كلام ابن الجوزي على بعض الآيات في كتابه "التبصرة" -1

منذ 2020-01-13

قال أبو علي الروذباري رحمه الله: من الاغترار أن تسئ فيحسن إليك فتترك التوبة توهماً أنك تسامح في الهفوات.!

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد: فمن مصنفات العلامة ابن الجوزي رحمه الله كتابه الموسوم بـ " التبصرة " وهو كتاب كبير مطبوع, جاء في مائة مجلس, تكلم في كل مجلس عن آية من القرآن الكريم, وجعله في تسع طبقات, تشتمل على قصص الأنبياء والقدماء, وفضائل الصحابة والصحابيات, و فضائل بعض أيام السنة ولياليها, وعلى فضل العلم, وعلى ذم المعاصي, وعلى ذكر الموت والقبر والقيامة والنار والجنات, وعلى مواعظ ومختصرات...الخ.

وقد منَّ الله الكريم عليَّ, فانتقيت شيئاً مما ذكره على بعض الآيات, أسأل الله أن ينفع بها, ويبارك فيها. 

الكلام على قوله تعالى:{التّائِبونَ العابِدونَ الحامِدونَ}

قد أمر الله سبحانه بالتوبة, فقال:{وَتُوبُوا إِلَى اللَّـهِ جَمِيعًا } [النور: 31] ووعد القبول, فقال:  {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ }    [الشورى:25] وفتح باب الرجاء, فقال:  { لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّـهِ }[الزمر:53]

الذنوب تغطى على القلوب, فإذا أظلمت مرآة القلب لم يبن فيها وجه الهدى, ومن علم ضرر الذنب استشعر الندم.

قال أبو علي الروذباري رحمه الله: من الاغترار أن تسئ فيحسن إليك فتترك التوبة توهماً أنك تسامح في الهفوات.!

فواعجباً لمن يأمن وقد أُخذ آمن من مأمن.

قال لقمان لابنه: يا بني, لا تؤخر التوبة, فإن الموت يأتي بغتة.

الذنوب تغطى على القلوب, فإذا أظلمت مرآة القلب لم يبن فيها وجه الهدى, ومن علم ضرر الذنب استشعر الندم

إن الدنيا لغرور حائل, وسرور آيل, بينما طالبها يضحك أبكته, ويفرح بسلامته أهلكته, فندم على ولله إذ قدم على عمله, وبقي رهين خوفه ووجله, وود أن لو زيد ساعة في أجله, فما هو أسير في حفرته, وحسير في سفرته.

يا صاحب الخطايا: أين الدموع الجارية, يا أسير المعاصي ابك على الذنوب الماضية, يا مبارزاً بالقبائح: أتصبر على الهاوية, يا ناسياً ذنوبه والصحف للمنسي حاوية, أسفاً لك إذا جاءك الموت وما أنبت, واحسرة لك إذا دعيت إلى التوبة فما أجبت, كيف تصنع إذا نودى بالرحيل وما تأهبت, ألست الذي بارزت بالكبائر وما راقبت.

سبحان من وفق للتوبة أقواماً, ثبت لهم على صراطها أقداماً, كفوا الأكف عن المحارم احتراماً, وأتبعوا في استدراك الفارط عظاماً, فكفّر عنهم ذنوباً وآثاماً, ونشر لهم بالثناء على ما عملوا أعلاماً, فهم على رياض المدائح بترك القبائح يتقلبون.

نظروا إلى الدنيا بعين الاعتبار, فعلموا أنها لا تصلح للقرار, وتأملوا أساسها فإذا هو على شفا جُرُف هار,..باعوا الفاني بالباقي.

يا رب وفقنا للتوبة والإنابة, وافتح لأدعيتنا أبواب الإجابة.

الكلام على قوله تعالى:{وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ}

لقد دعاكم إلى البدار مولاكم, وفتح باب الإجابة ثم استدعاكم, ودلكم على منافعكم وهداكم, فالتفتوا عن الهوى فقد آذاكم, فبابه مفتوح للطالبين, وجنابه مبذول للراغبين, وفضله ينادى: يا غافلين, وإحسانه ينادي الجاهلين, فاخرجوا من دائرة المذنبين, وبادروا مبادرة التائبين.

لله در قوم بادروا الأوقات, واستدركوا الهفوات, فالعين مشغولة بالدمع عن المحرمات, واللسان محبوس في سجن الصمت عن الهلكات, والكفَّ قد كُفَّت بالخوف عن الشهوات, والقدم قد قُيدت بقيد المحاسبات, والليل يجأرون فيه بالأصوات, فتيقظ للحاقهم من هذه الرقدات, ولا تطمعن في الخلاص مع عدم الإخلاص في الطاعات, ولا تؤملن النجاة وأنت مقيم على الموبقات.

أسفاً لعبد كلما كثرت أوزاره قلّ استغفاره, وكلما قرب من القبور قوى عنده الفتور.

جعلنا الله وإياكم ممن أفاق لنفسه, وأعد عدة تصلح لرمسه, واستدرك في يومه ما مضى من أمسه, قبل ظهور العجائب ومشيب الذوائب, إنه سميع الدعاء.

الكلام على قوله تعالى: {قُلِ انظُروا ماذا فِي السَّماواتِ وَالأَرضِ

سبحن من أظهر العجائب في مصنوعاته, ودلَّ على عظمته بمبتدعاته, وحثَّ على تصفح عبره وآياته, وأظهر قدرته في البناء والنقض.

ارفع بصر فكرك إلى عجائب السموات, فتلمح الشمس في كل يوم في منزل...ثم اخفض بصرك إلى الأرض ترى فجاجها مذللة للتسخير..وانظر إلى بعد ما بين السماء والأرض كيف ملأ ذلك الفراغ هواء لتستنشق منه الأرواح, وتسبح الطير في تياره إذا طارت.وانظر بفكرك إلى سعة البحر وتسخير الفلك فيه ما فيه من دابة

سلم من تفكر...فالفكر مرآة تريك حسناتك وسيئاتك...فالعبد ينبغي أن يتفكر: هل هو على معصية أم لا ؟ فإن رأى زلة تداركها بالتوبة والاستغفار.

ثم يتفكر في نقل الأعضاء من المعاصي إلى الطاعات.

ثم يتفكر في الطاعات ليقوم بواجبها, ويجبر واهنها.

ثم يتفكر في مبادرة الأوقات بالنوافل طلباً للأرباح, ويتفكر في قصر العمر فينتبه حذراً أن يقول غداً:  { يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّـهِ}  [الزمر:56]

 ثم يتفكر في خصال باطنه فيقمع الخصال المذمومة, كالكبر والعجب والبخل والحسد, ويتولى الخصال المحمودة, كالصدق, والإخلاص, والصبر, والخوف.

وفي الجملة يتفكر في زوال الدنيا فيرفضها, وفي بقاء الآخرة فيعمرها.

الكلام على قوله تعالى:  {وَما تُغنِي الآياتُ وَالنُّذُرُ عَن قَومٍ لا يُؤمِنونَ }

كيف تصح الفكرة لقلب غافل, وكيف تقع اليقظة لعقل ذاهل, وكيف يحصل الفهم للب عاطل, وعجباً لمفرط والأيام قلائل, ولمائل إلى ركن مائل, لقد خاب الغافلون وفاز المتقون.

الكلام على قوله تعالى:  {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا

يوم تشيب فيه الأطفال, يوم تسير فيه الجبال, يوم يظهر فيه الوبال, يوم تنطق فيه الأعضاء بالخصال.

ينصب الصراط فناج وواقع, ويوضع الميزان فتكثر الفظائع, وتنشر الكتب وتسيل المدامع, وتظهر القبائح بين تلك المجامع, يخسر العاصي ويربح الطائع.

يا له من يوم يُقتص للمظلوم من الظالم, وتحيط بالظالم المظالم, وليس لمن لا يرحمه الإله عاصم.

يا من بين يديه يوم لا شك فيه ولا مرا, يقع فيه الفراق وتنفصم العُرى, تدبر أمرك قبل أن تحضر فترى.

أما تعلم أن الموت يسعى في تبديد شملك, أما تخاف أن تؤخذ على قبيح فعلك, واعجباً لك من راحل تركت الزاد في غير رحلك.

الكلام على قوله تعالى:{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّـهُ نَفْسَهُ

يا مبارزاً خذ للذنوب حذرك, وتوقَّ عذابه بالتقى فقد أنذرك.

اجتهد في تقوية يقينك قبل خسر موازينك, وقم بتضرعك وخفيتك قبل نشر دواوينك.

لما سمع المتيقظون هذا التحذير فتحوا أبواب القلوب لنزول الخوف.

حقيق بمن علم ما بين يديه, وتيقن أن العمل يحصى عليه, وأنه لا بد من الرحيل عما لديه, إلى موقف صعب يساق إليه, يتجافى بمضطجع البطالة بجنبيه.

يا من قد وهي شبابه, وامتلأ بالزلل كتابه, أما أن الجلود إذا استشهدت نطقت, أما علمت أن للنار للعصاة خلقت.

الكلام على قوله تعالى:  {وَلا تَحسَبَنَّ اللَّـهَ غافِلًا عَمّا يَعمَلُ الظّالِمونَ

قال ابن عباس رضي الله عنهما: هذا وعيد للظالم وتعزية للمظلوم.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( {الظلم ظلمات يوم القيامة} )

وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( « إن الله ليملى للظالم فإذا أخذه لم يُفلته» )

لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً       فالظلم آخره يأتيك   بالندم

تنام عيناك والمظلوم  منتـبه        يدعو عليك وعين الله لم تنمِ

الويل لأهل الظلم من ثقل الأوزار, ذكرهم بالقبائح قد ملأ الأقطار, يكفيهم أنهم قد وسموا بالأشرار, ذهبت لذاتهم بما ظلموا وبقى العار, وداروا إلى دار العقاب, وخلوا بالعذاب في بطون تلك الأحجار, فلا مغيث ولا أنيس ولا رفيق ولا جار, ولا راحة لهم ولا سكون ولا مزار, سالت دموع أسفهم على مسلفهم كالأنهار, شيدوا بنيان الأمل فإذا به قد انهار, أما علموا أن الله جار المظلوم ممن جار, فإذا قاموا في القيامة زاد البلاء على المقدار { وَلا تَحسَبَنَّ اللَّـهَ غافِلًا عَمّا يَعمَلُ الظّالِمونَ } ولا يغرنك صفاء عيشهم  {إِنَّما يُؤَخِّرُهُم لِيَومٍ تَشخَصُ فيهِ الأَبصارُ

الكلام على قوله تعالى:{يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ

لو رأيت أرباب القلوب, وقد أخذوا أهبة التعبد في الأسحار, وقاموا في مقام الخوف على قدم الاعتذار, عقدوا عزم الصيام وما جاء النهار, وسجنوا الألسنة فليس فيهم مهذار, وغضوا أبصارهم ولازموا غض الأبصار, جدوا في انطلاقهم إلى خالقهم, أتدري ما الذي حبسك عن لحاقهم: حب الدنيا والدينار. 

  • 6
  • 0
  • 5,643

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً