معركة النفْس قبل معركة السيف
وبعد آيات التربية والسلوك وخطاب النفوس، وصهرها بالموعظة البالغة، تأتي آيات الحكمة، وبيان سنن الله في الأنفس والآفاق، لكي تبرد تلك النفوس بعد انصهارها، وتتشكل وتتقولب وفق الصورة اللائقة بالمؤمنين!
كتب الأستاذ هاني مراد
يلحظ المتتبع للسرد القرآني لمعركة أحد، معركة نفْس، يتسع مجالها عن مجال معركة السيف. فإذا كانت معركة السيف معركة العصبة المؤمنة من الصحابة الكرام، فإنّ معركة النفْس معركة المؤمنين في كل حين.
وتلوح معركة النفْس مع أول آية في سرد المعركة: " {والله سميع عليم} ." فهو تعالى سميع عليم بهمس النفوس. ثم يهزّ السياق النفوس هزّا، ويفاجئها بما لم تتحسب له، وبعلمه تعالى بمجرّد الهمّ الذي خالط ضمائرها، وبخبيئة مكنونها: "إذ همّت طائفتان منكم أن تفشلا!" ومن ثمّ، يوجه تعالى نفوس المؤمنين: " {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} ."
ثم يرد التذكير بنصر بدر: " {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة} "، ليحثّ النفوس على النظر إلى الحالين، والتأمّل في المآلين. ويأتي التقرير القاطع في تلك اللحظات الملتهبة التي شهدت المصيبة واستشهاد سبعين، ليطبع هذه النفوس، بهذه الحقيقة الثابتة: " {وما النصر إلا من عند الله} "، حتى تظلّ منطبعة وراسخة في هذه النفوس، فلا تنساها أبدا!
وهدف النصر ليس مغنمه أو زهوته، ولكن " {ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم} "، لأنه "ليس لك من الأمر شيء"، ولأنه سبحانه " {يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} ." فنتيجة المعركة، والنصر أو الهزيمة، له وحده.
ثم تتوالى آيات مهيبة؛ تقود معركة رعيبة، مجالها تربية النفْس وتقويم السلوك، وكأنّها مطارق تقرع النفوس الملتهبة من لهيب المعركة واتقادها وجراحها وقتلاها، لكي تصوغ هذه النفوس المثخنة لتوّها: فتنهى عن الربا، وتحثّ على الطاعة، واتقاء النار، والمسارعة للمغفرة، والإنفاق، وكظم الغيظ، والعفو، وذكر الله، والاستغفار.
وبعد آيات التربية والسلوك وخطاب النفوس، وصهرها بالموعظة البالغة، تأتي آيات الحكمة، وبيان سنن الله في الأنفس والآفاق، لكي تبرد تلك النفوس بعد انصهارها، وتتشكل وتتقولب وفق الصورة اللائقة بالمؤمنين!
- التصنيف: