من أبجدية السعادة الزوجية - راقب

منذ 2020-07-14

وتَقوَى اللهِ خــــــــــــــيرُ الزادِ ذُخْرًا ...  وعندَ اللهِ للأتقى مَزِيــــــــدُ

من أبجدية السعادة الزوجية – راقب

      المسؤولية تكليف وليست تشرف، والمسؤولية توجب المتابعة والعناية والاهتمام، والمراقبة لون من ألوان التربية، ودليل على تحمل المسؤولية، ولا تؤتي الشجرة ثمارها، ولا تدر التجارة ربحها، إلا إذا تفقدها صاحبها، وأولاها عناية ورعاية، أما من لا يرعَ غرسه، ولم يتفقد نبتته فلا شك أنه إما أن تكون خسارته جسيمة، أو أن تهلك وتزول.

    ولا يمكن أن يترك الراعي اليقظ غنماته للذئب، ولا أن يتركهم إلى العراء في الليلة المطيرة الشاتية، بل يتفقد أحوالهم، ويتعهد شؤونهم، ويراقب حركاتهم وسكناتهم، ورب العزة يلفت انتباهنا إلى ذلك بقوله: " {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} " المؤمنون: 115 قال فيها ابن كثير في تفسيره: أي: أفظننتم أنكم مخلوقون عبثًا بلا قصد ولا إرادة منكم ولا حكمة لنا، "وأنكم إلينا لا ترجعون" أي : لا تعودون في الدار الآخرة ، كما قال: " يحسب الإنسان أن يترك سدى " القيامة : 36 ، يعني هملاً .

     وكذلك الوالدان .... من أسس مسؤوليتهم متابعة أبنائهم ومراقبتهم، ورعاية شؤونهم وأحوالهم، وتفقد تصرفاتهم وأفعالهم، ولا يعني ذلك وقوفهم -أي محاسبتهم- على ما دقَّ منها أو صغر، وإنما هي لتقويم ما ساء من أخلاقهم، وتجويد ما حَسُن منها، ولا يكون ذلك إلا بدوام رصد أفعالهم والوقوف عليه، ولعل هذا من تعنيه كلمة المراقبة، ، والإشارة في ذلك إلى قول الله -تعالى-: " إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا " النساء: 1 ويعني بقوله: "رقيبًا"(حفيظًا، مُحصيًا عليكم أعمالكم، متفقدًا رعايتكم حرمةَ أرحامكم وصلتكم إياها، وقطعكموها وتضييعكم حرمتها ....)  

    وأعني بالمراقبة هنا أمرين: الأول: تفقدهم ورعايتهم، والوقوف على أفعالهم وتصرفاتهم، وهذه أساس مهم من أسس التربية والرعاية، فالإنسان جُبِل على التفلُّت وعدم الانضباط، وهو في حاجة مستمرة إلى من يتابعه ويراقبه، فوجب على الوالدين مراقبة أبنائهم ومتابعتهم في عصر مليء بالتحديات والمغريات، وأبواب من الشر كثيرة، يسهل على من غشيته الغلفة أن يلجها ... والوصول إلى الحرام والانفلات الأخلاقي أصبح في هذا الزمان أيسر من غيره، والوسائل المفضية إليه كثيرة متنوعة، ومع ما في هذا الزمان من تقدم في مجالات شتى – إلا أن منظومة القيم أمست غير قادرة على ضبط السلوك والأخلاق، فما يتحدث عنه الخطيب في مسجده، وما يؤسس له المعلم في مدرسته، وما يغرس الأبوان في أبنائهما قد ينهار أمام صورة أو مقطع فيديو أو لعبة إلكترونية أو برنامج تليفزيوني ..... ولعل هذا ما عناه الشاعر بقوله:

متى يبلغُ البنيانُ يوماً تمامَهُ...... إذا كنتَ تبنيه وغيـرُكَ يَهدم

     ولا يعني هذا التخــــــلي عن المسؤولية والأمانة، لا ... ولا التفريط فيها بل مزيدًا منها، فنبي الله سليمان- عليه السلام - لم يمنعه عظيم ملكه وحكمه، وجليل قدره ونبوته، لم يمنعه ذلك من تفقد أحد أفراد مملكته ومراقبة حضوره، قال تعالى: " {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} " [النمل:20] قال ابن كثير في تفسير الآية: (قال محمد بن إسحاق: كان سليمان عليه السلام إذا غدا إلى مجلسه الذي كان يجلس فيه تفقد الطير، وكان فيما يزعمون يأتيه نوب من كل صنف من الطير كل يوم طائر، فنظر فرأى من أصناف الطير كلها من حضره إلا الهدهد" فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين" أخطأه بصري من الطير أم غاب فلم يحضر؟ وقوله:" لأعذبنه عذابًا شديدًا" قال ابن عباس يعني نتف ريشه، وكذا قال غير واحد من السلف إنه نتف ريشه وتركه ملقى يأكله الذر والنمل، وقوله: "أو لأذبحنه" يعني قتله" أو ليأتيني بسلطان مبين" بعذر بين واضح، وقال سفيان بن عيينة: لما أقدم الهدهد قالت له الطير: ما خلفك فقد نذر سليمان دمك، فقال: هل استثنى؟ قالوا: نعم، قال: "لأعذبنه عذابا شديدًا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين" قال: نجوت إذًا.

    فأمَّا أن ينام الأب والأم ملء أعينهما، ويرتاحا ويهنآ بحياتهما ويتركا أبناءهما إلى غيرهم يبثون فيهم من السموم في أخلاقهم ودينهم ومعتقداتهم، وهما عن ذلك في لهو وغفلة فتلك الطامة الكبرى، ونحن في عصر السماوات المفتوحة والقنوات الفضائية والشبكة العنكبوتية والعديد من المواقع الإباحية حيث لا يألو أعداء الإنسانية جهدًا في نشر كل رذيلة، وإشاعة كل فاحشة.

      أما الأمر الثاني فهو: غرس خوف الله وتقواه في نفوس الأبناء، ومراقبته– جل وعلا- في السر والعلن، واليقين بأنه – سبحانه - مطلع على ما يعمل الإنسان، بل وما يجول بخاطره ولم ينطق به لسانه أو تتحرك به شفتاه بعد، ولذلك كان من أول ما حرص عليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في تربية النشء هو تربيتهم على مراقبة الله، روى الترمذي في سننه عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: كنتُ خلفَ رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- يومًا قال: " «يا غلامُ ، إني أعلِّمُك كلماتٍ : احفَظِ اللهَ يحفَظْك ، احفَظِ اللهَ تجِدْه تُجاهَك ، إذا سألتَ فاسألِ اللهَ ، وإذا استعنْتَ فاستعِنْ باللهِ ، واعلمْ أنَّ الأمةَ لو اجتمعتْ على أن ينفعوك بشيءٍ ، لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه اللهُ لك، وإنِ اجتمعوا على أن يضُرُّوك بشيءٍ لم يضُروك إلا بشيءٍ قد كتبه اللهُ عليك، رُفِعَتِ الأقلامُ وجَفَّتِ الصُّحُفَ» ".

    وحَدِّثْ عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- ولا حرج في المراقبة الحثيثة والمتابعة الدقيقة، فقد كان شديد المراقبة والمتابعة لتصرفات أولاده وأزواجه وأقاربه، وهذان موقفان اثنان من سيرته -رضي الله عنه- قليل من كثير قد يعينان على تربية النفس والأهل، فقد قدم على عمر مسك وعنبر من البحرين فقال عمر: والله لوددت أني وجدت امرأة حسنة الوزن تزن لي هذا الطيب حتى أقسمه بين المسلمين، فقالت له امرأته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل: أنا جيدة الوزن فهَلُمَّ أزن لك. قال: لا. قالت: لم؟ قال: إني أخشى أن تأخذيه فتجعليه هكذا -وأدخل أصابعه في صدغيه- وتمسحي به عنقك فأصيب فضلًا على المسلمين.

     وهذا موقف آخر مع أحد أبنائه يدل على شديد حرصه في متابعتهم وتفقد أحوالهم، قال معيقيب: أرسل إليّ عمر مع الظهيرة، فإذا هو في بيت يطالب ابنه عاصمًا... فقال لي: أتدري ما صنع هذا؟ إنه انطلق إلى العراق أخبرهم أنه ابن أمير المؤمنين، فانتفقهم (سألهم النفقة) فأعطوه آنية وفضة ومتاعًا، وسيفًا محلى، فقال عاصم: ما فعلت، إنما قدمت على أناس من قومي، فأعطوني هذا. فقال عمر: خذه يا معيقيب، فاجعله في بيت المال.

    لا شك أن هذه الصور وأمثالها، وهذه المواقف وأقرانها تدلل على ضرورة المراقبة الذاتية للوالدين- أولاً – لأفعالهم وخوفهم من الله سبحانه وتعالى، وحرصهم على فعل الجميل وترك القبيح، فإن تأصلت هذه المعاني في نفوسكم تأصلت في نفوس أبنائكم، فراقبوا الله في أفعالكم وأفعالهم، وخافوا منه سرًا وعلانية، ومن خاف الله -تعالى- ألقى في قلبه محبته ورضاه، فاجتنب بذلك كل معصية والتزم كل فضيلة، فكتب له السعادة والطمأنينة، وانعكس ذلك على استقرار الأسرة وطمأنينتها، فعاشت سعيدة هانئة، ولله دَّر النابغة الشيباني حين قال:

ولستُ أرى السعادةَ جمْعَ مال ... ولكنَّ التقي هُوَ السعيدُ

      وتَقوَى اللهِ خــــــــــــــيرُ الزادِ ذُخْرًا ...  وعندَ اللهِ للأتقى مَزِيــــــــدُ

    رزقنا الله وإياكم الخشية منه، والقرب إليه، والتعلُّق به، والسعادة في معيته، وصلِّ اللهم وسلم وبارك على محمد وآله وأصحابه.


 


 

 

 

  • 11
  • 0
  • 3,641
المقال السابق
ذَكَّرْهم بالله وبذِكره
المقال التالي
"ثبت دعائم بيتك"

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً