من وحي الجائحة

منذ 2020-05-04

فمن دروس الحياة، أن الأوهام مهما أرقت الإنسان و قضّت مضجعه وأزعجته، فستتلاشى حتما متى زاحمها اليقين الإيماني بالله تعالى

ضمد أحزانك بالثقة في الله.
حين تثق في الله جلَّ جلاله فأدرك أنه لن يعاملكَ إلا برحمته، ولن يبسط لكَ في دنياك إلا ما فيه خيرك و فلاحك..
انظر في البيان الإلهي و أثر الثقة بالله في زمرة من الناس، حين قالوا: { وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا ۚ وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَا آذَيْتُمُونَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}[إبراهيم/12] .
إنها ثقة لا يشوبها شك... و طمأنينة لا يخالطها قلقَ...
فمن أين أتتهم هذه الثقة في الله عز وجل ؟
أتتهم من مصدر أوحد لا ثاني له، جاءتهم من عميق الإيمان بخالقهم، و الثقة في قدرته وتصرفاته جل جلاله....
فلم الأحزان - إذن -، و لم القلق...؟ وضماد جراح الإبتلاءات كامن في الثقة في الحكمة الربانية، و دواء الشدائد مبثوث في الوثوق بالتدبير الإلهي.....
( {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} )، [التين/8] .
( {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ۖ  } )، [الزمر/36] .
( { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } )، [البقرة/185] .
إن إيمان العبد بربه يجعله دائم الرضى بما قضى الله له، مستسلم لما قدر عليه، مدرك أنه لا يجري سبحانه هذه الأسقام و الأوبئة عبثا...، لذا فالمؤمن لا ينكسر أمام الأحزان و لا يضعف أمام القلق والأوهام، و لا يعني ذلك بأية حال أنه يتواكل في مدافعة قَدَر البلاء و الأسقام بقَدَر التعافي و السلامة..
دنياك مهما كانت تظل ناقصة !!!..
الدنيا ظل زائل، و متاع باطل...
يقول سبحانه:
( { الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا"} )، [الكهف/46] .
( { إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} )، [غافر/39] .
( {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا } )، الكهف/45.
لكن لماذا ينزع الإنسان إلى شهوات الدنيا و لذائذها....، رغم هذه القوارع القرآنية !!!؟
و لم يظل مشدودا إلى بريقها و متعها...!!!؟، مع أن " محب الدنيا لا ينفك من ثلاث: همّ لازم، وتعب دائم، وحسرة لا تنقضي ". إغاثة اللهفان/ إبن القيم،
و مهما عَظُم متاع الدنيا فعاقبته حزن لا محالة، إما بذهابه عن المرء وإما بذهاب المرء عنه، إلا العمل لله جل جلاله.
فهل من عُقار لداء التعلق بالدنيا ؟ هل هناك علاج يضعف الدنيا في عقل الإنسان و قلبه حتى يراها فعلا كما صورها الله سبحانه وتعالى ؟.
الجواب هو أن ما من سبيل يفضي إلى تعريف الذات بضعفها وعجزها، لا شك أنه سيحفظ هذا القلب من التعلق بأستار الدنيا، و يقيه من الولع بمفاتنها....، و ما الوباء الذي يطوقنا اليوم إلا واحدا من السبل التي تنبه الإنسان إلى هذه الحقيقة.
إن الأسقام و الأوبئة التي تقعد في طريق الإنسانية، ماهي إلا نافذة نطل منه خلالها على النهاية التي تنتظرنا، و فجوة نبصر عبرها الموت الذي يتربص بنا...
ومهما صور القرآن و حديث النبوة و كلام المذكرين تفاهة الدنيا، و مادام الإنسان يقابل ذلك بالمزيد من الإعراض، فلا بد أن يظل مشدوداً إلى الدنيا بكل ما فيها...
لكن متى نظر ابن آدم ببصيرته إلى الموت الذي ينتظره ويتربص به، و رأى تجسيد ذلك في الذين سبقوه، فإنه يحوز بذلك الترياق الذي يجعله يستصغر الدنيا وينظر إليها وهي فعلا تافهة كما بين سبحانه وتعالى.
لقد أبانت جائحة كورونا عن حقيقة هذه الدنيا التي تهافت الناس عليها وتنافسوا وتصارعوا من أجلها - و لا زالوا - وَأُشْرِبت نفوسهم حبها والركون إليها، و انتشرت إثر ذلك الأمراض القلبية من حسد، وحقد، و كذب، وبغضاء، وشحناء....
و مع كل ذلك، فالدنيا مهما ازينت و أبرقت في أعيننا ستظل ناقصة و تافهة ما دامت الأوبئة و الرزيا تتربص بنا، و ما بقي الموت فيها ينتظرنا....!!!
( { يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ}  )، [غافر/3] 9.
              ادفع الأوهام بالضراعة إلى الله.
ثمة أفكار مقلقة و أوهام تقض المضاجع، غدت معها أيام الحجر الصحي - عند البعض - عذابا و جحيما...
فالخوف المرضي من و قوع نقمة أو زوال نعمة في القادم من الأيام قد يفضى إلى اضطراب نفسي و قلق عصبي، و يمكن وسم هذا الحالة المرضية ب " فوبيا المستقبل ".
و لقد وجدت رياح أخبار الوباء و أرقام ضحاياه فرصة لبعثرت نمط العيش لبعض الناس، و زيادة في الأوهام و تضخيما للوساوس عند نفر آخر يعاني ابتداء من مشاكل نفسية و اجتماعية.
و مما لاشك فيه أن المرء إذا سلم رقبته لأوهام و وساوس الإفلاس و الفشل و الموت و الفقر....!!! مات غما و هماً، و إذا تحرر منها نال سكينة و أمنا..
فمن دروس الحياة، أن الأوهام مهما أرقت الإنسان و قضّت مضجعه وأزعجته، فستتلاشى حتما متى زاحمها اليقين الإيماني بالله تعالى...، لكن إذا وجدت فقرا روحيا تكاثرت وازدادت إلى أن ترمي به بين مخالب الضياع...، و إن الأقدار مهما قست عليه - في ما يبدو - فلن يجد أبر به و أحنى عليه من خالقه جل جلاله. فلم تحبطنا الأوهام - إذن - ؟ و ربنا يقول: هو علي هيّن. 
لقد ورد في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " «ما أنزل الله داءً إلى وأنزل لهُ دواءً إلا السام أي الموت» "، 
 فكذلكم الأدواء السلوكية و النفسية..
فما من بلية يبتلي الله سبحانه وتعالى بها عبداً له إلا وإلى جانبها الدواء الذي ينجيه من وقعها الأليم..
فما هو عُقار هذه الأوهام و الظنون التي تكبل اليوم العديد من المحجورين ؟
اللجوء إلى الله عز وجل بالدعاء هو العُقار.
إنه العلاج الأول الذي يقي الإنسان من شرور الأسقام النفسية ونتائجها. لكن الإنسانية اليوم إلا من رحم الله وقليل ما هم في شغل شاغل عن استعمال هذا الدواء.
لقد شاء حكمة الله أن يخلق الإنسان ضعيفا بقدرات و إمكانات محدودة، في المقابل نجد ألوانا من البلايا و الرزايا و الأمراض تطوف به مدى حياته، فإذا ركن الإنسان إلى ذاته في مواجهتها شعر بالتخاذل و الخيبة لا محالة، لكن إذا انقدحت في فؤاده مشاعر الحاجة إلى ربه، و شعر بأنه بأمس الحاجة أن يمد يده بالضراعة إليه، آنداك يكون قد فقه المقصد من تسلط الأمراض و الأوهام و الوساوس عليه، و أدرك الأسرار الكامنة في الأمر بالفرار إلى سيده و مولاه ..يقول الله جل جلاله ( { فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} )، [الذاريات/50] .

بنداود رضواني

حاصل على شهادة الدكتوراة في الفكر الإسلامي ومقارنة الأديان

  • 13
  • 0
  • 5,801

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً