور بلذة التوبة؛ فتمسكت بركاب التائبين وظلت في معية الله بالسنين، وأشاحت بنظرها عن كل ما يُغضِب الله، وقد قطعت في مشوار التوبة الكثير والكثير، بل إنها تغلبت على كل العثرات والفتن، وأزاحت أشواك الإغراءات التي امتدت في طريقها متمسكة بكل شيء يجعلها تحافظ على توبتها، صلَّت وصامت وتصدقت، وقامت الليل ورتَّلت القرآن، وتزينت بالحجاب، بل كانت أشدَّهم حرصًا على القرب من الله؛ فأسعدت قلوب الكثيرين بتوبتها.
ولكني أتعجب وأبكي بكاء مريرًا عندما أعلم وأقرأ أخبارًا عن سرعة سقوطها، وعودتها لِما كانت من قبل، أشعر وكأن هناك صاعقة حلَّت بي وأنا أرى ذلك الهبوط بعد الارتفاع، بل وأصرخ بكل قوة: كيف ولماذا؟
كيف لكِ بعد صعود الجبل والوصول إلى أعلى قمته تُلقين بنفسكِ هكذا؟
لماذا تتخلين عن جمال التوبة؟ لماذا تعودين لطريق الأشواك والحسرة والندم مرة أخرى؟
لماذا تتركين كل تلك العفة والسلام، والنقاء والصفاء، وعالم الروح والعطايا؟
فما أجمل تلك الأوقات التي كنتِ تقضينها في رحاب الله! فوالله لو أن أحدهم أعطاني كنوز الدنيا لأترك جمال هذا اللقاء؛ لَما قبِلتُ أو تزعزعتْ حلاوةُ القرب ولو لثوانٍ.
كيف لي بالبعد وقد تعلقت ثنايا روحي وقلبي بحب الله؟
والله إن قلبي انفطر عليكِ يا غاليتي، وبكت العين أنهارًا على ما تركتِ وضيَّعتِ من ثواب التوبة ولذة القرب من الله.
كيف هانت عليكِ نفسكِ، وضيَّعتِ صلاتكِ وأوقات ذكركِ ومناجاتكِ وحجابكِ، وأقبلتِ على حياة اللهو مرة أخرى؟
أريد أن أنهركِ بقوة وأجذبَكِ بشدة؛ خوفًا عليكِ وأقول لكِ: لا ترجِعي واثبتي، فأنا أريدكِ معي صحبة طيبة في الجنة.
ولكن نفسكِ وأفعالكِ أنتِ من تقودينها حينما رفضتِ سماع صوت رجائي لكِ بألَّا تعودي إلى الضياع مرة أخرى.
إن النفس إن أطاعت أهل الهوى استمالت وتلذذت بالعصيان، وخارت القُوَى، ومالت القلوب للظلمة التي كانت أسيرة لها بالأمس.
أتعلمين أن هناك جنة عرضها السماوات والأرض تنتظر أن تعملي لها، وأن تواجهي أعاصير الفتن، وتقفي على أرض ثابتة لتقولي وبكل قوة: لن أنحني ولن تجذبني الأعاصير، ولن تقدر على نزع إخلاص توبتي من قلبي أيُّ عاصفة.
كنتُ أتمنى أن تكون جذور توبتكِ صادقة ممتدة ومتشعبة، لا يستطيع أحد اقتلاعها كالشجرة الشامخة التي لا تهتز مهما عصفت بها الأزمان.
كنت أتمنى أن يكون الأمس صفحة في حياتكِ وقد طُويَتْ، بل وقُطعت أوراقها وكأنها لم تكتب في صحيفتكِ يومًا.
هيا، بادري وتمسكي بسفينة نجاتكِ، وكوني ممن قال الله فيهم: ﴿ { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى } ﴾ [طه: 84].
لا تكوني ممن أسرفوا على أنفسهم بالذنب؛ فتعاظمت المعصية في قلوبهم، فتمسكوا بركاب الخاسرين.
إليكِ أيتها العائدة إلى الله، املئي قلبكِ بنور الله، واعملي على الثبات؛ فإن الشهيق والزفير الخارج منكِ اليوم قد يخبو وينقطع في ثوانٍ.
إياكِ والرجوع بعد الثبات، إياك والعُرِيَ بعد الحجاب، إ
ياك والبعد بعد لذة القرب، إياك وفقد النور الذي أنار عَتَمَةَ قلبكِ، ومحا سيئاتِ ما مضى.
حتى وإن تعثرت قدماكِ فانهضي، حتى وإن همس شيطانكِ لنفسكِ بأن الأوان قد فات، وأن توبتكِ لن تُقبل من كثرة تقلُّبِ القلب والابتعاد عن درب الصالحين - قولي له: ابتعد عني، فإن لي ربًّا يغفر الذنوب جميعًا متى طرقتُ أبوابه.
سَيَرَى خطواتكِ، وسيقبلُكِ أيتها التائبة الآيبة، وسيفتح لكِ أبواب الخير ما دمتِ أتيتِ إليه لاجئة تائبة، وعدتِ إليه باكية راجية؛ فأسرعي الخُطا قبل الرحيل.
صادقي الصالحاتِ وابتعدي عن الفاسدات؛ فإنهن لن يتركْنَ توبتكِ بل سيحاولنَ بكل الطرق لجذبكِ إلى حياة الغفلة مرة أخرى.
اذهبي لحضور حلقات العلم والتدبر بدلًا من حفلات العري والغناء، قاومي إغراءات عالم الأزياء والزينة؛ فقد حرَّفوا ملابس الستر تحت مسمى التحضر والتزين والتجمل، وأباحوا العري وهم على يقين أن الستر سلعة غالية.
إنه عالم زائل سرعانَ ما سيذهب؛ وستخرجين منه صفرَ اليدين خاوية من الحسنات.
اتركيه فقط لله، وقولى: يكفيني الستر والتعفف والثبات في الدنيا؛ لأفوز برضا الرحمن في الآخرة.
تمسكي بكتاب الله وداومي على الذكر.
كوني كالأم التي تحتضن رضيعها وقت الخطر، واحتضني توبتكِ منعًا أن تَزِلَّ قدمٌ بعد ثبوتها.
كلما مالت نفسكِ وجنحت للعودة إلى سابق عهدها، تذكَّري الجنة ونعيمها السرمدي، وتذكري النار ولسعتِها، فلو أنكِ أختي في الله تفكرتِ بالأمس وغفلته وعصيانه، وكيف أنكِ اليوم تستطيعين التوبة قبل الندم والحسرة - لهرولتِ إلى ربكِ عائدة:
قدِّم لنفسك توبةً مرجوَّةً 
قبل المماتِ وقبل حبسِ الألسنِ 
بادرْ بها غلقَ النفوس فإنها 
ذُخرٌ وغُنمٌ للمنيب المحسنِ 
ويقول الشاعر:
يا من يعانق دنيا لا بقاء لها 
يمسي ويصبح في دنياه سفَّارا 
هلا تركتَ لذي الدنيا معانقةً 
حتي تعانق في الفردوس أبكارا 
إن كنت تبغي جنان الخلد تسكنها 
فينبغي لك ألَّا تأمنَ النارا 
أسأل الله لي ولكِ الثبات، وأن يحفظ توبتكِ أختي المسلمة وينير طريقكِ لما يحبه ويرضاه.
فاطمة الأمير
- التصنيف: