وقفة مع الواجب المنزلي
إن الواجب المنزلي بحاجة إلى إعداد جيد ودقة في التصميم من لدن الأستاذ، ثم مراجعة أعمال التلاميذ لتتبع مستواهم ومدى تحسن قدراتهم الشخصية. فالأمر ليس مجرد رمي للكرة في شباك الأسرة
حميد بن خيبش
قبل أن يُقرع جرس الخروج بدقائق معدودة، يحرص جل المدرسين على أن ينقل صغارهم أثر التعلم إلى الخارج، وأن يُدعموا تحالف المنزل والمدرسة بواسطة "كتالوغ" من الواجبات المنزلية التي لا تزال مثارا للجدل حتى اليوم حول فعاليتها، وأثرها الحقيقي على التحصيل الدراسي.
أما الآباء فلا يخفي بعضهم تذمره من هذا العبء الإضافي الذي يضغط على أعصابه كل مساء؛ بينما يفضل آخرون أن تصبح الساعات الخصوصية ملاذا لحل الواجب المنزلي مقابل مبلغ شهري.
لكن لا تزال فئة ثالثة تؤمن بأن للواجبات المدرسية فوائد أهمها :الاعتماد على النفس، وتحسين مستوى التعلم، أو على الأقل استغلال وقت الفراغ.
ظهر التباين بشأن الواجبات المنزلية منذ مطلع القرن الماضي، حيث تعالت الأصوات منددة بالإرهاق الذي تسببه للطفل، وتأثيرها على نموه النفسي والاجتماعي. غير أن إطلاق السوفييت لقمر صناعي دفع البيت الأبيض الأمريكي، في التقرير الشهير (أمة في خطر)، إلى توجيه اللوم للواقع التعليمي السائد، بما في ذلك التخلي عن الواجب المدرسي.
وفي أواخر الستينات أثير النقاش مجددا حول فعاليته، خاصة في القرى وأحزمة الفقر التي تضطر الأطفال للعمل ومساعدة الأسرة. وانقسم التربويون بين مؤيد له كجزء من الخطة اليومية للتعلم، باعتباره مُكملا للأنشطة الصفية، وبين مُشكك في العائد الذي يُرجى منه، إن على مستوى تقليص الفروق أو على مستوى تنمية قدرات التعلم الذاتي.
بغض النظر عن الدراسات والاستنتاجات التي يُعزز بها كل فريق وجهة نظره، فإن استمرار حضور الواجب المنزلي، كإحدى سمات التدريس الجيد، يستدعي توجيه النقاش حول ثلاث نقاط أساسية:
أولا: تفاعل الآباء مع الواجبات اليومية لأطفالهم، إما بترسيخ الثقة والاعتماد على الذات، أو تشجيع الميل للسلبية والاتكالية والغش.
ثانيا: الأهداف التي تحكم تصورات المدرسين حول الواجب المنزلي، والتي تتراوح عادة بين المعارف والمهارات المكتسبة، أو الارتقاء به كمصدر للتعلم وتنمية مهارات البحث والاستقصاء.
وثالثا: الآثار المترتبة عن استخدام الإنترنيت في حل الواجب المنزلي.
تقع على الآباء مهمة جعل أطفالهم قادرين على حل المشكلات وتحمل المسؤولية منذ الصغر. فمن عادة الطفل أن يراقب سلوك والديه، ليشرع لاحقا في تقليد أسلوبهما في مناقشة الأمور وتقييم المواقف. وهنا يجدر بالأسرة أن تهتم بتعليمه نماذج لحل المشكلات حتى يتكون لديه رصيد من الخبرات التي تنمي تطلعاته ودوافعه الابتكارية. ويؤدي إهمال الوالدين لهذه الخطوة إلى التأثير سلبا على مهاراته العاطفية والاجتماعية.
من أهم سمات التربية الواعية: التدريب، والتشجيع، والثقة. وبما أن الواجب المنزلي يشكل مساحة شبه يومية من التفاعل بين الآباء والأبناء، فينبغي استثماره لبذر الثقة في نفس الطفل، والإيمان بإمكانياته وقدراته، و دعمه عاطفيا عند ارتكاب الأخطاء، ثم الإقرار بنتائج جهوده ومنحه الاعتراف المناسب لها.
إن كلمة نجاح، تقول روزا باروسيو، تتطلب من الشخص الوصول إلى الأهداف وهو يجد متعة بالغة، ويشعر بالرضا عن القيام بما يحبه ويمتعه. وفيما يخص الواجب المنزلي فإن تفاعل الآباء يعكس نمط التوقعات السائدة داخل الأسرة؛ بحيث ترتبط التربية الواعية بتوقعات واسعة الأفق، تؤمن بحرية الطفل وتسمح له بأن ينجح فيما اختاره دون قيد أو شرط، عكس التوقعات الثابتة المحددة، والتي تفترض سلفا ما هو النجاح وكيف ينبغي أن يحرزه الطفل، دون الاهتمام بما يرغب فيه[ روزا باروسيو. هل نربي أطفالنا أم نفسدهم؟].
حين تهيمن التوقعات الثابتة والمحددة، فإن الواجب المنزلي يصبح مضمارا لسلوكيات غير مرغوبة، كالغش والاعتمادية الزائدة على الغير. ويفقد جوهره كاستراتيجية لتنمية التعلم الذاتي، ليصبح في المقابل مجرد وسيلة لنيل علامات جيدة.
أما بخصوص تصورات المدرسين، فلا تزال فئة عريضة منهم ترى في الواجب المنزلي تثبيتا للتعلمات التي تمت داخل الفصل. وأن الأسرة مسؤولة عن أداء الطفل في هذه الحالة مادام للتأطير المنزلي دوره المهم في تتبع وتقييم قدرات المتعلم .هذا التمثل يُغفل جملة من الحقائق التي يمكن تبسيطها على النحو الآتي:
●لابد من وجود تحالف مسبق بين المنزل والمدرسة، يقيس المعلم من خلاله مدى استعداد الآباء لتوفير الظروف الملائمة للواجب المنزلي كشكل من أشكال التعلم الذاتي، بما في ذلك التنسيق المستمر والمتابعة، والابتعاد عن التدخل المباشر الذي يُكرس تدني الإنجاز الدراسي للطفل بدل أن يعزز مهاراته.
● إن الواجب المنزلي بحاجة إلى إعداد جيد ودقة في التصميم من لدن الأستاذ، ثم مراجعة أعمال التلاميذ لتتبع مستواهم ومدى تحسن قدراتهم الشخصية. فالأمر ليس مجرد رمي للكرة في شباك الأسرة، بقدر ما يشكل سعيا إلى تطوير الاعتماد على الذات وتنمية خبرات جديدة.
● الانفتاح على صيغ متنوعة للواجب المنزلي، تضمن تجاوب المتعلم مع أنشطتها المقررة، دون إرهاقه بدنيا وذهنيا، أو حرمانه من حقه ممارسة أنشطته الاجتماعية. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الواجبات الجماعية هي الصيغة الأكثر شيوعا في المؤسسات التعليمية، حيث يعرض المدرس قائمة من الأنشطة التي "يجب" على المتعلمين إنجازها في البيت، مع ما يتضمنه الأمر من إلزام وترهيب. بيد أن هذه الصيغة لا تراعي الفروق الفردية، ولا اختلاف الميول والقدرات، مما يؤدي إلى التنفير من إنجازها، أو اللجوء لبدائل تُعمق الفجوة والتفاوت في التحصيل عوض أن تقلصها.
● ضعف التنسيق بين المدرسين فيما يتعلق بتحديد زمن ومقدار الواجب المنزلي، بحيث يجد المتعلم نفسه أحيانا أمام "واجبات" تهم مدرس كل مادة على حدة، وضمن جدولة زمنية تُولد ضغوطا على المنزل برمته. في هذه الحالة تحل الأسرة محل الطفل للتخلص من "العبء" المدرسي، مما يُفقد تلك المهام جدواها وفاعليتها.
● إن ربط المتعلمين بموارد تعلم إضافية خارج الفصل يقتضي تدريبا مسبقا على بعض المهارات التي تساعدهم على إنجاز الواجب المنزلي، كالتلخيص، والتحليل، وتحديد المصادر البحثية الملائمة، وحل المشكلات وغيرها..
وفيما يتعلق بالآثار المترتبة عن استخدام الإنترنيت، باعتباره اليوم أضخم تطبيق عالمي لتكنولوجيا المعلومات، فإن التلويح بهدف : زيادة استقلالية الطالب في إنجاز المهام التعليمية، تقابله من جهة أخرى سلبية التفويض الذي يُمنح للإنترنيت، كمتدخل خارجي، للتخفيف من عبء الإنجاز. صحيح أن الشبكة المعلوماتية تلغي الحواجز المصطنعة بين الفصل الدراسي والعالم الخارجي، وتتيح للمتعلم فرصا تعليمية غنية ومشوقة؛ إلا أن "سوء" الاستخدام يكشف عن آثار جانبية تستدعي الرصد والمتابعة. فإذا كانت شبكة الإنترنيت تتسم بسرعة تقديم المعلومة وتوفير الجهد، فإن الأمر قد يؤدي لاحقا إلى نوع من الاتكالية والتحايل، وقرصنة الجهد البحثي.
تسمح الواجبات المنزلية بزيادة ثقة المتعلم في نفسه، وتُنمي لديه صفات الالتزام والمسؤولية و التوجيه الذاتي. إلا أن الأمر منوط بالتفعيل السليم لخطواتها، وتنويع سبل أدائها؛ مع ما يقتضيه ذلك من الحد من تدخل الآباء، والتدريب الجيد على تقنيات البحث في الإنترنيت، كاستخدام محركات البحث، والدخول إلى المكتبات العالمية والمصادر البحثية الملائمة وغيرها.. آنذاك يمكن القول أننا أمام ثورة جادة ستحررنا من أساليب التدريس القديمة.
- التصنيف: