صنايعي بحث أم مفكر؟!: عباس العقاد وعزمي بشارة نموذجًا
المقصود هو الوصول لمقولة نظرية تصلح لتفسير وفهم كثيرٍ مما يحدث على الساحة، فلا تقف مع الأشخاص ولا تحسب أني جئت فقط من أجل الشجب على هذا أو ذاك
{بسم الله الرحمن الرحيم}
{لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم }
رغمًا عني اضطررت لدراسة مخرجات عباس العقَّاد، فيما يتعلق بالإسلاميات تحديدًا، وأخرجت كتابًا ناقشت فيه أفكار العقاد (طبع في2009)، ورغمًا عني أقرأ لعزمي بشارة ورفاقه، أولئك الذين ارتدوا معه من الاشتراكية إلى الديمقراطية أو الذين صاحبهم بعد ردتهم من الديمقراطيين؛ وحين أعيد النظر في شخص عباس وعزمي يثور سؤال ولا يهدأ: أحقًا كلاهما مفكر؟!، عبقري يصنع الحدث؟!
ومع أنني أنطلق من حالة دراسة (عباس وعزمي) إلا أن المقصود هو الوصول لمقولة نظرية تصلح لتفسير وفهم كثيرٍ مما يحدث على الساحة، فلا تقف مع الأشخاص ولا تحسب أني جئت فقط من أجل الشجب على هذا أو ذاك.. جئت لتوضيح نمط سائد.. للدلالة على جسر يعبر عليه عدونا لحصوننا الفكرية.
ظلَّ عباسُ العقَّاد يبحث عن الزعامة والنفوذ السياسي حتى انقضت خمسون عامًا من عمره، وبعد عقود من مناطحة الأقران والفرقاء انهدَّ عزمه وخرج من ساحة السياسة مهزومًا يفكر جديًا-كما يقول هو- في الانتحار. ثم اتجه إلى ما هو رائج في زمانه، وهو الكتابة في الإسلاميات والمحافظة على الحضور في الصحافة، وسبقه- من خِلَّانه وأقرانه- طه حسين ومحمد حسين هيكل وآخرون. ولأن عباس كان يتمحور حول ذاته، ودائمًا ما يبحث عن غريب ينفرد به عن أقرانه، ولأنه صنعي بحث وليس مبدعًا ينتج الجديد والفريد من الأفكار ولا نصف مبدعٍ يطور ما أبدعه غيره، استورد فكرةً غريبةً وراح يطبقها في ساحتنا. استورد العبقريات من "جيبل"، فعل ما فعله عامة أقرانه(النقل عن الغرب). نقل فكرة العبقريات، تلك التي تقول بأن التاريخ يصنعه نوعية معينة من الأفراد (العباقرة)، وقدم قراءة للشريعة الإسلامية من خلال منظور (العبقرية) المستودر هذا، يقول: أن الذي صنع الإسلام وكَتَبَ تاريخه أفراد (عباقرة): محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، وعمر وأبو بكر وعلي وخالد، رضي الله عنهم أجمعين، وأن الذي صنع حاضر الهند هو نبيهم "غاندي"، وأن الذي يصنع الواقع في كل زمان ومكان هم أفراد.. عباقرة. وفي كل عبقري يسند ما أظهره الله على يديه لذات العبقري وبيئتة التي نشأ فيها، وقد تداخلتُ مطولًا مع هذه الفكرة في كتابي عن العقاد، والمقصود هنا أن عباس لم يكن مفكرًا بل كان صنايعي بحث، أخذ فكرةً من غيره وطبقها، وللأسف فكرة ضارة تضاد الشريعة وتعيد قراءتها في سياق نفي الوحي وجعلها كلها أرضية من صنع البشر (العباقرة)، وليست سماوية بوحي من الله؛ فعندنا.. في كتاب ربنا أن الوحي هو الذي صاغ محمدًا، صلى الله عليه وسلم، {قُل لَّوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا تَلَوۡتُهُۥ عَلَيۡكُمۡ وَلَآ أَدۡرَىٰكُم بِهِۦۖ فَقَدۡ لَبِثۡتُ فِيكُمۡ عُمُرًا مِّن قَبۡلِهِۦٓۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} ، {قُلۡ مَا كُنتُ بِدۡعا مِّنَ ٱلرُّسُلِ وَمَآ أَدۡرِي مَا يُفۡعَلُ بِي وَلَا بِكُمۡۖ إِنۡ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّ وَمَآ أَنَا۠ إِلَّا نَذِير مُّبِين} . والذي أفهمه أن الناس فريقان، فريق يتبع الرسل وفريق يتبع الشيطان، والتاريخ صراع بين الفريقين. يتدافعون. كل يريد أن تحضر قيمُهُ واقعًا في حياة الناس.
وعزمي بشارة مثلُ عباس العقاد؛ صنايعي بحث وليس مفكرًا. استورد عددًا من الأفكار يكمل بها مسيرة النصارى في الثقافة الإسلامية المعاصرة. وأهم معالم الفعل النصراني في الثقافة الإسلامية المعاصرة هو: محاولة التأسيس لقاعدة معرفية بحثية تتكئ عليها المعرفة الإسلامية العربية الحديثة، وكذا محاولة السيطرة على الأدوات المعرفية، وخاصة التي تخاطب الجماهير وتؤثر فيهم بشكل مباشر. بمعنى أنهم تحركوا على محورين: محور تكوين عقل النخبة ومحور تكوين عقل الجماهير. ونخبتهم تفهم هذا جيدًا وتمسك به. وبدؤوا بكتابة القواميس وتأسيس الصحف.
وحين تصعد إلى أعلى وتحاول الحصول على صورة أكبر تبين لك السياق الذي يتحرك فيه النصارى تجد أنهم وكلاء للغرب في نقل ثقافته إلينا. عملوا كسماسرة أفكار للغرب، وظهروا في مجال الأدب (المدارس الأدبية الحديثة) وفي الصحافة (الصحف التي أسست في القرن التاسع عشر في مصر والشام)، وغيرهما؛ وقد تتبعت فعلهم في بحث مطول بعنوان (تفعيل المنافقين انتهيت منه في 2009 ولم ينشر للآن)، والمقصود أن عزمي بشارة يُكمل المشروع النصراني، يحاول تأسيس نخبة سياسية معاصرة ويحاول التأثير على الجماهير من خلال منصات إعلامية عابرة للقوميات. ويعنيني هنا بيان أنه صنايعي بحث.. مروج أفكار وليس مفكرًا. ولأن المقام مقال أكتفي بضرب مثالٍ واحد بأهم ما يدندن حوله عزمي ومركزه وهو الطائفية.
بدأ برنارد لويس حديثًا عن التعامل مع المنطقة العربية على أنها منطقة لشعوب همجية لا تصلح لأن تكون دولًا، وطالب الغرب بأن يتعامل مع الشعوب الإسلامية على أنها مجموعات من الملل والطوائف والمذاهب والإثنيات. وبرنارد يطور شيئًا بدأه المحتل الغربي في القرن التاسع عشر وهو الاعتماد على الأقليات كوسيط مع المجتمعات المسلمة في شتى المجالات؛ فقد مدَّ المحتل يدًا للأقليات واستخدمهم في توطيد نفوذه؛ وشكلت فكرة برنارد هذه إطارًا نظريًا للفاعل السياسي الغربي فأقبل على مزيدٍ من دعم الطائفية في مرحلة ما بعد الحرب الثانية (ما بعد الكولونيالية)، ثم اشتد هذا الدعم بعد انتهاء الحرب الباردة، واستخدمت الأقليات في صناعة الفوضى الخلاقة، بهدف هدم المجتمعات القائمة لإعادة بنائها من جديد.
ركب عزمي بمن جمَّعهم فكرة الطائفية (وأفكار أخرى، مثل كون الحركات الإسلامية إفراز للحداثة ولكني أضرب مثلًا)، وراح يبدي قليلًا ويخفي كثيرًا كعادة قومه، يحذر من الطائفية ويدعو للدخول في الديمقراطية، ما يسميه "التحول الديمقراطي"؛ ما الذي يبديه وما الذي يخفيه عزمي؟!
يحذر من الطائفية والمذهبية، وأنها كانت سببًا في تفتيت الأمة العربية، وأنها ظهرت مع المحتل، وإلى هنا والكلام جيد إلا أنه يقدم حلًا غير عقلاني، وهو الهروب إلى الديمقراطية، مع أنه يعي جيدًا أن الدول التي تمثل النموذج للديمقراطية(غرب أوروبا والولايات المتحدة) هي التي أخرجت الطائفية وتستعملها من أجل تخريب العمران في الدول الإسلامية لإعادة البناء مرة ثانية. بمعنى أنه يدفعنا معهم للخروج من هويتنا الإسلامية والعربية على أمل أن نكون ديمقراطيين كالغربيين، وهو يعلم أن هذا لن يكون وأن الأمر لن يزيد على الخروج من هويتنا الإسلامية والعربية والوقوف وسطًا لا إلى غربٍ ولا إلى شرق، في نموذج جديد (هوية جديدة) لا هي إسلامية ولا هي غربية ولا هي شرقية، بمعنى مشروع صناعة هوية جديدة للمجتمعات العربية، وكثيرًا ما يردد عزمي أن الهوية تصنع.. وهو ما يحاول فعله: المشاركة في صناعة هوية جديدة للمجتمعات المسلمة.
يبقى شيء، وهو ماكتبت لأجله، ويتعلق بأهمية الصنايعية في الفعل، بدرجة تفوق المفكرين أحيانًا. وخاصة في نموذجنا الحضاري. فنحن لا نحتاج بشكلٍ ملح مَن ينتج مادة خامة ننطلق منها فعندنا كتاب ربنا وسنة نبينا ونموذجًا تطبيقيًا مثاليًا (الرسول، صلى الله عليه وسلم، وصحابته، رضوان الله عليهم)، وطبيعة النموذج الإسلامي تحتاج فقهاء يفهمون النص وتطبيقه الأول ويأخذون منه ما يناسب واقعنا المعاصر، وتحتاج دعاة يدعون الناس لصراط الله المستقيم. المساحة التي يعمل فيها الصنايعي، أو الداعية، أكثر تأثيرًا من تلك التي يقبع فيها "مفكر". والسؤال: لماذا يقل المفكرون والصنايعية؟!
لأن الأمر يحتاج لإعداد عميق وطويل، فكم تعلم عزمي وكم خاض من تجارب، وكذا عباس، والحالة الصحوية تقيس الفرد باعتراضه على السائد وانتشاره جماهيريًا لا بما يحسن حقيقةً، ولذا تأتي الفرصة مرة بعد مرة ولا نستفيد منها. إن صناعة فرد نخبوي متخصص هو واجب المرحلة.
محمد جلال القصاص
شعبان 1441هـ
مارس 2020
- التصنيف: